خطبة الجمعة 14/12/2018 – أزمات
خطبة يوم الجمعة 7/4/1440 الموافق 14/12/2018
1/ الله جل جلاله جعل هذه الدنيا داراً للابتلاء والاختبار؛ والمسلم يبقى منذ بلوغه التكليف إلى مفارقته الحياة عبر أحواله المختلفة في دائرة الابتلاء والاختبار التي خلق من أجلها لينظر الله عمله ويحصيه عليه ليجازيه به حين المصير إليه سبحانه وتعالى. قال عز وجل: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ}
وحقيقة الابتلاء والتكليف تتطلب من المسلم السعي الحثيث إلى النجاح في هذا الامتحان الطويل أمده، المختلفة صوره، فهو مستمر في الرخاء والسراء كما هو في البلاء والضراء {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} والابتلاء باقٍ مع الغنى كما أنه مع الفقر، يرافق المسلم في سره وعلانيته، في حله وترحاله، في غضبه ورضاه، في بيته وعمله.. لا يخرج عنه ما دام عقله معه لم يفارقه بنوم أو جنون، ولكل حال تمر بالمسلم عبودية تخصها.
يا خاطِبَ الدّنيا الدّنِيّةِ إنّها … شرَكُ الرّدى وقَرارَةُ الأكدارِ
دارٌ متى ما أضْحكتْ في يومِها … أبْكَتْ غداً بُعْداً لها منْ دارِ
غاراتُها ما تنْقَضي وأسيرُها … لا يُفتَدى بجلائِلِ الأخْطارِ
كمْ مُزْدَهًى بغُرورِها حتى بَدا … متمَرّداً مُتجاوِزَ المِقْدارِ
قلَبَتْ لهُ ظهْرَ المِجَنّ وأولَغَتْ … فيهِ المُدى ونزَتْ لأخْذِ الثّارِ
فارْبأ بعُمرِكَ أن يمُرّ مُضَيَّعاً … فيها سُدىً من غيرِ ما استِظهارِ
{لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور}
وتبقى حالات الفتن والأزمات أشد حالات الابتلاء؛ نظراً لالتباس الحق بالباطل، وكثرة الدعاة على أبواب جهنم، وكثرة الصوارف عن الحق، وارتفاع ضريبة الثبات عليه ومتابعته، وبسبب انشغال كثير من الناس عن العبادة بمتابعة الأحداث وتناقل الأخبار والاستجابة للإثارة، في ظل تتابع الأحداث، واضطراب الأمور، وانقلاب المواقف، وتوالي الهموم الدنيوية، من نجاة النفس والأهل، وسلامة الدور والأموال والتجارات، وتوفير المعيشة، مع اشتداد دواعي الأثرة، والشعور بالندرة.
وقد ابتلي عموم الناس في أيامنا هذه المتأخرة بأنواع من البلاء كدرت صفوهم وعسرت وعكرت عيشهم وصعبت حياتهم؛ حيث طالت الصفوف أمام المخابز ومحطات الوقود وصرافات البنوك، وغدا الحصول على الضرورات من الصعوبة بمكان، وصدق فينا قول القائل
عزت السلعة الرخيصة حتى بات مسح الحذاء خطباً جساماً
وغدا القوت كالياقوت حتى نوى الفقير الصياما
2/ والذي ينبغي التواصي به والعض عليه في مواجهة الأزمات والفتن جملة أمور، هي:
أولاً: الاستعانة بالله تعالى والاعتصام بحبله؛ لأن يقين المسلم بأن الكون لله، وأن الخلق خلقه، والأمر أمره، يوجب عليه التوجه إلى الملك المدبر عز وجل لصلاح شؤون الدنيا والدين. وذلك هو الباب الوحيد الذي من ضل عنه لم يجد مخرجاً ولا خلاصاً؛ لأن الله يكله إلى نفسه رمز العجز والضعف.
ومع توجه العبد إلى عبادة الله وطاعته فإنه لا غنى له عن عون الله طرفة عين؛ ولذا أمر العبد أن يقول: {ِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وقال عز وجل: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وهكذا سائر شأن الإنسان ما لم يستعن فيه بربه تفرق عليه أمره واستعصى عليه أسهل الأمور، فكيف بالفتن والشدائد.
ومشروعية الاستعاذة بالله من الفتن كل صلاة تنبؤك عن مسيس الحاجة إلى ذلك، وإذا كان المعصوم صلى الله عليه وسلم يدعو ربه قائلاً: “اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون” فنحن أحوج إلى هذا.
ثانياً: التعامل مع الأزمة بذكاء: وذلك بالتخطيط لمواجهة الأزمة بحيث لا يُلغى الأصل بحالة الطوارئ، والتحلي بالعقل والتؤدة والعمق في النظرة، واستشراف المستقبل، وحساب المصالح الشرعية الحقيقية لا الوهمية بدقة، والسعي إلى الاستفادة من الحدث بكل وسيلة.
فالمرء عليه من الواجبات ما يوجب عليه السعي للتوازن بينها؛ إذ من الخطورة بمكان أن ينشغل المرء عن إصلاح نفسه ومحاسبتها والقيام بالفرائض الواجبة عليه، وكذا أن يعطل مشاريعه التربوية والتنموية الحية التي يرتبط بها مصيره ومصير الأمة كلها… وليشعر كل فرد يعي مسؤوليته أنه على ثغر؛ فليحذر أن يؤتى الإسلام من قِبَله!
ومن الذكاء المطلوب: تجاوز ضغط الشائعات، والتحرر من أسرها، بإحياء منهج تلقي الأخبار وروايتها، ومعرفة أن من الكذب والإثم أن ينقل الإنسان ويتحدث بكل ما يسمع دون فحص وتمحيص. وكم بنيت مواقف وأُقيمت علاقات وقُطعت أخرى وحدثت أزمات من جراء تلقف الشائعات! وما أجلَّ الأمر الرباني للمؤمنين بالتبين والتثبت لئلا يصيبوا قوماً بجهالة فيندموا!! ورحم الله الإمام مالكاً حين قال: “اعلم أنه ليس يسلم رجل حدَّث بكل ما سمع، ولا يكون إماماً أبداً، وهو يحدِّث بكل ما سمع”
ثالثاً: تجنب مواجهة الأزمة بأزمة أخرى؛ فإن ناساً يفرون من أزمة ليقعوا فيما هو أشد؛ {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الفِتْنَةِ سَقَطُوا}، كم كان فقه الفاروق رضي الله عنه عظيماً، بعدما طُعن وأيقنوا موته، حين دخل عليه شاب قد أطال إزاره، فناداه وقال: “ابن أخي: ارفع ثوبك؛ فإنه أبقى لثوبك، وأتقى لربك” وهذا يدل على غاية اليقظة لأمر الله وشرعه، وتجنب السكوت على المنكر، حتى عند مجيء وقت فتنة الموت!
ومن الفتنة: الافتتان بالحدث وتضخيمه، وكأنه كل شيء، حتى يفقد الإنسان توازنه، فتختل أحكامه، وربما كال بمكيالين، هذا من جهة. ومن جهة أخرى : تجد آخرين يذهلون عن فرض الوقت وواجبه، والمطلوب : الإفاقة السريعة وتجاوز الانبهار بالحدث والانتقال لمرحلة أخرى؛ فإن من يعيش روح الأزمة وظلالها لربما أصابته بالشلل.
رابعاً: ضرورة تدارس أسباب الأزمة للخروج منها حالياً والاستفادة منها مستقبلاً : فإن الظن بأن الأحداث وليدة نفسها خطأ كبير في التفكير؛ لأنها وإن بدت أحياناً منبتَّة الصلة بما قبلها، إلا أن حقيقة الأمر ارتباطها بالأسباب والممهدات والإرهاصات ارتباطاً وثيقاً، بمقتضى العقل والشرع.
خامساً: الحذر من طغيان فكرة المؤامرة ونسيان التقصير؛ حيث يحلو لكثيرين أن يعزوا مصائب المسلمين إلى مكائد الأعداء دائماً، فيُخرجوا من دائرة تفكيرهم الأسباب الداخلية التي تصنع مناخاً مناسباً لنفاذ مكائد الأعداء وفاعليتها وأثرها الذي لا ينكر.
والحقيقة أن ” اليأس…، والخور المميت، والثقة المفقودة.. كل ذلك هو العدو الحقيقي والعقبة الكبرى التي تواجه المسلمين. أما العدو الخارجي: الصهيونية والصليبية والدعوات الملحدة؛ فكلها أمرها يهون إذا استطعنا أن نغير ما بأنفسنا، لنقرّ فيها معاني الإيمان واليقين والصبر والجلد والثقة والعمل”.
“إن أكبر الأخطار التي تواجه المسلمين اليوم، كامنة في النقص في تربية أفرادهم، والضعف الذي أصيب به أبناؤهم. وأكبر المصائب أن يصاب الفرد في نفسه؛ وذلك أن معالجة أي خطر ممكنة ميسرة حينما تكون تربية الأفراد تربية قوية تستطيع أن تجابه الصعاب وتصمد للشدائد”
وفي القرآن الكريم تجلية لهذه الحقيقة؛ فحين ذكر الله كيد الأعداء وشدته قال: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً}، وحين ذكر مدده وعونه ربطه بالصبر والتقوى فقال: {بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ}
سادساً: الإيجابية في التعامل مع الحدث؛ فكم من ناس يتجرون مع الله في هذه الأزمات ويتقربون إليه طلباً لواسع الجنات؛ فتجدهم يواسون الفقير ويغيثون المحتاج ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، بل تجدهم يجوعون ليشبع غيرهم ويتعبون ليرتاح سواهم؛ في مقابل آخرين الواحد منهم ساع بالفتنة مبشر بالشر، جماع للمال ينظر ماذا سيعود عليه من مكاسب آنية وفوائد عاجلة وإن تعامل بالربا وإن ظلم وتعدى وجار ؛ هو فرح مسرور بما يلحق الناس من عنت وضيق ومشقة لأن ذلك يعود عليه بالفائدة. شعاره (نفسي نفسي وإن هلك الناس) شعاره (أنا ومن بعدي الطوفان) هو خامل في الخير، رأس في الشر
إن اعتزال الناس زمن الفتنة إنما يكون للضعفاء العاجزين عن فعل شيء، وليس كذلك أهل العلم والدعوة والفكر الصحيح، وإذا كان يجب عليهم السعي في شؤون الناس عموماً؛ فذلك أوكد عليهم زمان الفتنة التي هي أزمة كبيرة تفتقر لجهود ضخمة متكاتفة؛ سعياً في إزالتها أو التخفيف من وطأتها.
سابعاً: البحث عن المنح في رحم المحن: اعتاد بعض الناس النظرة السوداوية إلى كثير من الأمور والأوضاع، في ظل غلبة التشاؤم والسلبية والريبة في تقويم أعمال الآخرين.. وإذا كان الحال كذلك فما ظنك بنظرتهم إلى الفتن التي لا يبدو منها سوى السوء والشر؟! غير أن يقين المسلم بحكمة الله عز وجل وأنه تعالى لا يخلق شيئاً عبثاً، بل لا يخلق شراً محضاً.. يجعله يصحح نظرته لكثير من الأمور وطريقة تعامله معها، بحيث يستكشف محاسنها وحِكَمها بنظرته الشمولية، ويحاول الاستفادة منها وتوظيفها في التوجه والتوجيه نحو الأفضل.
فالشيطان الذي يسعى في إضلال الناس وإغوائهم وصدهم عن الصراط المستقيم إنما كان خَلْقُه لحكمة بالغة، مما ندرك منها : تحقق الابتلاء وكماله، فالله عز وجل بيَّن للناس الطريقين، وجعل للعبد ملائكة تدفعه للخير، وشياطين تؤزه إلى الشر؛ ليتبين الراغب في الخير المقبل عليه من عكسه.. وهذا مقتضى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “والشر ليس إليك” وحادثة الإفك التي أزعجت بيت النبوة وهزت أطهر مجتمع قال الله في شأن الإفك الذي قيل فيها: {لاَ تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} وصلح الحديبية الذي لم يرُق لبعض المسلمين، كان بداية فتح مكة، بل سمَّاه الله فتحاً، فأنزل في طريق رجوع النبي صلى الله عليه وسلم منه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً}
ومن الفوائد المرجوة في الأزمات: تمحيص الصفوف، وتمايز المؤمنين من المنافقين والكافرين، وتميز الصديق من العدو، ومراجعة النفس ومحاسبتها، واختبار بعض الوسائل والأساليب، وإدراك آثار الأخطاء والتقصير في العلم والعمل والتربية، وتصحيح كثير من المفاهيم والمواقف. ومن أهمها: التعرف على سنن الله تعالى في خلقه وأقداره، وسننه في التغيير للسير على هداها، مثل: أن الصراع بين الحق والباطل حتمي لا بد منه، وأن العاقبة للمتقين وأن الغلبة والنصرة لهذا الدين، وأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأن عاقبة العصيان الذل والهلاك .
ومن الواجب: بث الطمأنينة في قلوب الناس وتبشيرهم بوعد الله ونصره، وشروط تنزله، من واقع القرآن والسنة والتاريخ والواقع لترتفع معنوياتهم، وتزداد فاعليتهم؛ وإلا فإن الدنيا تسودّ في أعين كثير من الناس، حتى الصالحين أحياناً، إلى درجة تمني الموت! والإسلام لا يدعو “أتباعه إلى الموت، ولكنه يدعوهم إلى الحياة، وليس في معاني الإسلام معنى تمني الموت، وإن اشتدت الفتن، وليس في الإسلام فقدان كل أمل وضياع كل رجاء، ولكن روح الإٍسلام: روح الأمل، وروح الجهاد، وروح القوة المستمدة من عند الله، والثقة بنصره، والاطمئنان إلى عونه. أين يقع تمني الموت من قوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}
ثامناً: التفكيرالعميق في الخروج من الأزمة؛ وذلك بمعرفة أسبابها، وكيف يمكن تجاوزها والخروج منها. مع ضرورة إحياء مفهوم الأخوة الإيمانية ولوازمها؛ حتى يشعر الناس بشعور الجسد الواحد، والبنيان المرصوص، بحيث نعدُّ التكافل واجباً لم نقم به بعدُ كما ينبغي؛ فمهما قُدِّم لإخواننا فذلك جزء من واجب الأخوة، ولا يجوز أن ننظر إليه على أنه تفضل ومنة.
إذا اشتملت على اليأس القلوب……وضاق لما به الصدر الرحيب
وأوطأت المكاره واطمأنت……….وأرست في أماكنها الخطوب
ولم تر لانكشاف الضر وجها…..ولا أغني بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث…….. يجيء به القريب المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت……… فموصول بها الفرج القريب
الخطبة الثانية
1/ امتن الله سبحانه وتعالى على كثير من الأمم بالرزق، والإمداد بصنوف الخيرات ومختلف الثمرات، كي يأمنوا من الجوع والمسغبة؛ فتصح أبدانهم، ويستقيم أمرهم (من أصبح آمناً في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها) وورد الإطعام من جوعٍ في القرآن الكريم على سبيل النعمة والامتنان من ربنا بقوله تعالى متفضلاً على قريش في جاهليتهم: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} ويقول سبحانه {أولم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا}
وفي مقابل ذلك ذكر الجوع في سياق الابتلاء في قول الله جل شأنه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ}، وجاء الحديث عنه كعذاب وعقاب في قوله سبحانه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}
2/ ونطالع في السيرة الشريفة معاناة النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم من الجوع قبل الهجرة وبعدها، فقد حصر مع قومه في شعب مكة ثلاث سنوات حتى ثارت حمية بعض العرب واستنكفوا من فعل الحصار المشين فخرقوه ومزقوا صحيفته الجائرة. وربط صلى الله عليه وسلم الحجر على بطنه في المدينة، وخرج من بيته لا يخرجه إلا الجوع، وتوالت الأهلَّة ولم توقد في دوره نار وليس له ولأهله من طعام سوى التمر والماء، وخاض الغزوات الشاقة في حال من الجوع ونقص الطعام والمؤن.
3/ وفي تاريخ المسلمين عدد من المجاعات التي حفظها الرواة والمؤرخون، ومنها مجاعة عام الرمادة في عهد الفاروق رضي الله عنه، وما زالت المجاعات تتوالى بسبب نقص الأمطار، والجوائح، والحروب، والحصار، وجور بعض الوحوش البشرية الذين نزعت من نفوسهم المعاني النبيلة وإن تغنوا بها وجعجعوا، والواقع يفضحهم ويكذبهم.
4/ ومع ذلك فالجوع ليس مقصوداً لذاته في ديننا، ولا متعبداً به لله البتة، فإذا وقع فالعبادة نحوه هي الصبر ممن تضرر به وناله شيء من لأوائه، والسعي في رفعه وإغاثة من ابتلي به واجب على القادرين ولو بشق تمرة، أو بكلمة حض وحث، أو بعون فكري، أو إداري، أو إعلامي، والصادق لن يعدم للنفع سبيلاً كي يزيل الجوع الذي استعاذ منه نبينا بقوله: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ، فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ، فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ».
5/ وجعل الإسلام إغاثة الجياع فضيلة يؤجر عليها صاحبها؛ ومن ذلك ما ورد بقول الله عز وجل: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} قال ابن عباس: ذي مجاعة، وتواترت الأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام بفضل إطعام الطعام، كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد و الترمذي وغيرهما: «يا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِسَلَامٍ» وعدَّ الشارع الحكيم إطعام الطعام من الكفارات، وحث عليه في المناسبات كعيدي الفطر والأضحى، وعقيقة المولود، وغيرها من الصدقات العامة.
وامتدحت النصوص فضيلة الكرم، ألا وإن أفضل الكرم ما وافق ضرورات الإنسان الملحة في المطعم والملبس والمسكن والمركب، وهو جبلة بشرية، جاء الدين الخاتم بتمامها وكمالها، ورتب عليها الأجر العظيم؛ حين يفعلها المرء دون أن يبتغي جزاء من أحد أو شكوراً بل مراده رضا الله، وخوف يوم عبوس قمطرير، والقيام بواجب الإخوة الدينية، وحق الجوار، وإجابة الصريخ. وشر ما يبتلى به مجتمع أن يُسلب هاتين النعمتين، فيصاب بالجوع والخوف، وهما من أكبر النعم الدنيوية الموجبة لشكر الله تعالى، ومن هنا نفهم أن عدم توافر الأمن الغذائي هو سبب عدم توافر الأمن الاجتماعي في معظم المجتمعات.
وقد جعل الإسلام ضمان الاحتياجات الغذائية أو ما يُعرف بحد الكفاية (الأمن الغذائي)؛ من واجبات المجتمع والدولة نحو أفرادها الذين لا يملكون الاحتياجات الأساسية، حتى يستقيم أمر الدنيا والدين.. ويوضح ذلك الإمام الغزالي بقوله: «فالمقتصر على قدر الضرورة والمهم لا يجوز أن ينسب إلى الدنيا، بل ذلك القدر من الدنيا هو عين الدين؛ لأنه شرط الدين والشرط من جملة المشروط».
وقد حافظ الخلفاء من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على تأمين الاحتياجات الغذائية الضرورية، وعُرف ذلك في عهد مروان بن الحكم بطعام الجار، حيث يعطى للمحتاجين في شكل صكوك يستلمونه من بيت المال، وكان بيت المال فيه مخازن للطعام تصرف للمحتاجين وقت الحاجة.
ومن هنا يُفهم أن توفير الأمن الغذائي يعد المدخل لتحقيق الأمن الاجتماعي. وإن التزام المجتمع، ممثلاً في الدولة، بواجبه نحو أفراده بضمان الحد الأدنى من الأمن الغذائي أو ما يعرف بحد الكفاف، هو الحد الأدنى مما يجب أن يلتزم به من العقد الاجتماعي بينه وبين الأفراد، والشرط الأساسي لالتزام الأفراد بذلك العقد والتقيد بما فيه من قواعد الضبط الاجتماعي.
وفي حالة عجز المجتمع عن توفير الأمن الغذائي والاحتياجات الغذائية الضرورية لأي سبب من الأسباب، يجد الأفراد أنفسهم في حِلٍّ من الالتزام بذلك العقد الاجتماعي وما يتضمنه من قواعد لتحقيق الضبط والأمن الاجتماعي، ولا أدل على ذلك من أن الإسلام يبيح بعض المحظورات ويعطل بعض أحكام الشريعة الإسلامية في حق الجائع، قال الله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. وعندما انتشرت المجاعة وتدهور الأمن الغذائي واشتدت حاجة الناس للطعام في عام الرمادة، لم يطبق عمر بن الخطاب رضي الله عنه حد السرقة.
بل إن الرسول الكريم كان يستعيذ من الجوع، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ)
فيجب على كل فرد أو شعب تتوافر له هاتان النعمتان أن يشكر ربه عليهما، فالشكر حافظ للنعم.
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: قَالَ فَتًى مِنَّا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ : يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، رَأَيْتُمْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَصَحِبْتُمُوهُ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا ابْنَ أَخِي، قَالَ: فَكَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا نَجْهَدُ، قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ أَدْرَكْنَاهُ مَا تَرَكْنَاهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ، وَلَجَعَلْنَاهُ عَلَى أَعْنَاقِنَا، قَالَ: فَقَالَ حُذَيْفَةُ: يَا ابْنَ أَخِي، وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْخَنْدَقِ، وَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ اللَّيْلِ هَوِيّاً، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرَ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ يَشْرُطُ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يَرْجِعُ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ، فَمَا قَامَ رَجُلٌ.
ثُمَّ صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَوِيّاً مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرَ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ، ثُمَّ يَرْجِعُ يَشْرِطُ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرَّجْعَةَ، أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ، فَمَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ مَعَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَشِدَّةِ الْجُوعِ، وَشِدَّةِ الْبَرْدِ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ دَعَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَكُنْ لِي بُدٌّ مِنَ الْقِيَامِ حِينَ دَعَانِي، فَقَالَ: يَا حُذَيْفَةُ، فَاذْهَبْ فَادْخُلْ فِي الْقَوْمِ فَانْظُرْ مَا يَفْعَلُونَ، وَلاَ تُحْدِثَنَّ شَيْئاً حَتَّى تَأْتِيَنَا، قَالَ: فَذَهَبْتُ فَدَخَلْتُ فِي الْقَوْمِ، وَالرِّيحُ وَجُنُودُ اللهِ تَفْعَلُ مَا تَفْعَلُ لاَ تَقِرُّ لَهُمْ قِدْراً، وَلاَ نَاراً وَلاَ بِنَاءً.
فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لِيَنْظُرْ امْرُؤٌ مَنْ جَلِيسُهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: فَأَخَذْتُ بِيَدِ الرَّجُلِ الَّذِي إِلَى جَنْبِي، فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ، ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّكُمْ وَاللَّهِ مَا أَصْبَحْتُمْ بِدَارِ مُقَامٍ لَقَدْ هَلَكَ الْكُرَاعُ، وَأَخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَةَ، وَبَلَغَنَا عَنْهُمُ الَّذِي نَكْرَهُ، وَلَقِينَا مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ مَا تَرَوْنَ، وَاللَّهِ مَا تَطْمَئِنُّ لَنَا قِدْرٌ، وَلاَ تَقُومُ لَنَا نَارٌ، وَلاَ يَسْتَمْسِكُ لَنَا بِنَاءٌ، فَارْتَحِلُوا فَإِنِّي مُرْتَحِلٌ، ثُمَّ قَامَ إِلَى جَمَلِهِ وَهُوَ مَعْقُولٌ فَجَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ فَوَثَبَ عَلَى ثَلاَثٍ، فَمَا أَطْلَقَ عِقَالَهُ إِلاَّ وَهُوَ قَائِمٌ، وَلَوْلاَ عَهْدُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لاَ تُحْدِثْ شَيْئاً حَتَّى تَأْتِيَنِي، ثُمَّ شِئْتُ لَقَتَلْتُهُ بِسَهْمٍ. قَالَ حُذَيْفَةُ: ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي مِرْطٍ لِبَعْضِ نِسَائِهِ مُرَحَّلٍ، فَلَمَّا رَآنِي أَدْخَلَنِي إِلَى رَحْلِهِ، وَطَرَحَ عَلَيَّ طَرَفَ الْمِرْطِ، ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ وَإِنَّهُ لَفِيهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ أَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، وَسَمِعَتْ غَطَفَانُ بِمَا فَعَلَتْ قُرَيْشٌ، فَانْشَمَرُوا إِلَى بِلاَدِهِمْ.