خطبة الجمعة 1/1/2010 – حقيقة الإيمان
خطبة يوم الجمعة 15/1/1431 الموافق 1/1/2010
1ـ فإن قضية الإيمان هي أم القضايا وأهم المسائل، بل هي لب الدين وأساس الملة التي ينبغي العناية بها، والاهتمام بأمرها؛ فبالإيمان تطيب الحياة، وبالإيمان يقبل العمل، وبالإيمان يستقيم اللسان، وبالإيمان يحصل الأمن؛ من آمن بالله وباليوم الآخر فهو الناجي الموفق، وإن كان في قُل من المال وشظف من العيش، ومن سُلب تلك النعمة فهو على شفا جرف هار يوشك أن ينهار به في نار جهنم؛ مهما كان في سعة من العيش أو رغد من الدنيا؛ مهما رؤي في حاله من استقامة ظاهرة أو صلاح ملحوظ، وقد كان اهتمام نبينا عليه الصلاة والسلام بهذا الأمر بادياً للعيان؛ فكان في كل ليلة إذا قام يصلي يبدأ بهذا الدعاء كما روي ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل دعا فقال: {اللَّهُمَّ لك الحمد؛ أنت قيِّمُ السماوات والأرض ومن فيهن؛ ولك الحمد لك ملك السماوات والأرض ومن فيهن؛ ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن؛ ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق، اللَّهُمَّ لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت} رواه الشيخان. في كل ليلة يؤكد إيمانه بربه، ويعلن إذعانه لسيده ومولاه؛ لأنه صلوات ربي وسلامه عليه يعلم أن الإيمان هو الأساس الذي يبنى عليه العمل، والحارس الذي يمنع من الزلل، وما لا أس له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع، وكان عليه الصلاة والسلام يكثر من الدعاء بالثبات على الإيمان والوفاة عليه والزيادة منه؛ فكان من دعائه {اللَّهُمَّ إني أسألك إيماناً يباشر قلبي، حتى أعلم أنه لا يُصيبني إلا ما كتبت لي، ورضني من المعيشة بما قسمت لي} وكان من دعائه {اللهم إني أسألك إيماناً صادقاً، ويقيناً ليس بعده كفر، ورحمة أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة} وكان من دعائه {اللَّهُمَّ إني أسألك خير المسألة، وخير الدعاء، وخير النجاح، وخير العمل، وخير الثواب، وخير الحياة، وخير الممات، وثبتني، وثقل موازيني، وحقق إيماني، وارفع درجاتي، وتقبل صلاتي، واغفر خطيئتي، وأسألك الدرجات العلى من الجنة} وقد أخبر أن لهذا الإيمان حلاوة؛ فثبت في الصحيحين من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار} رواه الشيخان، وفي حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام {ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولا}
2ـ وقد بلغت العناية من رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان حقيقة الإيمان أن يسلك كل سبيل ليقررها في نفوس الصحابة رضوان الله عليهم وذلك بضرب الأمثال ورواية القصص؛ ليبين لهم شرف التسمي باسم الإيمان؛ فعن الحارث الأشعري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، وإنه كاد أن يبطئ بها؛ فقال عيسى: إن الله أمرك بخمس كلمات لتعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها؛ فإما أن تأمرهم وإما أنا آمرهم؟ فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي أو أعذَّب!! فجمع الناس في بيت المقدس؛ فامتلأ المسجد وتعدَّوا على الشُّرَف؛ فقال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن؛ أولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وإن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بذهب أو ورق؛ فقال: هذه داري وهذا عملي؛ فاعمل وأدِّ إليَّ؛ فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده!! فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله أمركم بالصلاة؛ فإذا صليتم فلا تلتفتوا؛ فإن الله ينصِب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت، وآمركم بالصيام؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صُرَّة فيها مسك فكلهم يَعْجَبُ أو يُعجِبه ريحها، وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وآمركم بالصدقة؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه، وقدَّموه ليضربوا عنقه؛ فقال: أنا أفديه منكم بالقليل والكثير؛ ففدى نفسه منهم. وآمركم أن تذكروا الله؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أَثَره سراعاً؛ حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم؛ كذلك العبد لا يُحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله. قال النبي صلى الله عليه وسلم {وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة؛ فإن من فارق الجماعة قِيدَ شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع، ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من جُثَا[1] جهنم} فقال رجل: يا رسول الله وإن صلى وصام؟ قال {وإن صلى وصام، فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله} رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. قال الشيخ الألباني: صحيح
3ـ يا أيها المسلمون: إن حقيقة الإيمان في حاجة إلى بيان؛ في زمان صار فيه كثير من الناس مفتوناً؛ قد غرهم بالله الغرور؛ يتقحمون المعاصي، ويرتكبون الآثام، يتلبسون بالفسوق ويحتقبون الأوزار، يضيعون الفرائض وينتهكون الحدود، يعطلون الشرع ويأمرون بالمنكر؛ ثم يزعم أحدهم أن ذلك لا يضره ما دام مؤمناً!! فهل الإيمان ـ يا عباد الله ـ دعوى بلا بينة؟ أم الإيمان شقشقة لفظية؟ اللهم لا هذا ولا ذاك، إنه نية وقول وعمل، قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: لقيت أكثر من ألف من العلماء بالأمصار؛ فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.ا.هــــــــــ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: الإيمان المطلق مستلزم للأعمال؛ قال تعالى )إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون( فنفى الإيمان عن غير هؤلاء؛ فمن كان إذا ذُكِّر بالقرآن لا يفعل ما فرضه الله عليه من السجود لم يكن من المؤمنين؛ وسجود الصلوات الخمس فرض باتفاق المسلمين؛ وأما سجود التلاوة ففيه نزاع؛ وقد يحتج بهذه الآية من يوجبه لكن ليس هذا موضع بسط هذه المسألة، فهذه الآية مثل قوله )إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم( وقوله )إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم( وقوله )إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه( ومن ذلك قوله تعالى )عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين# لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين # إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون( وهذه الآية مثل قوله )لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله( وقوله )ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء(
4ـ ومن أدلة السنة على أن إيمان القلب وعمل الجوارح قرينان أحاديث ثابتة عن نبينا صلى الله عليه وسلم منها:
- عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر؛ فنزلنا منزلاً؛ فمنا من يصلح خباءه؛ ومنا من ينتضل؛ ومنا من هو في جشره؛ إذ نادى منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة جامعة. فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال {إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضا وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي!! ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه. فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع؛ فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر} رواه مسلم
- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان} رواه البخاري، وفي لفظ مسلم {بضع وسبعون}
- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار} رواه الترمذي والحاكم. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {الحياء والإيمان قرناء جميعاً؛ فإذا رفع أحدهما رفع الآخر} رواه الحاكم والطبراني في الأوسط
[1] جمع جثوة وهو الشيء المجموع