التخلص من تجارة التبغ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فقد صدرت فتوى مجمع الفقه الإسلامي بالسودان قبل سنوات مبيِّنة حرمة الاتجار في التبغ وأن المال الناتج منه يأكله صاحبه سحتاً؛ استدلالاً بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أن الله تعالى إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه، وأنه لا يجوز الاتجار فيما كان محرماً؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من لعنه اليهود حين قال “قاتل الله اليهود لما حرم الله عليهم شحوم الميتة جملوه، ثم باعوه وأكلوا ثمنه” والمكتسب مالاً من الاتجار في التبغ أو السعوط لا يخلو من حالين:
أولاهما: أن يعتقد حل هذه الاشياء وجواز الاتجار فيها؛ وهذا حال كثير من الناس ممن راج بينهم أن التبغ والسعوط مكروهان لا محرمان، حتى غدا هذا القول مسلماً به عند كثيرين منهم ولربما ظنوا أن القول بالتحريم مسلك طائفة من الفقهاء المتشددين؛ ومن كان كذلك فإنه يملك ما قبضه من الاتجار في تلك المواد إذا كان يجهل التحريم؛ بخلاف ما لم يقبضه فلا يثبت ملكه له؛ استدلالاً بقوله تعالى {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله}. فمن لم يبلغه التحريم فلا إثم عليه، وله ما قبض. قال العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى مقرراً هذا المعنى: ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن الله لا يؤاخذ الإنسان بفعل أمر إلا بعد أن يحرمه عليه، وقد أوضح هذا المعنى في آيات كثيرة؛ فقد قال في الذين كانوا يشربون الخمر، ويأكلون مال الميسر قبل نزول التحريم {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} وقال في الذين كانوا يتزوجون أزواج آبائهم قبل التحريم: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} أي: لكن ما سلف قبل التحريم، فلا جناح عليكم فيه. ونظيره قوله تعالى {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} وقال في الصيد قبل التحريم {عفا الله عما سلف} قَالَ فِي الصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ نَسْخِ اسْتِقْبَالِهِ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أَيْ: صَلَاتَكُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ النَّسْخِ.
وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ لَمَّا اسْتَغْفَرُوا لِقُرَبَائِهِمُ الْمَوْتَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} وَنَدِمُوا عَلَى اسْتِغْفَارِهِمْ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يُضِلُّهُمْ بِفِعْلِ أَمْرٍ إِلَّا بَعْدَ بَيَانِ اتِّقَائِهِ.ا.هـــــ
وقال أبو بكر الجصاص في معنى الآية: {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف} فالمعنى فيه أن من انزجر بعد النهي فله ما سلف من المقبوض قبل نزول تحريم الربا، ولم يرد به ما لم يقبض؛ لأنه قد ذكر في نسق التلاوة حظر ما لم يقبض منه، وإبطاله بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا} فأبطل الله من الربا مالم يكن مقبوضًا، وإن كان معقودا قبل نزول التحريم، ولم يتعقب بالفسخ ما كان منه مقبوضا بقوله تعالى: {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف}. وقد روي ذلك عن السدي وغيره من المفسرين.
وقال تعالى: {وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين}، فأبطل منه ما بقي مما لم يقبض ولم يبطل المقبوض، ثم قال تعالى: {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم}، وهو تأكيد لإبطال مالم يقبض منه، وأخذ رأس المال الذي لا ربا فيه، ولا زيادة.
وروي عن ابن عمر وجابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته يوم حجة الوداع بمكة، وقال جابر بعرفات: ((إن كل ربا في الجاهلية، فهو موضوع. وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبدالمطلب)). فكان فعله صلى الله عليه وسلم مواطئًا لمعنى الآية في إبطال الله تعالى الربا، مالم يكن مقبوضًا، وإمضائه ما كان مقبوضًا)).ا.هــــــ
الحالة الثانية: أن يكون عالماً بالتحريم إما استدلالاً بنفسه وإما بسؤال من يثق به من أهل العلم والدين، لكنه تمادى في غيه حتى تأثل من تلك التجارة مالاً، فهذا الصنف تلزمه التوبة إلى الله تعالى مما كان مع التخلص من هذه المكاسب، فإن كان عنده ما يغنيه سواها من تجارة في أعيان مباحة أو غيرها من أنواع الكسب الحلال فعليه الاكتفاء بها، وإن لم يكن له مصدر آخر جاز له أن يمسك ما تدعو إليه ضرورة حياته وحياة من يعول من زوجة وعيال، قال الإمام أبو بكر الجصاص رحمه الله تعالى: الكاسب في هذه الحال لا يستفيد الملك من كل وجه ككاسب الحلال، إذ لا يمكن أن يستوي الخبيث والطيب. لذلك كان لزامًا على كاسب المحرم في هذا النوع من المكاسب أن يتصرف بالتخلص منه بالتصدق، فهو نوع من الملك الخاص لا المطلق، فإن التخلص نوع تصرف لا يثبت إلا لمن كان له نوع ملك، إذ حقيقة الملك هي التصرف.ا.هـــــــ والدليل على ذلك ما رواه الشيخان من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا من الأزد. يقال له: ابن الأتبية على الصدقة. فلما قدم قال: هذا لكم، وهذا أهدي لي. قال: “فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر يهدى له أم لا” قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: فالنبي صلى الله عليه وسلم – لم يردها على من أهداها بل جعلها في بيت المال.ا.هـــــ
وقال الإمام أبو زكريا النووي رحمه الله تعالى فيما نقله عن كلام الغزالي في التصرف في الكسب الحرام: ((وله أن يتصدق به على نفسه وعياله إذا كان فقيرًا؛ لأن عياله إذا كانوا فقراء، فالوصف موجود فيهم, بل هم أولى من يتصدق عليه, وله هو أن يأخذ منه قدر حاجته لأنه أيضا فقير. قال النووي: وهذا الذي قاله الغزالي في هذا الفرع ذكره آخرون من الأصحاب, وهو كما قالوه.ا.هــــ
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: ((وتمام التوبة بالصدقة به. فإن كان محتاجًا إليه فله أن يأخذ قدر حاجته، ويتصدق بالباقي. فهذا حكم كل كسب خبيث لخبث عوضه عينًا كان أو منفعة.ا.هــــــــــــــ وقال شيخه أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى: فإن تابت هذه البغي، وهذا الخمار، وكانوا فقراء جاز أن يصرف إليهم من هذا المال مقدار حاجتهم. فإن كان يقدر أن يتجر أو يعمل صنعة كالنسيج والغزل أعطي ما يكون له رأس مال. وإن اقترضوا منه شيئًا؛ ليكتسبوا به، ولم يردوا عوض القرض كان أحسن، وأما إذا تصدق به لاعتقاده أنه يحل له أن يتصدق به فهذا يثاب على ذلك.ا.هـــــــــــــــــــــــــــــــ