خطبة الجمعة 24/10/2014 – ابوبكر الصديق 5
خطبة يوم الجمعة 30/12/1435 الموافق 24/10/2014
الدرس الأول: لا فلاح ولا نجاح لهذه الأمة في الدنيا والآخرة إلا باتباع القرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون} وقال {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} وهذا تحذير واضح عن التفريط في أي جزئية من جزئيات الشرع الإسلامي. وقد سار الصحابة رضوان الله عليهم على هذا النهج ولم يخالفوا، ولذلك سبقوا ونجحوا. ولا معنى لاتباع القرآن دون اتباع السنة، فالصحابة ما كانوا يفرقون بين حكم جاء في كتاب الله وحكم جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما دام قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن المؤكد أنه لن يتعارض مع القرآن، ومن المؤكد أنه سيكون وحياً من الله عز وجل، قال عز وجل: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}. فالسنة مفصلة لما أجمله القرآن الكريم، والسنة مقيدة لما أطلقه القرآن الكريم، والسنة شارحة لما خفي عن الناس من أحكام القرآن الكريم، بل وأحياناً تأتي في السنة أحكام ليست في كتاب الله عز وجل، والمسلمون مأمورون باتباعها كاتباع القرآن الكريم تماماً بتمام.
وعلى سبيل المثال رأينا كيف كان اتباع الصديق رضي الله عنه وأرضاه لكل أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، رأينا اتباعاً دقيقاً في كل خطوة في:
- إنفاذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما مع تعارضه مع عقول بعض الصحابة، لكن إذا أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم فلابد أن الخير سيكون في تنفيذه
- اتباعه لأمره في صلح الحديبية مع اختلاف حسابات البشر عن رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم رأينا بعد ذلك كيف كان الخير في ذلك الأمر.
- رأينا في السقيفة كيف انصاع الأنصار لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش) وهو ليس من القرآن، لكن الصحابة ما كانوا يفرقون بين قرآن ولا سنة، فالقرآن والسنة مصدران متكاملان للتشريع، ولو ترك المسلمون أحدهما فإنهم سيضلون لا محالة.
الدرس الثاني أن هذا الدين ليس -كما يعتقد البعض- صلاة وصياماً وإيماناً بالله واليوم الآخر فقط، بل الإسلام دين متكامل يهتم بكل جزئية من جزئيات الحياة صغرت أو كبرت فالإسلام فيه شمول عجيب، لا يفسر إلا بكون هذا الدين نزل من لدن عزيز حكيم، وأنه دين يختلف كلية عن تشريعات الأرض والبشر، قال عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}. وقال {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء}. وقال عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} فالرسول صلى الله عليه وسلم علمهم العقيدة والعبادة والمعاملات بينهم وبين بعضهم، وبينهم وبين الآخرين، وعلمهم القتال، وعلمهم السياسة، وعلمهم التجارة وعلمهم كل فن من فنون الحياة، ثم هو يعلمهم كل شيء في أدق دقائق حياتهم، يعلمهم كيف يكون الرجل في بيته، وكيف يتعامل مع زوجته وأولاده؟ وكيف يتعامل مع والديه وإخوانه وخدّامه؟ وكيف يأكل؟ وكيف يشرب؟ وكيف يغتسل؟ وكيف ينظّف نفسه؟ وكيف يهتم بجسده وهيئته؟ كل هذا أمر لافت للنظر جداً، وقد خاب قوم وخسروا حين قصروا الدين على بعض العبادات فقط وقالوا: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله!! فنقول: أبداً، بل كل شيء في حياتنا يجب أن يكون لله عز وجل {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ}.
ففي هذه المجموعة رأينا كيف اجتمع الصحابة في نضوج كامل ووعي دقيق يدبرون أمر دولتهم ويختارون زعيمهم على طريقة الكتاب والسنة، ويسمعون له ويطيعون بشرط اتباع الكتاب والسنة، ويديرون حياتهم بكاملها في ضوء الكتاب والسنة، هؤلاء الأطهار الذين اشتُهروا بطول القيام والصيام والذكر وقراءة القرآن وجدناهم يحكمون دولتهم، ثم يحكمون الأرض بعد ذلك في حكمة واقتدار، ورأينا هذا الرجل العجيب الصديق رضي الله عنه وأرضاه الذي كان معتاداً على الصيام وعلى عيادة المرضى وعلى شهود الجنائز وعلى إطعام الفقراء رأيناه يقف على المنبر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد أن بايعه الناس يخطب خطبة متوازنة رائعة بليغة حكيمة، يرسم فيها بوضوح خطوط سياسته وبرنامجه في الحكم.ثم وجدناه بعد ذلك يعقد مجالس الحرب، ويسير الجيوش، ويفتح البلدان، ويجمع الخراج، وجدناه يضع الخطط العجيبة والتدابير المحكمة في حروبه مع المرتدين، ثم مع فارس والروم بعد ذلك.
وجدناه يهتم ببيت المال وتفيض الخيرات في زمانه على الناس مع كونه في معارك هائلة منذ أن تولى الخلافة وحتى مات، لكنه ترك اقتصاد بلده منتعشاً عظيماً متفوقاً على غيره. وجدناه مع كل هذا التفوق في مجالات السياسة والحرب والاقتصاد والدعوة والمراسلات والوفود وجدناه لا ينسى أحداً من رعيته. وجدناه ينزل بنفسه ليرعى العجوز العمياء في بيتها، ويكنس حجرتها ويعد طعامها. وجدناه يحلب الشاة للضعفاء. وجدناه ما زال عائداً للمريض متّبعاً للجنازة واصلاً للرحم، مهتماً بأولاده وزوجاته، عطوفاً حنوناً على خدمه؛ فأي شمول؟ وأي كمال؟ وإن كنا رأينا في هذه المجموعة أن الصديق رجل عظيم فأعظم منه ذلك الدين الذي صنع من الصديق صدّيقاً، وأعظم معجزات الإسلام هي بناء الرجال وبناء الأمم، وفي أزمان قياسية ها هي القبائل البدوية المتفرقة والمشتتة والمتحاربة تكون في سنوات معدودات دولة حضارية عظيمة تحكم الأرض بقوانين السماء.
الدرس الثالث: هو قضية الشورى في حياة المسلمين. والشورى ليست أمراً جانبياً في حياة المسلمين، ولما وصف الله عباده المؤمنين في كتابه كان من صفاتهم الرئيسية: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}. وقد رأينا كيف اجتمع المسلمون في سقيفة بني ساعدة في اجتماع من اجتماعات الشورى الرائعة يقارعون الحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان، والدليل بالدليل فإذا اجتمعوا على رأي واتفقوا عليه كان هذا الرأي هو رأي الجماعة الذي لا يُتّبع غيره ولا يُعلن سواه. وما سمعنا عن رجل خرج من السقيفة وقال: لقد اتفقوا على كذا وكذا بينما كان رأيي كذا وكذا، أو قال: رأيي كان صواباً ولم يأخذوا به. فالمسلمون بعد الشورى لا يحدثون جيوباً داخلية داخل صفهم، وما سمعنا عن رجل خرج من السقيفة يقول رأياً مخالفاً لما اتفق عليه المسلمون بعد الشورى، وهذا هو عين الصواب.
وأيضاً هناك نقطة أخرى هامة جداً في موضوع الشورى وهي: أن الشورى لا تكون في الأحكام التي جاءت من الله عز وجل أو من رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
الدرس الرابع: هو أن اتباع الشرع لا يضمن سعادة في الآخرة فقط بل يضمن أيضاً سعادة في الدنيا. فأي الشعوب أسعد؟ الشعب الذي تتصارع فيه الفرق المختلفة على سلطة وحكم وسيطرة، أم هذا الشعب الذي رأيناه في المدينة المنورة وهو يخرج مطمئناً راضياً سعيداً بالاختيار مع أنهم يمرون بكارثة ضخمة وهي وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي؟ فاتباع الشرع يورث في القلب اطمئناناً إلى جوار الله عز وجل، وإلى دفاع الله عن المؤمنين، وهذا ولا شك يورث في القلب سعادة. واتباع الشرع يزرع في القلب الرضا بما قسمه الله عز وجل، والرضا بما حكم الله عز وجل، والرضا بما أمر به الله عز وجل، وهذا الرضا لا شك يورث في القلوب سعادة. واتباع الشرع يرسّخ مشاعر الأخوة والألفة والمودة بين المسلمين، ولا شك أن هذا المجتمع المتحاب في الله مجتمع سعيد.
واتباع الشرع يكون سبباً في أن تحل البركة؛ البركة في المال، والبركة في الأرض، والبركة في الجيش، والبركة في الأولاد، والبركة في كل الأعمال، فتجد بركات كثيرة تنهمر على الأمة المتمسكة بكتاب ربها وسنة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
أخي في الله! لو رأيت انهياراً في الاقتصاد، وضعفاً في الجيوش، وانحلالاً في الأولاد، وبواراً في الأرض، واحتقاراً من كل صغير وكبير، ومن كل قليل وكثير فاعلم أن هذا عقاب من الله عز وجل، قال عز وجل: {وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ}.
فطريق النجاح والرفعة والقوة والصدارة في الدنيا واضح ومعروف، قال عز وجل: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} ماذا يحدث لو عدنا إلى ربنا واستغفرناه على ذنوبنا وتمسكنا بشرعنا؟ هل سيدخلنا ربنا عز وجل الجنة ويمتعنا في الآخرة فقط؟ لا، بل هناك شيء أقرب وجائزة سريعة، قال عز وجل: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} كل هذا في الدنيا، وفوقه وأعظم منه نعيم الآخرة، فما أكرمه من إله! وما أحكمه من شرع!
الدرس الخامس: هو أن الله عز وجل كما اختار نبيه محمد صلى الله عليه وسلم للرسالة فقد اختار هذا الجيل الذي عاصره للصحبة، وعلى قدر هذا الاصطفاء الجليل يجب أن يكون تقديرنا لهذا الجيل، وليس أبداً كما يقول بعض من قل أدبهم وانعدم حياؤهم: هم رجال ونحن رجال! فهم جيل اختاره الله لحمل الأمانة ولتوصيل الرسالة، ولتعليم الأمة ولنشر الدين، فكما اختار الله عز وجل جبريل عليه السلام لينزل بالرسالة على محمد صلى الله عليه وسلم، واختار الرسول صلى الله عليه وسلم ليبلغ الناس بما أراده الله فإنه اختار هؤلاء الأصحاب لكي يسمعوا ويفهموا ويستوعبوا ويتحركوا بهذه الكلمات وهذه الأفعال التي نقلوها عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فخرج هذا الجيل كأرقى ما تكون الأجيال، وصُنع هذا الجيل على عين الله عز وجل، فهم ليسوا كغيرهم من البشر.
روى البخاري ومسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم). وروى البخاري ومسلم وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده! لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) والمد: ملء الكفين، فلو أن أحدنا ينفق مثل جبل أحد من الذهب فإنه لا يساوي إنفاق أحد الصحابة مثل ملء الكفين فقط، هذا قدرهم وهذه مكانتهم. وقال الله تعالى في حقهم: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
الدرس السادس: هو أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه هو أعظم رجال هذه الأمة على الإطلاق بعد نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، بل هو أعظم أهل الأرض جميعاً بعد الأنبياء، ومن الواضح أننا لم نوف حقه بعد.
ومن الواضح أيضاً أن جل المسلمين لا يعرفون كثيراً عن حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وقد يكون ذلك لقصر مدة حكمه رضي الله عنه، ولكن هذا ليس مبرراً أبداً لغفلتنا عن سيرة حياة هذا العملاق.
وقد تعرضنا في هذه المجموعة لجوانب محدودة في حياته رضي الله عنه، ولكنا رأينا فيها العجب، فكيف بنا بعد أن نعلم خطواته في حروب الردة وفارس والشام؟ لا شك أن دراسة تاريخ الصديق وأمثاله من عظماء المسلمين ستضرب أروع القدوات لنا ولأبنائنا من بعدنا، وخاصة أننا في زمان لا تعدو فيه قدوة كثير من أبنائنا على أن تكون لمطرب شرقي أو غربي، أو لكاتب علماني، أو لرجل لا يملك من مقومات النباهة إلا المال.
الدرس السابع: دراسة التاريخ بصفة عامة والتاريخ الإسلامي بصفة خاصة تعتبر من الأساليب التي يتحتم على المسلمين أن يأخذوا بها إذا أرادوا القيام من جديد، وإذا رغبوا في إصلاح ما فسد من أحوالنا.
وكما ذكرنا من قبل فإن الله عز وجل جعل قريباً من ثلث كتابه العظيم القرآن قصصاً وتاريخاً، ولا شك أن هذا هو الأسلوب الأمثل لتربية الناس، ولابد أن تشتمل مناهجنا التربوية على جوانب ضخمة من التاريخ، فثلث المناهج يجب أن يكون تاريخاً، ولابد أن نقدمه بصورة شيّقة لطيفة يقبلها الصغير والكبير، ويقبلها الرجل والمرأة، ويقبلها المتخصص والعامي.
ولابد أيضاً أن ندرس التاريخ بأسلوب هادف يقوم بالأساس على استخلاص العبرة وعلى تربية الشعوب، قال عز وجل: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} فلا يكفي أن نسرد الأحداث سرداً، بل لابد من تحليل كل نقطة، ولابد من استعراض تفاصيل كل موقف، ولابد من الوقوف على المسببات والنتائج، ولابد من ربط التاريخ في أي فترة من فتراته بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم، ولابد أيضاً من ربط التاريخ بواقعنا المعاصر، فعندها يصبح التاريخ حياً ينبض يُصبح التاريخ دليلاً يقود إلى المستقبل، ويُصبح التاريخ واقياً من الوقوع في الزلات والعثرات، ويُصبح أيضاً دافعاً للقيام بعد النكبات والسقطات.
هذا هو التاريخ الذي نريده، ولا نريد أن نقف في التاريخ على توافه الأمور وسفاسفها، بل نريد التاريخ الذي ينبني عليه عمل، ويستخرج منه عبرة، ويُهتدى بدراسته إلى طريق.
الدرس الثامن: أنه سيظل لهذا الدين أعداء إلى أن تقوم الساعة، وهذه سنة من سنن الله عز وجل، وسيظل الصراع بين الحق والباطل، وسيظل التزييف والتزوير والتحريف والتبديل من أقوى أسلحة الباطل، ولا يُعذر المسلمون الصادقون بالجهل في مثل هذه المواطن.
وهذه حرب صريحة معلنة ولا بد من الاستعداد لها، فكما زوروا وحرّفوا لابد أن يوجد من يصحح ويعدل، فتشويه الإسلام يحدث من أول أيام البعثة النبوية الشريفة، فقد قال الكافرون على رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أقوالاً ما كانوا هم أنفسهم يصدّقونها، قالوا: ساحر، وقالوا: كاهن، وقالوا: شاعر، وقالوا: مجنون، لكن كان التوضيح والتعديل والتبيين مسايراً لهذا التزوير، بل ومتفوقاً عليه، فوقف الإسلام على قدميه، ومرت الأيام ودارت دورات التاريخ وظهر من يطعن في نزاهة الصحابة وفي أصول الدين، ظهرت فرق كثيرة ضالة أشاعت أشياء ما أنزل الله بها من سلطان، وتصدى لها من المسلمين علماء أجلاء دافعوا عن الدين، ودافعوا عن رجاله، ثم ظهرت حركة الوضع في الأحاديث النبوية والافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعمّد الكذب عليه فظهر علماء الجرح والتعديل، وظهر علم الرجال، ونخلوا الأحاديث نخلاً فصححوا الصحيح، وحسّنوا الحسن، وضعّفوا الضعيف، واستبان المسلمون بذلك أمرهم، واهتدوا إلى الصراط المستقيم.
ثم ها هي حملة الاستشراق وحملة العلمانية وحملة الجهّال الذين يتكلمون في الدين بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ها هي تتناول تاريخ الإسلام ورجال الإسلام ودين الإسلام بكل ما هو قبيح وشنيع، ولابد للمسلمين الصادقين من وقفة كوقفة أسلافهم، فالدفاع عن تاريخ الإسلام وعن رجال الإسلام دفاع عن الدين، وعلى قدر جهد وفكر وإنفاق وإعداد المحاربين لهذا الدين لا بد أن يكون جهد المسلمين أو يزيد، ليس هذا هو جهد العلماء فقط، بل هو جهد الآباء والمدرسين وأساتذة الجامعات وأئمة المساجد والدعاة إلى الله عز وجل، والمتعلمين بصفة عامة، قال صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية)، وقال: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها فرب مبلّغ أوعى من سامع)، وقال: (من كان عنده علم فليظهره، ومن وصل إليه علم فليصل به إلى غيره)، قال عز وجل: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
الدرس التاسع: أن مقام الخلافة مقام عظيم. رأينا اهتمام الصحابة بأمر الخلافة بصورة لا يتخيلها العقل، فمصيبة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أعظم مصيبة مرت بهم وبأمة الإسلام، ومع ذلك فإن هذه المصيبة على فداحتها لم تثنهم عن اختيار الخليفة في نفس اليوم الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سئل سعيد بن زيد رضي الله عنه: متى بويع أبو بكر؟ قال: يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة.
فانظر إلى فهم سيدنا سعيد بن زيد رضي الله عنه وقوله: كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة.
فالفرقة من أشد عوامل انهيار الأمم، وإنها طامة كبرى أن تتفرق الأمة الإسلامية إلى أكثر من ستين جزءاً، فمنذ أن أسقط الغرب واليهود الخلافة العثمانية وهم يزرعون في أعماقنا عن طريق التعليم والإعلام أن التجمع الأمثل للناس لا يكون إلا على أساس القوميات: عربي وكردي وبربري وباكستاني وغيره، ثم العرب: مصري وسوري وسعودي وأردني وفلسطيني وهكذا، والأصل الذي نسيه المسلمون أن التجمع في الإسلام لا يكون إلا على الإسلام.
وقد رأينا في هذه المجموعة كيف تجمع المسلمون من قبائل شتى ومناطق مختلفة على رباط واحد فقط، وهو رباط العقيدة والإسلام، مع أنهم كانوا قريبي عهد بجاهلية، وقريبي عهد بقبلية، لكن لا تصلح هذه الأمة بغير هذا، ونحن مع أننا مكثنا قروناً نتجمع على الإسلام إذا بنا نُصاب بغزو فكري في سنوات معدودات فيُهدم في داخلنا صرح بناه الأقدمون بجهد وعرق ودماء.
روى الإمام مسلم والنسائي وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه -واللفظ هنا لـ مسلم – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية).
قال النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث: إنه مات على صفة أهل الجاهلية من حيث هم فوضى لا إمام لهم، فأهل الجاهلية هكذا فوضى لا إمام لهم.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن قاتل تحت راية عمّية) (أو عُمّية) والروايتان صحيحتان، قال أحمد بن حنبل رحمه الله يفسّر كلمة عمّية أو عُمّية: هي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه، أي: الرجل الذي لا يدري لأي سبب يقاتل ولأي هدف يقاتل، ثم يكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: (ومن قاتل تحت راية عمّية يغضب لعصبية أو يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية) أي: أن القتال للقومية والعصبية والعائلة والقبيلة وليس للإسلام ما الذي سوف يحدث لمن يقاتل من أجل هذا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فقُتل فقتلة جاهلية) نسأل الله العافية، ونسأل الله عز وجل أن يجمع المسلمين تحت راية واحدة راية لا إله إلا الله محمد رسول الله.
الدرس العاشر: دور التربية في بناء الأمم والشعوب.
لا أعتقد أن أحداً من الممكن أن يقبل بما حدث في السقيفة إلا إذا كان على درجة عالية راقية من التربية، فالجهد الضخم الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربية هذا الجيل سواء في فترة مكة أو في المدينة لم يصبح هباء منثوراً بموته صلى الله عليه وسلم أبداً، فمعجزة هذا الدين هي بناء الرجال، وليس من السهل أبداً أن يتنازل رجل مثل سعد بن عبادة عن الخلافة وهو يقف في عشيرته وسقيفته ومدينته، وليس من السهل أن يفزع الفاروق من الخلافة فيبعدها عنه إلى الصديق رضي الله عنه، وليس من السهل أن يتمنى الصديق رضي الله عنه أن لو حمل الأمر رجل غيره وكفاه تبعات الأمانة الثقيلة، وليس من السهل أن يتسابق الأنصار على بيعة قرشي، وليس من السهل أن يقبل أهل المدينة جميعاً وأهل الإسلام جميعاً برجل واحد دون اعتراض ولا تمرد.
هذا كله نتاج تربية، ولن يأتي هذا من فراغ ولن ينزل عليهم الورع فجأة.
وإذا أردنا أن نكون مثلهم فلابد من تربية جيل يعرف قيمة الدنيا ويزهد فيها، ويعلم قيمة الآخرة ويرغب فيها، لابد من تربية جيل يقدم رضا الله عز وجل على هوى نفسه، ويستجيب لشرع الله وإن تعارض مع مصلحته ورأيه، ولابد من تربية جيل يتنازل لأخيه عن أشياء يعتقد أنها قد تكون من حقه لا يتنازل عن ذلك إلا لله، ولا يرغب من وراء ذلك إلا رضا الله وجنته. إن رُبي هذا الجيل فسيصبح أمر الخلافة والصدارة والمجد أمراً يسيراً إن شاء الله، وإنه ليسير على من يسره الله عليه.
كلام علي بن أبي طالب في أبي بكر رضي الله عنهما يوم مات أبو بكر
يوم ارتجت المدينة لفراق الصديق، أقبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى بيت الصديق مسرعاً باكياً مسترجعاً، ووقف والناس حوله يقول: رحمك الله يا أبا بكر! كنت إلف رسول الله، وأنيسه ومستراحه، وثقته وموضع سره ومشاورته، وكنت أول القوم إسلاماً، وأخلصهم يقيناً، وأشدهم لله يقيناً، وأخوفهم لله، وأعظمهم غناءً في دين الله، وأحوطهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحدبهم على الإسلام، وأحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقب، وأفضلهم سوابق، وأرفعهم درجة، وأقربهم وسيلة، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم هدياً وسمتاً، وأشرفهم منزلة، وأرفعهم عنده، وأكرمهم عليه فجزاك الله عن الإسلام أفضل الجزاء، صدّقت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذّبه الناس، وكنت عنده بمنزلة السمع والبصر، سمّاك الله في تنزيله صدّيقاً، فقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}، وآسيته حين بخلوا، وقمت معه على المكاره حين عنه قعدوا، وصحبته في الشدة أكرم الصحبة، ثاني اثنين، صاحبه في الغار، والمنزّل عليه السكينة، ورفيقه في الهجرة، وخليفته في دين الله وأمته، أحسنت الخلافة حين ارتدوا، فقمت بالأمر ما لم يقم به خليفة نبي، ونهضت حين وهن أصحابه، وبرزت حين استكانوا، وقويت حين ضعفوا، ولزمت منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ وهنوا، وكنت -كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- ضعيفاً في بدنك، قوياً في أمر الله تعالى، متواضعاً في نفسك، عظيماً عند الله تعالى، جليلاً في أعين الناس، كبيراً في أنفسهم، لم يكن لأحدهم فيك مغمز ولا لقائل فيك مهمز، ولا لمخلوق عندك هوادة، الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ بحقه، الغريب والبعيد عندك في ذاك سواء، وأقرب الناس عندك أطوعهم لله عز وجل وأتقاهم، شأنك الحق والصدق والرفق، قولك حكم وحتم، وأمرك حلم وحزم، ورأيك علم وعزم، اعتدل بك الدين، وقوي بك الإيمان، وظهر أمر الله فسبقت والله! سبقاً بعيداً، وأتعبت من بعدك إتعاباً شديداً، وفزت بالخير فوزاً مبيناً، فإنا لله وإنا إليه راجعون رضينا عن الله عز وجل قضاءه وسلمنا له أمره، والله! لن يُصاب المسلمون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثلك أبداً، كنت للدين عزاً وحرزاً وكهفاً، فألحقك الله عز وجل بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ولا حرمنا أجرك، ولا أضلنا بعدك.