خطب الجمعة

خطبة الجمعة 14/4/2006 – أحكام المساجد

خطبة يوم الجمعة 16/3/1427 الموافق 14/4/2006

1ـ الأرض كلها مسجد، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أعطيت خمسا لم يعطهن نبيٌّ قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيُّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحلَّ لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة) متفق عليه

2ـ المساجد بيوت الله تبارك وتعالى ولمكانتها وفضلها ذكرها الله سبحانه في ثمان وعشرين آية من كتابه  الكريم، وأضافها إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم، فقال سبحانه {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} ورغَّب سبحانه في بنائها وعمارتها وأخبر أن عُمَّارها المؤمنون بالله واليوم الآخر؛ قال تعالى {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فالمساجد دور عبادة وذكر وتضرع وخضوع لله سبحانه، ومواضع تسبيح، وابتهال وتذلل بين يدي الله سبحانه، ورغبة فيما عنده من الأجر الكبير، ومقام تهجد وترتيل لكتاب الله وحفظ له، وغوص وراء معانيه، كما أخبر سبحانه أن تعطيل المسجد، ومنع الناس من ذكر الله فيه ظلم، قال تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ $ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وجعل القرآن الكريم الدفاع عن المساجد وحمايتها مطلباً من مطالب هذا الدين يشرع لأجله القتال في سبيله، قال تعالى {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} قال القرطبي رحمه الله تعالى عن هذه الآية: أي لولا ما شرعه الله سبحانه وتعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء لاستولى أهل الشرك وعطَّلوا ما يبنيه أرباب الديانات من مواضع العبادات، ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة. وليس هذا بغريب فالمساجد أحب البقاع إلى الله، وهي قلعة الإيمان ومنطلق إعلان التوحيد لله سبحانه وتعالى، فهي المدرسة التي خرَّجت الجيل الأول، ولا زالت بحمد الله تخرِّج الأجيال، وهي ميدان العلم والشورى والتعارف والتآلف، إليها يرجع المسافر أول ما يصل إلى بلده شاكراً الله سلامة العودة مستفتحاً أعماله بعد العودة بالصلاة في المسجد إشعاراً بأهميته وتقديمه على المنزل تذكيراً بنعمة الله سبحانه وتوثيقاً للرابطة القوية للمسجد، ولذا تجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أول عمل قام  به بعد هجرته من مكة إلى المدينة بناء المسجد المسمى مسجد قباء.

3ـ رتب الله عز وجل فضلاً عظيماً لمن بنى المسجد أو شارك فيه؛ فقال سبحانه وتعالى {إِنَّمَا يَعْمُرُ  مَسَاجِدَ اللَّهِ  مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} الشاهد: قوله تعالى {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّه} وجه الدلالة: أن قوله {يعمر} دال على العمارة بالبناء، كما دل على العمارة بالعبادة؛ لأن باني المسجد يتقرب إلى الله تعالى ببنائه، فهو يعمر المسجد طاعة لله سبحانه وتعالى، ويستفاد من قوله تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ # لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}

4ـ ثبتت أحاديث في فضل بناء المساجد، منها:

  • عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من بنى لله مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة) وفي رواية (بنى الله له في الجنة مثله) متفق عليه
  • عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من بنى لله مسجداً صغيراً كان أو كبيراً بنى الله له بيتاً في الجنة) رواه الترمذي، وهو حديث حسن
  • عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من بنى لله مسجداً ولو مفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة) (ولو كمفحص قطاة)[1] رواه ابن أبي شيبة، وروي عن ابن عباس وعائشة مثله
  • ذكر القرطبي – رحمه الله – أن ابن عباس ومجاهداً والحسن قالوا: إن هذه المساجد تضيء لأهل السماء، كما تضيء النجوم لأهل الأرض
  • وكان السلف الصالح رضي الله عنهم إذا فتحوا بلاداً بنوا فيها المساجد، وتركوا فيها من يعلِّم الناس الخير، ويؤدي رسالة هذه المساجد، باعتبارها مركزاً إسلامياً لتفقيه المسلمين في شؤون دنياهم وأخرتهم

5ـ يجوز أن يسمى المسجد باسم شخص معين، قال ابن حجر: والجمهور على الجواز، والمخالف في ذلك إبراهيم النخعي.ا.هـ فتسمية المسجد باسم قبيلة أو رجل أو امرأة كل ذلك جائز، ويستدل له بما يلي:

  • قوله صلى الله عليه وسلم (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام) الشاهد: (مسجدي هذا) وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نسب المسجد الذي بناه في المدينة إلى نفسه الشريفة؛ مما يدل على جواز ذلك
  • عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي لم تُضَمّرْ من الثنية إلى مسجد بني زريق. رواه البخاري، الشاهد: قوله (مسجد بني زريق) حيث إن ابن عمر رضي الله عنهما ذكر اسم المسجد الذي عرف به على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقد كانت المساجد تسمى بأسماء  أشخاص، والصحابة رضي الله عنهم يعلمون ذلك، ولم يثبت عن أحد منهم فيما أعرف إنكار لهذه  التسميات.
  • روى ابن أبي شيبة عن زر بن حبيش والربيع بن خيثم أنهما يقولان: مسجد بني فلان، وأن جابراً قال (فأتى مسجد معاذ) فهذا الأثر وما تقدم من أدلة دليل على أنه يجوز تسمية المسجد بأسماء أشخاص، وإضافتها إليهم لا تفيد التمليك، وأما إضافتها إلى الله تعالى فهي إضافة تشريف وتكريم، وأما إضافتها إلى المخلوقين فهي إضافة تمييز بين المساجد، ومن فوائدها: أن من صلى في المسجد يدعو لمن أوقفه بعينه، وقد اهتم المسلمون بواقف المسجد، وجعلوا له حق نصب الإمام في المسجد، قال في الإنصاف: ولناظر المسجد التقرير في الوظائف قاله الأصحاب. قال في الأحكام السلطانية: وإن كان من المساجد التي يبنيها أهل الشوارع والقبائل فلا اعتراض عليهم، والإمامة فيها لمن اتفقوا عليه.ا.هـ لكن أن يضع واقف المسجد اسمه في لوحات ضخمة في كل مكان خارج المسجد وداخله وفوق محرابه، ويسعى للرياء والسمعة؛ فذلك البلاء العظيم، وتلك المصيبة الكبيرة؛ إذ أوقع نفسه في الشرك الخفي، ولم يخلص نيته لله، فهذا الواقف لا يستفيد من وقفه؛ لأن الله – تعالى – أغنى الشركاء عن الشرك.

6ـ في المسجد تصلى الجمعة والجماعة والنوافل والتراويح، وصلاة القدوم حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ إذا رجع من سفر فيركع فيه ركعتين،[2] وصلاة الكسوف والخسوف، وصلاة العيدين لو قام بالناس عذر يمنع من الخروج إلى الفضاء، وفي المسجد نصلي على الجنائز كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة سهيل بن بيضاء رضي الله عنه

7ـ الممنوع المحظور في المساجد:

  • النجاسات والقاذورات: في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه (بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تزرموه، دعوه) فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه،  فقال (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن) متفق عليه
  • البصاق: روى الشيخان عن قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها) وروى مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (عرضت عليَّ أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالهم الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن)
  • تنزيه المسجد عن الروائح الكريهة سواء أكانت من آثار أطعمة أو من غيرها، وقد ترجم البخاري لذلك بقوله (باب ما جاء في الثوم النيئ والبصل والكراث) روى مسلم من حديث طويل عن عمر أنه خطب الناس يوم الجمعة، وفيه (ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين: هذا البصل والثوم، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد، فأمر به فأخرج إلى البقيع فمن أكلها فليمتهما طبخا) قال العلماء: ويلحق بالثوم والبصل والكراث كل ما له رائحة كريهة من المأكولات وغيرها، قال القاضي عياض: ويلحق به من أكل فجلاً وكان يتجشأ.
  • لا يدخل المسجد حائض ولا جنب عند جمهور العلماء؛ لحديث عائشة قالت: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال (وجهوا هذه البيوت عن المسجد) ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئاً رجاء أن ينزل فيهم رخصة، فخرج إليهم فقال (وجهوا هذه البيوت عن المسجد، فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب) وقد أجاز بعض العلماء مرور الجنب في المسجد دون الجلوس فيه، لقوله تعالى {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} وأجاز بعضهم المكث للجنب في المسجد إن توضأ
  • من فقد شيئاً فليطلبه خارج المسجد، ولا يرفع صوته في المسجد ليعرف بما ضاع منه، ويطلب ردها ممن وجدها، فقد جاء النهي عن هذا فيما رواه مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد، فليقل: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا) وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار، وأن تنشد فيه الضالة.. وعن الحلق يوم الجمعة قبل الصلاة) رواه أحمد وأصحاب السنن
  • يمنع رفع الصوت في المسجد حيث استنبط العلماء من النهي عن نشدان الضالة في المسجد، وعن البيع والشراء فيه كراهة رفع الصوت في المسجد؛ لأن رفع الصوت ملازم لما سبق
  • يمنع اتخاذ المسجد على قبر: فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولم يشغله مرضه الذي توفي فيه عن أن يحذر الأمة من ذلك، حتى ولو كان القبر قبر نبي، خوفا من المبالغة في تعظيمه والافتتان به، وربما أدَّى ذلك إلى الشرك، كما آل الأمر بكثير من الأمم السابقة

8ـ قال القرطبي رحمه الله تعالى: من حرمة المسجد أن يسلِّم وقت الدخول إن كان القوم جلوسًا، وإن لم يكن في المسجد أحد قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وأن يركع ركعتين قبل أن يجلس، وألا يشتري أو يبيع، ولا يسل فيه سهماً ولا سيفاً، ولا يطلب فيه ضالة، ولا يرفع فيه صوتاً بغير ذكر الله تعالى، ولا يتكلم فيه بأحاديث الدنيا، ولا يتخطى رقاب الناس، ولا ينازع في المكان، ولا يضيق على أحد في الصف، ولا يمر بين يدي مصل، ولا يبصق ولا يتنخَّم ولا يتمخط فيه، ولا يفرقع أصابعه، ولا يعبث بشيء من جسده، وأن ينزه عن النجاسات والصبيان والمجانين، وإقامة الحدود، وأن يكثر ذكر الله تعالى ولا يغفل عنه. فإذا فعل هذه الخصال فقد أدَّى حق المسجد، وكان حرزاً له وحصنا من الشيطان الرجيم، ويمنع الزخارف والنقوش التي لا فائدة منها، بل فيها إضاعة المال والإسراف والتبذير، وإشغال المصلين عن العبادة

9ـ في تفسير قوله تعالى {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله} قال الألوسي: والمراد بالعمارة ما يعم مرمة ما استرمَّ منها وقمها، وتنظيفها وتزيينها بالفرش، لا على وجه يشغل قلب المصلي عن الحضور، وتنويرها بالسرج ولو لم يكن هناك من يستضيء بها، وإدامة العبادة والذكر ودراسة العلوم الشرعية فيها ونحو ذلك، وصيانتها مما لم تُبنَ له في نظر الشارع كحديث الدنيا، ومن ذلك الغناء على مآذنها كما هو معتاد الناس اليوم لا سيما بالأبيات التي غالبها هُجْر من القول.[3]

وفي التفسير الوسيط: والمراد بعمارة المساجد هنا: ما يشمل إقامة العبادة فيها، وإصلاح بنائها وخدمتها، ونظافتها، واحترامها، وصيانتها عن كل مالا يتناسب مع الغرض الذي بنيت من أجله.[4]

وقال الجزائري: هؤلاء هم الجديرون بعمارة المساجد بالصلاة والذكر والتعلم للعلم الشرعي فيها زيادة على بنائها وتطهيرها وصيانتها هؤلاء جديرون بالهداية لكل كما وخير يشهد لهذا قوله تعالى {فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} إلى ما هو الحق والصواب، وإلى سبيل النجاة من النار والفوز بالجنة.[5]

[1] مفحص القطاة: هو الموضع الذي تفحص التراب عنه: أي تكشفه وتنحيه لتبيض فيه. انظر: مختار الصحاح ص492، وأساس البلاغة ص701

 

[2] عن كعب بن مالك t « أن النبي e كان إذا قدم من سفر ضحى دخل المسجد فصلى ركعتين قبل أن يجلس. متفق عليه 

[3] روح المعاني 7/181

[4] الوسيط 1/1906

[5] أيسر التفاسير 2/66

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى