خطب الجمعة
خطبة الجمعة 10/10/2014 – ابوبكر الصديق 3
خطبة يوم الجمعة 16/10/1435 الموافق 10/10/2014
- الحمد لله ولي من اتقاه، من اعتمد عليه كفاه، ومن لاذ به وقاه. أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم} وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه ومصطفاه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه. أما بعد.
- فقد مضى معنا من السيرة العطرة للصديق أبي بكر رضي الله عنه ما عرفنا منه أنه كان العاصم للأمة من الفتن، والواقي لها لما عظمت المحن، حين مرض رسول الله صلى الله عليه وسـلم، وبعدما توفي حيث بيَّن للمسلمين معالم الدين أحوج ما كانوا إلى البيان، وثبتهم على الصراط المستقيم في وقت تزل فيه الأقدام، وكان رضي الله عنه كالطود الأشم في مواجهة عاديات الزمن وتقلبات الأيام، فما حاد ولا زل، ولا تحير ولا ضل، بل كان هادياً مهدياً راشداً مرشداً، سلماً لأولياء الله حرباً لأعداء الله فرضي الله عنه وأرضاه.
- كان أول ما عمل أن سيَّر جيش أسامة الذي ندبه النبي صلى الله عليه وسـلم فأرهب به الروم والعرب، وحين قال له بعض الصحابة: كيف تبعث جيش أسامة وقد ارتد المرتدون ومنع الزكاة المانعون؟ قال قولته المشهورة: والله لو لعبت الخيل بأرجل أمهات المؤمنين في المدينة ما أخرت جيشاً أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسـلم‼ الله أكبر إنه الوفاء لرسول الله صلى الله عليه وسـلم مع الثقة بنصر الله حين يتابعه ويقتفي أثره
- موقفه حين ارتد المرتدون ومنع الزكاة المانعون؛ وذلك بعدما ارتدت قبائل من العرب وتنبأ الكذابون، وصار المسلمون في المدينة كالغنم الشاتية في الليلة المطيرة، ولو سأل سائل كيف حصل هذا؟ فالجواب أن ناساً كثيرين دخلوا الإسلام لا عن اقتناع به ولا رغبة فيه، بل كان دخولهم إما رهبة وخوفاً من القوة الإسلامية الناشئة أو رغبة في لعاعة من الدنيا، ويتضح ذلك من خلال مراجعة بعض الأرقام، كان فتح مكة سنة (8) من الهجرة، فتح مكة (10.000) مؤمن بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعدها بقليل كانت حنين والطائف، وكانت الغنائم وفيرة جداً، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رءوس القوم، وأعطى عوام الناس، وأعطى وأعطى حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً، ذكر ذلك ربنا عز وجل في كتابه الكريم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}. وبعد فتح مكة بحوالي سنة واحدة فقط كانت غزوة تبوك سنة (9) من الهجرة، وكان جيش المسلمين (30.000) مسلم غير المنافقين الذين تخلفوا عن الغزو، فتضاعف الرقم من سنة (8) هـ إلى (9) هـ ثلاث مرات، وهو تضاعف كبير في هذه الفترة الوجيزة. وأعجب من ذلك في حجة الوداع سنة (10) من الهجرة بعد غزوة تبوك بسنة واحدة حدث تضاعف مهول في عدد المسلمين، حيث حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من (100.000) مسلم، هذا غير عشرات الآلاف من الذين دخلوا الإسلام في قبائلهم البعيدة عن المدينة ولم يسعدوا برؤية الرسول صلى الله عليه وسلم. هذه الآلاف المؤلفة من المسلمين الذين ارتبطوا بالإسلام فقط منذ شهور ولم يسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الكلمات القليلات، وبعضهم لم يره أصلاً، وبعضهم دخل لأجل المال، وبعضهم دخل لأجل الخوف من القوة الإسلامية الناشئة، وكلهم حديث عهد بجاهلية وإشراك. روى ابن عساكر من طريقين، عن شبابة بن سوار، حدثنا عيسى بن يزيد المدني، حدثني صالح بن كيسان، قال: لما كانت الردة قام أبو بكر في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: الحمد لله الذي هدى فكفى، وأعطى فأغنى؛ إن الله بعث محمدًا – صلى الله عليه وسلم – والعلم شريد، والإسلام غريب طريد، قد رث حبله، وخلق عهده، وضل أهله منه، ومقت الله أهل الكتاب فلا يعطيهم خيراً لخير عندهم، ولا يصرف عنهم شراً لشر عندهم، قد غيروا كتابهم وألحقوا فيه ما ليس منه، والعرب الآمنون يحسبون أنهم في منعة من الله لا يعبدونه ولا يدعونه، فأجهدهم عيشاً، وأضلهم ديناً، في ظلف من الأرض مع ما فيه من السحاب فختمهم الله بمحمد، وجعله الأمة الوسطى، نصرهم بمن اتبعهم، ونصرهم على غيرهم، حتى قبض الله نبيه – صلى الله عليه وسلم – ، فركب منهم الشيطان مركبه الذي أنزله عليه، وأخذ بأيديهم، وبغى هلكتهم { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ }. إن من حولكم من العرب منعوا شاتهم وبعيرهم، ولم يكونوا في دينهم وإن رجعوا إليه أزهد منهم يومهم هذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا، على ما قد تقدم من بركة نبيكم – صلى الله عليه وسلم – وقد وكلكم إلى المولى الكافي، الذي وجده ضالاً فهداه، وعائلاً فأغناه {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} الآية، والله لا أدع أن أقاتل على أمر الله حتى ينجز الله وعده ويوفي لنا عهده، ويقتل من يقتل منا شهيدًا إلى الجنة، ويبقى من بقي منا خليفته وذريته في أرضه، قضاء الله الحق، وقوله الذي لا خلف له: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ}
- كانت خلافته رضي الله عنه رحمة للناس، كان – على سعة علمه وثاقب نظره – حريصاً على أن يستشير الصحابة فيما يعرض له من أمور؛ عن ميمون بن مهران رحمه الله قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي به بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال: أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه نفر كلهم يذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاءً، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع رءوس الناس وخيارهم
- فما اختاره الصحابة خليفة عليهم إلا لما علموه من توافر سائر الصفات الكريمة فيه رضي الله عنه؛ يروي البزار عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال للناس يوما وهو أمير للمؤمنين: أخبروني من أشجع الناس؟ قالوا: أنت؟ قال: أما إني ما بارزت أحداً إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني من أشجع الناس؟ فقال الناس: لا نعلم، فمن؟ قال علي: أبو بكر. إنه لما كان يوم بدر جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشاً فقلنا: من يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فوالله! ما دنا منا أحد إلا أبو بكر شاهراً بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يهوي إليه أحد إلا هوى إليه، فهو أشجع الناس، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذته قريش فهذا يجؤه وهذا يتلتله وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلهاً واحداً؟ يقول علي: فوالله! ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا ويجأ هذا ويتلتل هذا وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله؟ ثم رفع علي رضي الله عنه وأرضاه بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته ثم قال: أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبوني؟ فوالله! لساعة من أبي بكر خير من ألف ساعة من مثل مؤمن آل فرعون. يعني: لأن ذاك رجل يكتم إيمانه والصديق أعلن إيمانه.ا.هـــــــ روي في السير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “كنت أفتقد أبا بكر أيام خلافته ما بين فترة وأخرى، فلحقته يوماً فإذا هو بظاهر المدينة – أي خارجها – قد خرج متسللا، فأدركته وقد دخل بيتاً حقيراً في ضواحي المدينة، فمكث هناك مدة، ثم خرج وعاد إلى المدينة، فقلت: لأدخلن هذا البيت فدخلت فإذا امرأة عجوز عمياء، وحولها صبية صغار، فقلت: يرحمك الله يا أمة الله من هذا الرجل الذي خرج منكم الآن؟ فقالت: أنه ليتردد علينا حينا، والله إني لا أعرفه، فقلت: فما يفعل؟ فقالت: إنه يأتي إلينا فيكنس دارنا، ويطبخ عشاءنا، وينظف قدورنا، ويجلب لنا الماء، ثم يذهب، فبكى عمر حينذاك، وقال: الله أكبر والله لقد أتعبت من بعدك يا أبكر”.
- ختم حياته أبو بكر رضي الله عنه بالمسك بأن ولي عمر بن الخطاب الخلافة بعده فكانت خلافته عزًا وقوة للإسلام، وأوصى أبو بكر في حال موته، فقال: “أما قد ولينا أمر المسلمين فلم نأكل درهماً، ولا ديناراً، ولكن جعلنا خشن طعامهم في بطوننا، ولبسنا خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا شيء من فيء المسلمين، فانظروا ما زاد من مالي فابعثوا به إلى الخليفة من بعدي”، فما تَرِكتُه يا ترى؟ ما تركة من كانت ميزانية الأمة تحت يديه؟ لقد خلَّف عبداً حبشياً وبعيراً كان يسقي عليه وعباءة لا تساوي خمسة دراهم، فلما بعثوا بها إلى عمر بكى حين رآها حتى سالت دموعه، وقال: “رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده”
نعم رحم الله أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا وسائر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسـلم لقد ودع الصديق الأمة بعد أن جعل من نفسه مثلاً للداعية والمجاهد والعابد والزاهد والخليفة والوالي. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاّوْلِي ٱلالْبَـٰبِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَيء وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}