خطبة الجمعة 21/11/2014 – ابوبكر الصديق 4
خطبة يوم الجمعة 28/1/1436 الموافق 21/11/2014
- الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه بالرحمة والهدى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأصفياء وأصحابه النجباء والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد.
- فقد مضى معنا كلام عرفنا منه أن الصديق أبا بكر رضي الله عنه كان أحقَّ الناس بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسـلم لما ثبت في فضله من النصوص المنوِّهة بذكره الحاضَّة على حبه؛ ولأنه كان أعلم الصحابة وأشجعهم وخيرَهم وأعدلَهم، وقد توافرت فيه شروط الخلافة كلُّها؛ فلا أحد أحقُّ بالخلافة منه ولا أجدر بها ممن رضي الله عنه وأرضاه، يروي البزار عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال للناس يوماً وهو أمير للمؤمنين: أخبروني من أشجع الناس؟ قالوا: أنت؟ قال: أما إني ما بارزت أحداً إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني من أشجع الناس؟ فقال الناس: لا نعلم، فمن؟ قال علي: أبو بكر. إنه لما كان يوم بدر جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشاً فقلنا: من يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فوالله! ما دنا منا أحد إلا أبو بكر شاهراً بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يهوي إليه أحد إلا هوى إليه، فهو أشجع الناس، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذته قريش فهذا يجؤه وهذا يتلتله وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلهاً واحداً؟ يقول علي: فوالله! ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا ويجأ هذا ويتلتل هذا وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله؟ ثم رفع علي رضي الله عنه وأرضاه بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته ثم قال: أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبوني؟ فوالله! لساعة من أبي بكر خير من ألف ساعة من مثل مؤمن آل فرعون. يعني: لأن ذاك رجل يكتم إيمانه والصديق أعلن إيمانه.ا.هــــــ
- وقد طرح الناس من الرافضة وغيرهم شبهات حول خلافة الصديق زاعمين أن علياً رضي الله عنه كان أحق بها منه، وأنه قد خالف وصية رسول الله صلى الله عليه وسـلم ولا بد من طرح هذه الشبهات من أجل أن نجيب عنها {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة}:
أولها: أن النبي صلى الله عليه وسـلم قد أوصى بالخلافة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وجواباً على ذلك يقال:
- هذه الوصية المزعومة لم يرد بها نقل صحيح، بل الروايات التي يعتمد عليها الرافضة موضوعة مكذوبة ونحن كمسلمين حريصون على ديننا فيجب أن نحرص على أن ننقل الصحيح فقط من الروايات، وبالذات في هذه القضايا الشائكة
- ثم إذا كانت هناك وصية معلومة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فهل يُعقل أن الصحابة جميعاً اتفقوا على مخالفتها، مع أن مخالفة وصية كهذه ستكون مخالفة واضحة صريحة للشرع، فيلزم هنا مرة ثانية أن نتهم الصحابة جميعاً بالمخالفة الشرعية للإسلام، وهذا أمر خطير لا يعقله عاقل. وكيف يمكن أن جيلاً بأكمله يتفق على خلافة رجل وإنكار خلافة رجل آخر، مع وجود الوصية بغير ذلك؟ مع العلم أن أبا بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما كلاهما من قريش، يعني: لا مجال لترجيح واحد على الآخر إن كانت هناك وصية بذلك
- ولماذا الأنصار يختارون سيدنا أبا بكر ولا يختارون سيدنا علياً ويتفقون مع القرشيين على ذلك؟ هذه تساؤلات لا رد عليها عند طوائف الشيعة التي تتبنى فكرة الوصية لـعلي بن أبي طالب، ولن يستطيعوا أن يخرجوا من هذا المأزق إلا بأمر عجيب.
- إذا كان هناك فعلاً وصية لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، فلماذا لم يصرح بها علي بن أبي طالب أو حتى يكتفي بالإشارة أو بالتلميح؟ ألا يُعَدُّ علي بن أبي طالب هنا كاتماً لما أوصاه به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وإذا كانت هناك وصية لأحد فكتمها فإنه يعد كاتماً للوحي.
ثانيها: قالوا: لقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بسورة براءة، ليقرأها على الناس في الحج، ويقطع بها عهود المسلمين معهم، وفي ذلك -كما زعموا- إشارة إلى استخلاف علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ومن المعروف أن أمير الحج في هذا الموسم كان أبا بكر الصديق رضي الله عنه، فقالوا: لو لم يكن يقصد أن يستخلف علياً لجعل أبا بكر هو الذي يقطع العهود. وسبحان الله! ما أسخف هذه الشبهة! وما أتفهها! وجواباً عليها يقال:
- نزلت سورة براءة بعد خروج أبي بكر بوفد الحج، وكان أبو بكر هو الأمير، فلما نزلت السورة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من رجاله لم يكن في الحج وهو علي بن أبي طالب، أرسله بالسورة حتى يصل بها إلى الناس المجتمعة في الحج.
- من عادة العرب أن الذي ينقض عهد رجل لابد أن يكون من قبيلته، فلكي يقطع عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لابد أن يكون القاطع لهذا العهد من قبيلته، وهو علي بن أبي طالب. والحديث هنا في موسم الحج ليس للمسلمين فقط؛ حتى يكلف الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر ولا ينظر إلى تقاليد العرب في نقض العهود، بل إن الحديث المقصود موجه إلى المشركين في الأساس، ولابد أن يصله إليهم بالصورة التي يقبلونها دون جدال ولا نقاش.
- لقد تعلق المغرضون بإشارة خفية في إرسال علي بن أبي طالب وأغفلوا أمراً جلياً واضحاً في ذات القصة، وهو أن علي بن أبي طالب لما جاء إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما في مكة قال له أبو بكر الصديق: أمير أم مأمور؟ فقال علي بن أبي طالب: بل مأمور. فكيف يعتقدون في استخلاف المأمور علي بن أبي طالب ويتركون الأمير أبا بكر الذي يعلم الناس أمور حجهم، والذي يقود الجميع بما فيهم علي بن أبي طالب نفسه؟!! فمن الواضح أن هذه القصة حجة عليهم لا لهم، ولكن: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
ثالثها: قالوا: إنه لم يكن راضياً على اختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولذلك لم يبايعه لمدة ستة شهور كاملة.
- الحقيقة أن هناك رواية صحيحة في صحيح مسلم تذكر أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه لم يبايع إلا بعد وفاة السيدة فاطمة رضي الله عنها بعد ستة شهور من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وستة شهور من مبايعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه. ومع ذلك فقد روى ابن حبان وغيره بسند صحيح موصولاً إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن علياً بايع أبا بكر الصديق رضي الله عنه في اليوم الثاني للخلافة. فما تفسير ذلك؟! وكيف نجمع بين الروايتين؟! التفسير الذي يرجحه ابن كثير رحمه الله: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد بايع مرتين: المرة الأولى في اليوم الثاني من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمرة الثانية بعد وفاة السيدة فاطمة رضي الله عنها، وذلك بعد ستة شهور من المبايعة الأولى للصديق رضي الله عنه.
- أما المبايعة الأولى فهي التي جاءت في رواية الحاكم والبيهقي وابن سعد وابن حبان بسند صحيح كما ذكرنا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيها: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه صعد المنبر في اليوم الثاني، وهو اليوم الذي كان يوم بيعة الجمهور، فنظر رضي الله عنه في وجوه القوم فلم ير الزبير بن العوام رضي الله عنه، فدعا بـ الزبير فجاء، وكان الزبير في ذلك الوقت في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم يجهزه للدفن، فقال أبو بكر له: ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه، أردت أن تشق عصا المسلمين؟! يعني: أن سيدنا أبا بكر يلوم سيدنا الزبير أنه لم يأت ويبايع سيدنا أبا بكر الصديق كما بايع عامة المسلمين، فقال الزبير بن العوام: لا تثريب -أي: لا لوم- يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقام فبايعه، ثم نظر أبو بكر في وجوه القوم، فلم ير علياً فدعا به فجاء، فقال له: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه على ابنته، أردت أن تشق عصا المسلمين؟! ختنه يعني: زوج ابنته. فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فبايعه. روى الطبري بأسانيده عن حبيب بن ثابت رحمه الله: أن علياً كان في بيته، فأتى إليه الخبر عن جلوس أبي بكر للبيعة، فخرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء عجلاً كراهية أن يبطئ عنه حتى بايعه، ثم جلس إليه، وبعث فأحضر ثوبه وتجلله، ولزم مجلسه.
- فلماذا كان سيدنا علي بن أبي طالب والزبير بن العوام يشعران بشيء من الغضب أو عدم الرضا بخصوص ما تم في سقيفة بني ساعدة؟ الجواب: لم يكن ذلك لعدم اقتناعهما بـأبي بكر الصديق أبداً، ولكن لأنهما أخرا عن المشورة، وهما -كما يعلم الجميع- على درجات عالية من الفضل والسبق والرأي. روى الحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أن علي بن أبي طالب والزبير بن العوام قالا: ما غضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة. فهذا تصريح عن سبب الغضب. قالا: وإنا نرى أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف شرفه وخبره، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس وهو حي.
- وهناك أمر آخر كان مع هذه المبايعة الأولى، كان هناك حدث آخر صاحب هذه المبايعة، وهو طلب السيدة فاطمة رضي الله عنها ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء علي بن أبي طالب يطلب ميراث السيدة فاطمة من أبيها صلى الله عليه وسلم، رفض أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقال لها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نورث، ما تركناه صدقة)، فوجدت عليه السيدة فاطمة رضي الله عنها
رابعها: هذه الشبهة الجديدة شنيعة تهدف إلى هدم الإسلام من أساسه، تولى كبرها طائفة من الشيعة، أرادوا الطعن في رموز الإسلام العظيمة بصورة تظهرهم كأسوأ ما يكون الرجال، هذا الشبهة الشنيعة هي: أن الصديق رضي الله عنه وعمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم أجمعين قد تآمروا على أمر الخلافة فيما بينهم، وساعدتهم في ذلك السيدة عائشة رضي الله عنها. وحاشا لله من هذه الفرية. يزعمون أنهم جميعاً قد تآمروا على أن يأخذ الصديق الخلافة في بادئ الأمر، ثم يعطيها بعد ذلك لـ عمر بن الخطاب ثم يعطيها عمر لـ أبي عبيدة بن الجراح، لكن أبا عبيدة مات قبل موت عمر، فلم تكتمل أطراف المؤامرة كما يقولون.
ويقولون: إن هذا التآمر ساعدت فيه السيدة عائشة بأن ادعت -كما يقولون- أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بالصلاة إلى أبي بكر، بينما الحقيقة -في زعمهم- أنه أوصى بالصلاة لـ علي بن أبي طالب، وأخفت ذلك السيدة عائشة، وبذلك أوصلت الخلافة إلى الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
وهذا تصوير قبيح وشنيع لأعظم أجيال الإسلام، ولأرقى رموز الإسلام، فإذا كان هؤلاء السابقون على هذه الشاكلة فلا أمل فيمن جاء من بعدهم، وهذا هو بيت القصيد في الشبهة، فليست القضية اتهام رجل أو رجلين، ولكن القضية أعمق من ذلك بكثير، فهي فعلاً هدم لدين الإسلام من جذوره.
من جديد نقول: إن هؤلاء الطاعنين يقيسون الأحداث بمقاييس هذا العصر الذي نعيش فيه الآن، ويرون السياسة كما يرونها الآن: مؤامرات ودسائس ومكائد وخداع ونفاق وغش وتحايل، هذه هي السياسة التي يشاهدها الناس، وعلى هذا الأساس يقومون سياسة الإسلام في عهد الخلفاء، وما أدركوا أن الإسلام قدم أروع أنظمة السياسة، وأرقى الأمثلة للتطبيق العملي لهذه القواعد السياسية، فهم لا يتخيلون أن رجلاً نقياً مثل أبي بكر أو عمر يكون رجلاً سياسياً ناجحاً، يقولون: إما أنه رجل صالح وسياسي فاشل، وإما أنه سياسي ناجح ولكنه فشل في مجال الأخلاق. لكن الشواهد تثبت حسن سياستهم، والشواهد أيضاً تثبت قيادتهم الحكيمة ليس لأوطانهم فقط، بل وللأرض جميعاً في زمانهم.
إذاً: في عرف العلمانيين والمستشرقين لابد لهؤلاء الساسة الناجحين أن يكونوا متآمرين، هذا ما شاهدوه في الواقع الآن، ولا يتخيلون أن توجد في هذا الماضي هذه الصورة النقية البهية للساسة المسلمين المهرة في سياستهم والأنقياء في قلوبهم، الذين يديرون الدنيا بحكمة وعيونهم على الآخرة، قال عز وجل: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}، فهذا يعتبر طرازاً أسطورياً بالنسبة للعلمانيين، لكنه حدث في عهد الإسلام، ويتكرر كثيراً في تاريخنا، ليس في عهد الصحابة فقط، ولكن في عصور أخرى كثيرة، وفي أماكن متعددة، المهم أن المستشرقين ساروا وراء طوائف الشيعة المبتدعة لهذه الشبهة الخطيرة، شبهة التآمر بين أبي بكر وعمر وأبي عبيدة رضي الله عنهم وأرضاهم؛ لتبادل أدوار الخليفة، الواحد تلو الآخر، وذلك في زعمهم بمساعدة السيدة عائشة.فتعالوا بنا لنرى هذه المؤامرة المزعومة كيف قيلت، وما هو الرد عليها:
- من هم المتهمون بالمؤامرة؟ ومن هم أعضاء المؤامرة كما يزعمون؟ الأول: هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وسبحان الله! أهذا الرجل الذي تحدثنا معه في هذه المحاضرات هو الذي يتآمر على الخلافة؟! أهذا الرجل الذي تحدثنا عن إيمانه وصدقه وورعه ورقة قلبه وسبقه وإنكاره لذاته وثباته هو الذي يتآمر؟! أهذا الرجل الذي كان يتورع عن لقمة واحدة حرام لا يتورع عن أكل حقوق أمة كاملة؟!
خامسها: قضية ميراث الرسول صلى الله عليه وسلم. القضية لها علاقة وثيقة بقصة استخلاف أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فالقضية من أول أعماله رضي الله عنه وأرضاه في الخلافة، ونتج عنها بعض المواقف التي أساء المستشرقون وأحبابهم فهمها، واستغلوها في الطعن في عظماء الصحابة.
الرسول صلى الله عليه وسلم ترك أرضاً كانت له بالمدينة وفدك وهي قرية خارج المدينة المنورة، وما بقي من خمس خيبر، وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم ذهب العباس وعلي رضي الله عنهما يطلبان نصيب العباس ونصيب فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من إرث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الصديق رضي الله عنه لهما كما جاء في صحيح البخاري: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا نورث، ما تركنا صدقة” ثم قال الصديق رضي الله عنه وأرضاه: “إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال، وإني والله! لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم”. وقال أيضاً في رواية أخرى للبخاري: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به. ثم قال كلمة جميلة، قال: “فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ”. إنها كلمة جميلة جداً من الصديق رضي الله عنه وأرضاه، كلمة رائعة تلخص فلسفة الصديق رضي الله عنه وأرضاه في حياته.
إذاً: أبو بكر الصديق عرف علياً والعباس رضي الله عنه بحكم هام وهو أن الأنبياء لا يورثون درهماً ولا ديناراً، وما تركوه فهو صدقة، أي: في بيت مال المسلمين، وقد شاء الله عز وجل ذلك الأمر، حتى لا يكون ذلك شبهة لمن يقدح في نبوتهم بأنهم طلبوا الدنيا وورثوها لورثتهم، ولذلك فحياة الأنبياء صلوات الله عليهم وتسليماته كانت زهداً وورعاً وبعداً عن الدنيا، وكذلك يكون الحال أيضاً لورثتهم.
ولكن هل كان هذا الحكم خافياً على علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟ أبداً لم يكن خافياً عليه هذا الحكم، بل لم يكن خافياً أيضاً على العباس رضي الله عنه، ولم يكن خافياً عن كثير من الصحابة.
فقد روي نفس الحديث من طريق أبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف والعباس والسيدة عائشة وأبي هريرة، كل هؤلاء نقلوا نفس الحديث بنفس الألفاظ.
فما هو تفسير طلب علي والعباس رضي الله عنهما الإرث؟ وما تفسير سؤال السيدة فاطمة رضي الله عنها نصيبها من أبيها صلى الله عليه وسلم؟ ولما رفض أبو بكر الصديق إعطاء العباس وعلي رضي الله عنهما من الإرث تشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وحمد الله ثم قال: إنا نعرف يا أبا بكر! فضيلتك، ثم ذكر علي قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقهم، أي: أنه ما زال يطلب الإرث لزوجته، فقال أبو بكر رضي الله عنه: والذي نفسي بيده! لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبَ إليَّ من أن أصل من قرابتي. أي: أنه لا يقطع قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه يقضي بما يراه صواباً، فما تفسير تكرار الطلب من علي رضي الله عنه مع علمه بالحكم؟! ولما رفض أبو بكر الأمر وجدت السيدة فاطمة رضي الله عنها، أي: حزنت وغضبت في نفسها، كما جاء في رواية البخاري، وهجرت الصديق رضي الله عنه فلم تكلمه حتى مرضها الأخير التي ماتت فيه بعد ستة شهور كاملة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما تفسير غضبها وهجرانها لـأبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟! وطبعاً المستشرقون والمستغربون والشيعة وجدوا في هذا الموقف مادة ثرية للطعن في كل الصحابة، فمنهم من اتهم أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه بالظلم؛ لأنه حرم السيدة فاطمة من نصيبها في الإرث.
ومنهم من اتهم السيدة فاطمة وعلي والعباس بحب الدنيا والسعي وراءها، وبمخالفة الشرع بطلب شيء نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.