المعاملات المالية

استخدام الهاتف الحكومي في الإتصالات الخاصة

السؤال: شخص عمل موظفاً في المملكة العربية السعودية في إحدى الدوائر الحكومية، وكان يستعمل جهاز التلفون في محادثاته الخاصة؛ فما هو حكم ذلك شرعاً؟ وقد حضر إلى السودان نهائيا.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.

يقصد بالمال العام كل مال لا مالك له على التعيين، بل نفعه يعود إلى مجموع الأمة من الرعاة والرعية، سواء تلك التي وُجدت بخلق الله تعالى دون تدخل من البشر، كالمعادن والنفط والأحجار والماء والكلأ والنار[1]، أو تلك التي أُقيمت بتصرُّفٍ من الناس لكن نفعها عام، كالمساجد والمدارس والطرقات والأنهار والأوقاف الخيرية، ونحوها من المنافع العامة، ومثلها المباني والسيارات والمكاتب والأوراق والأدوات الكهربائية وأجهزة الهاتف والحاسب الآلي، وغير ذلك من فيء وغنيمة وجزية وخراج. وعرَّفه بعضهم بقوله: هو المال المرصد للنفع العام دون أن يكون مملوكاً لشخص معين[2]

والأصل حرمة استخدام المال العام في شأن خاص؛ لقول الله تعالى )وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون( قال ابن عباس وعكرمة وابن جبير: نزلت بسبب قطيفة حمراء فُقدت في المغانم يوم بدر، فقال بعض من كان مع النبي r لعل أن يكون النبي r قد أخذها؛ فنزلت الآية([3]). فالنفي هنا لإمكان وقوع الفعل وليس لحله أو جوازه، فهنا يأتي السياق بحكم عام ينفي عن الأنبياء عامة إمكان أن يغلوا([4]). (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة)، قال القرطبي: “يأتي به حاملاً له على ظهره ورقبته، معذَّباً بحمله وثقله، مرعوباً بصوته، وموبَّخاً بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد”([5])، وإذا كانت الآية نازلة في سبب خاص يتعلق بحادثة معينة زمان النبي r فإنها تعم كل غلول، وكل اعتداء على المال العام، وكل إساءة للتصرف فيه، وكل خيانة؛ لما تقرر عند أهل الأصول من أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب([6]).

وثبتت الأحاديث عن رسول الله r في التحذير من التخوض في مال الله والتساهل في الاعتداء عليه، ومن ذلك:

(1) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله r: ((ردوا الخياط والمخيط([7])؛ فإن الغلول عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة))([8]).

(2) عن عدي بن عميرة الكندي t قال: قال رسول الله r: ((من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطاً فما فوقه فهو غلول يأتي به يوم القيامة))، فقام رجل من الأنصار أسود، كأني أنظر إليه، فقال: “يا رسول الله، اقبل عني عملك”، قال: ((وما ذاك؟))، قال سمعتك تقول كذا وكذا، فقال رسول الله r: ((وأنا أقوله الآن: ألا من استعملناه على عمل فليجئ بقليله وكثيره، فما أعطى منه أخذ، وما نهى عنه انتهى))([9]).

(3) عن أبي رافع t قال: كان رسول الله r إذا صلى العصر ربما ذهب إلى بني عبد الأشهل([10]) فيتحدث معهم حتى ينحدر إلى المغرب إذ مر بالبقيع([11]) فقال: ((أُفٍّ لك))، فلزقت في درعي وتأخرت وظننت أنه يريدني، فقال: ((مالك؟))، فقلت: أحدثت حدثاً يا رسول الله؟ قال: ((وما ذاك؟)) قلت: إنك قلت لي كذا. قال: ((لا، ولكن هذا قبر فلان([12]) بعثته ساعياً على آل فلان فغل نمرة،([13]) فدُرِّع الآن مثلها من نار))([14]).

(4) عن معاذ بن جبل t قال: بعثني رسول الله r إلى اليمن فلما سرت، أرسل في أثري فردني، فقال: ((أتدري لم بعثتُ إليك؟ لا تصيبن شيئاً بغير إذني فهو غلول (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة).. لهذا دعوتك فامض لعملك([15]).

(5) عن أبي مسعود الأنصاري t قال: بعثني رسول الله r ساعياً ثم قال: ((انطلق أبا مسعود، ولا ألفينك يوم القيامة تأتي على ظهرك بعير من إبل الصدقة له رغاء قد غللته))([16]).

ويحمد للسائل – وفقه الله – احتياطه لدينه وحرصه على اجتناب الشبهات {فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام} وبخصوص سؤاله فإن الظاهر جواز  استعمال الهاتف العام في الشأن الخاص فيما يتعلق بالمكالمات المحلية، وذلك لوجهين:

أولهما: ما جرت به عادة شركات الاتصالات في كثير من البلاد على جعل المكالمات المحلية مجانية لا يترتب عليها رسوم

ثانيهما: أن الجهات الحكومية المسؤولة في شتى البلاد قد انتزعت الصفر من هذه الهواتف، بما يفهم منه السماح بالمكالمات المحلية دون الإقليمية أو العالمية

وعليه فالذي يظهر – والعلم عند الله تعالى – أنه ليس على السائل شيء في استعماله الهاتف الحكومي، لكن بالقيد المذكور أعني المكالمات المحلية دون غيرها، ولو أراد إبراء ذمته وإخلاء ساحته والابتعاد عن مواطن الريب فليتصدق بشيء من ماله كفارة عما كان، والعلم عند الله تعالى

[1] الزحيلي/ الفقه الإسلامي وأدلته 5/521

[2] المفصل في أحكام الربا 4/139

([3]) رواه الترمذي في كتاب التفسير. قال ابن العربي –رحمه الله- وقول من قال: أخذها النبي –إن صح- يحتمل أن يريد بما يجوز له من نفل أو صفي فهذا لا شيء عليه فيه، وإن كان أراد أنه أخذها خيانة فهو كافر، ولا ينطق بهذا إلا كافر أو منافق أ.هـ. انظر عارضة الأحوذي (11/137). قلت: معلوم أنه لم يشهد بدراً إلا مؤمن موحد، وقد عصم الله شهود بدر من أن يكون بينهم منافق، ومعلوم كذلك أنه ما نجم النفاق إلا بعد بدر حين قال ابن سلول: هذا أمر قد توجه. وعليه فإن قول ابن العربي رحمه الله تعالى إنما يُحمل على أن هذه المقالة حصلت بعد رجوع المسلمين من بدر ودخول بعض الناس في الإسلام نفاقاً.

([4]) سيد قطب، في ظلال القرآن (1/498).

([5]) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن (4/264).

([6]) انظر تفصيل القاعدة في: الزركشي – البرهان (1/32)، ابن قدامة – روضة (205)، الغزالي المستصفى (2/60)، الآمدي – الإحكام في أصول الأحكام (2/226)، السبكي – الإبهاج (2/183).

([7]) تنبيه بالأدنى على الأعلى كما في قوله سبحانه وتعالى ]ولا تقل لهما أف[ وكما في قوله -r-: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده) رواه البخاري.

([8]) رواه النسائي في كتاب الهبة برقم 3628

([9]) رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال (247).

([10]) بطن من بطون الأنصار رضي الله عنهم. روى الشيخان من حديث أنس بن مالك أن رسول الله -r- قال: (خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة).

([11]) مقبرة المدينة التي دفن فيها خيار الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة العلم والدين. انظر في ذلك: تاريخ معالم المدينة المنورة قديماً وحديثاً، السيد أحمد ياسين الخياري (247)، سيرة أبي شهبة (1/59).

([12]) فيه دليل على سماع النبي r عذاب أهل القبور: انظر: الروح لابن القيم (75).

([13]) شملة فيها خطوط بيض وسود. اللسان (5/235).

([14]) رواه الإمام أحمد في المسند.

([15]) رواه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما جاء في هدايا الأمراء.

([16]) رواه أبو داود في كتاب الإمارة (11)، وبقية الحديث قال: إذن لا أنطلق. إذن لا أكرهك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى