العقيدة

عذاب القبر

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.

فبداية لا بد من تقرير حرمة القول على الله بغير علم؛ سواء  تعلق بالعقائد أو شعائر الإسلام وشرائعه؛ لعموم قوله سبحانه وتعالى )قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون( وقول النبي صلى الله عليه وسلم {أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار} رواه الدارمي

وقد عدَّ النبي صلى الله عليه وسلم القول على الله بغير علم من أمارات الشر وعلامات الساعة؛ روى البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول {إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا} قال الحافظ: وفيه أن الفتوى هي الرياسة الحقيقية وذم من يقدم عليها بغير علم.أ.هـ وقد حذرنا ربنا تبارك وتعالى من سلوك هذا السبيل بقوله )ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الكذب لا يفلحون ~ متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون(

ولا يجوز للمسلم أن يجالس من كانت هذه صفته ولا أن يستمع لقوله؛ وقد قال سبحانه {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين}

والذي عليه جماعة المسلمين – سلفاً وخلفاً – أن عذاب القبر حق؛ وأن القبر إما أن يكون روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، وقد تظاهرت على ذلك أدلة القرآن والسنة، ومن ذلك:

  • قوله تعالى: (إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) [الأنعام : 93]
  • وقوله تعالى: (سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ) [التوبة : 101] قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: عذاب الدنيا، وعذاب القبر. وقال الطبري رحمه الله تعالى: “والأغلب أن إحدى المرتين عذاب القبر، والأخرى تحتمل أحد ما تقدم ذكره من الجوع أو السبي أو القتل والإذلال أو غير ذلك”.
  • وقوله تعالى: (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ – النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر : 45-46]. قال القرطبي: “الجمهور على أن هذا العرض يكون في البرزخ، وهو حجة في تثبيت عذاب القبر.
  • وقوله تعالى: (وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون) وقد قال أكثر المفسرين بأن المراد بقوله تعالى (دون ذلك) عذاب القبر
  • ترجم البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه في كتاب الجنائز لعذاب القبر، فقال: باب ما جاء في عذاب القبر، وساق الآيات التي سبق ذكرها
  • ما ثبت عن أمنا عائشة رضي الله عنها: “أن اليهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر، فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت عائشة الرسول صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر، فقال: نعم، عذاب القبر. قالت عائشة رضي الله عنها: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلى إلا تعوذ من عذاب القبر” زاد غندر: “عذاب القبر حق” رواه البخاري
  • وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، قالت: “دخلت عليَّ عجوزان من عُجُز يهود المدينة، فقالتا: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم، قالت: فكذبتهما، ولم أنعم أن أصدقهما، فخرجتا، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: يا رسول الله إن عجوزين من عجز يهود المدينة دخلتا عليَّ، فزعمتا أن أهل القبور يعذبون في قبورهم، فقال: “صدقتا، إنهم يعذبون عذاباً تسمعه البهائم” قالت: فما رأيته بعد في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر”.
  • ما رواه مسلم في صحيحه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: “بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار، على بغلة له، ونحن معه، إذ حادت به، فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة، فقال: من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ فقال رجل: أنا، قال: فمتى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك، فقال: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا، لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه”.
  • وفي صحيح البخاري ومسلم وسنن النسائي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: “خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما غربت الشمس، فسمع صوتاً، فقال: يهود تعذب في قبورها”.
  • ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم مرّ بقبرين، فقال: “إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ..”
  • وفي صحيح مسلم وجميع السنن عن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال “إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ بالله من أربع من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال”
  • وفي صحيح مسلم أيضا وغيره عن ابن عباس أن النبي كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن اللهم إنى أعوذ بك من عذاب جهنم وأعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال
  • حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما رواه أحمد وأبو داود وابن خزيمة والحاكم بإسناد صحيح أن الملائكة تسأل العبد المؤمن في قبره فيحسن الإجابة وعند ذاك: “ينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مدّ بصره، قال: ويأتيه [وفي رواية: يمثل له] رجل حسن الوجه حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، [أبشر برضوان من الله، وجنات فيها نعيم مقيم] هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: [وأنت فبشرك الله بخير] من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح [فو الله ما علمتك إلا كنت سريعاً في طاعة الله، بطيئاً في معصية الله، فجزاك الله خيراً]، ثم يفتح له باب من الجنة، وباب من النار، فيقال: هذا منزلك لو عصيت الله، أبدلك الله به هذا، فإذا رأى ما في الجنة، قال: ربِّ عجل قيام الساعة، كيما أرجع إلى أهلي ومالي، [فيقال له: اسكن]”. وذكر صلوات الله عليه وسلامه أن العبد الكافر أو الفاجر بعد أن يسيء الإجابة” ينادي منادٍ في السماء أن كذب، فافرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه في قبره، حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه (وفي رواية: ويمثل له) رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح،: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: [وأنت فبشرك الله بالشر]، من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، [فوالله ما علمتك إلا كنت بطيئاً عن طاعة الله، سريعاً إلى معصية الله]، [فجزاك الله شراً، ثم يقيض الله له أعمى أصم أبكم في يده مرزبة، لو ضرب بها جبل كان تراباً، فيضربه حتى يصير بها تراباً، ثم يعيده كما كان، فيضربه ضربة أخرى، فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين، ثم يفتح له باب من النار، ويمهد من فرش النار]، فيقول: رب لا تقم الساعة”.
  • وفي حديث أنس رضي الله عنه أن الكافر والمنافق بعد أن يجيب في قبره تلك الإجابة الكاذبة، يقال له: “لا دريت، ولا تليت، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين” أخرجه البخاري ومسلم، ولفظ الحديث للبخاري، ولمسلم: “إن العبد إذا وضع في قبره، ثم ذكر نحواً مما تقدم إلى قوله: وذكر لنا: أنه يفسح فيه سبعين ذراعاً، ويملأ عليه خضراً إلى يوم تبعثون”، وفي رواية لأبي داود أن العبد المؤمن بعد أن يسأل ويجيب: “ينطلق به إلى بيت كان له في النار، فيقول له: هذا كان لك، ولكن الله عصمك، فأبدلك به بيتاً في الجنة، فيراه، فيقول: دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي، فيقال له: اسكن”.
  • وفي سنن الترمذي عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الملكين يقولان للعبد المؤمن بعد أن يجيب الإجابة السديدة: “قد كنا نعلم أنك تقول ذلك، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين، ثم ينور له فيه، ثم يقال له: نم، فيقول، أرجع إلى أهلي فأخبرهم، فيقولان: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك”. وأنهما يقولان للمنافق: “قد كنا نعلم أنك تقول ذلك، فيقال للأرض: التئمي عليه، فتلتئم عليه، فتختلف أضلاعه، فلا يزال معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك”.

قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: “قال أبو محمد عبد الحق: اعلم أن عذاب القبر ليس مختصاً بالكافرين، ولا موقوفاً على المنافقين، بل يشاركهم فيه طائفة من المؤمنين، وكل على حاله من عمله، وما استوجبه من خطيئته وزلله.ا.هـــــــ

وهذه الأحاديث بلغت حد التواتر المعنوي، ومن أنكر ما دلت عليه من إثبات عذاب القبر فهو على خطر عظيم. قال الإمام أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى: وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلا، وسؤال الملكين؛ فيجب اعتقاد ذلك والإيمان به، ولا نتكلم عن كيفيته؛ إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته، لكونه لا عهد له به في هذه الدار، والشرع لا يأتي بما تحيله العقول، ولكن قد يأتي بما تحار فيه العقول.ا.هــــــــــــــــــــــــــــــــ

أسباب عذاب القبر

وقد بيَّن أهل العلم رحمهم الله تعالى الذنوب التي تكون سبباً في عذاب القبر، ومن ذلك المشي بالنميمة وعدم الاحتراز من البول؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين، فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، أمّا أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله، ثم قال: ثم أخذ عوداً رطباً فكسره باثنتين، ثم غرز كل واحد منهما على قبر، ثم قال: لعله يخفف عنهما، ما لم ييبسا”. ومن الذنوب التي يعذب صاحبها في القبر الغلول، وقد صح في ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: أهدى رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً يقال له: مِدْعم، فبينما مدعم يحط رحلاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أصابه سهم عائر، فقتله، فقال الناس: هنيئاً له الجنة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “كلا، والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه ناراً” فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: “شراك من نار أو شراكين من نار”  متفق عليه.

ومن الذنوب المؤدية إلى عذاب القبر كذلك الكذب وهجر القرآن والزنا والربا وقد ثبت ذلك من حديث سمرة بن جندب عند البخاري في الصحيح، وهو حديث طويل

أقوال الأئمة

قال المروزي: قال أبو عبد الله: عذاب القبر حق لا ينكره إلا ضال أو مضل.

وقال حنبل: قلت لأبى عبد الله في عذاب القبر؛ فقال هذه أحاديث صحاح نؤمن بها ونقر بها كلما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إسناد جيد أقررنا به، إذا لم نقر بما جاء به رسول الله ودفعناه ورددناه على الله أمره قال الله تعالى {وما آتاكم الرسول فخذوه} قلت له: وعذاب القبر حق؟ قال: حقٌ، يعذبون في القبور. قال: وسمعت أبا عبد الله يقول نؤمن بعذاب القبر وبمنكر ونكير وأن العبد يسأل في قبره {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة}

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى