خطبة الجمعة 29/1/2010 – الإيمان وأثره في الحياة
خطبة يوم الجمعة 14/2/1431 الموافق 29/1/2010
فكر الكثيرون من أولي الألباب، وانتهى كل منهم إلى إثبات العقيدة في الله بطريقه الخاص. فمنهم من استند إلى صوت الفطرة في أعماقه) أفي الله شك فاطر السماوات والأرض( )فطرة الله التي فطر الناس عليها(
ومنهم من استند على مبدأ “السببية” الذي يقرر أن كل صنعة لابد لها من صانع، وكل حادث لابد له من محدث، وكل حركة لابد لها من محرِّك، وكل نظام لا بد وإن يكون وراءه منظِّم، وهذا المبدأ ثابت ثبوت الأوليات البديهية في العقول.
1ـ لله في الآفاق آيات لعل — أقلها هو ما إليه هـــــداكا
2ـ ولعل ما في النفس من آياته — عجبٌ عجـابٌ لو ترى عيناكا
3ـ والكون مشحون بأسرار إذا — حاولــت تفسيراً لها أعياكا
4ـ قل للطبيب تخطفته يد الردى — مــن يا طبيب بطبه أرداكا
5ـ قل للمريض نجا وعوفي بعدما — عجزت فنون الطب من عافاكا
6ـ قل للصحيح يموت لا من علة — من بالمنايا يا صحيح دهـاكا
7ـ قل للبصير وكان يحذر حفرة — فهوى بها من ذا الذي أهـواكا
8ـ بل سائل الأعمى مشى بين الزحـ — ـام بلا اصطدام من يقود خطاكا
9ـ قل للجنين يعيش معزولاً بلا — راع ومرعى من ذا الذي يرعاكا
10ـ قل للوليد بكى وأجهش بالبكا — عند الولادة ما الذي أبكاكا
11ـ وإذا ترى الثعبان ينفث سمَّه — فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
12ـ واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو — تحيــــا وهذا السـم يملأ فاكا
13ـ واسأل بطون النحل كيف تقاطرت — شهداً وقل للشهد من حلاكا
14ـ بل سائل اللبن المصفى كان بين — دم وفـــرث ما الذي صفاكـا
15ـ وإذا رأيت الحي يخرج من حنايا — ميت فاسأله من يا حـي قد أحياكا
قل للنبات يجف بعد تعهد — ورعاية من بالجفاف رمـــــاكا
وإذا رأيت النبت في الصحراء يربو — وحده فاسأله من أرباكا
وإذا رأيت البدر يسري ناشراً — أنواره فاسأله من أسراكا
واسأل شعاع الشمس يدنو وهي — أبعد كل شيء ما الذي أدناكا
قل للمرير من الثمار من الذي — بالمر من دون الثمار غذاكا
وإذا رأيت النخل مشقوق النوى — فاسأله من يا نخل شق نواكا
وإذا رأيت النار شب لهيبها — فاسأل لهيب النار من أوراكا
وإذا ترى الجبل الأشم مناطحا — قمم السحاب فسله من أرساكا
وإذا ترى صخرا تفجر بالمياه — فسله من بالماء شق صفاكا
وإذا رأيت النهر بالعذب الزلال — سرى فسله من الذي أجراكا
وإذا رأيت البحر بالماء الأجاج — طغى فسله من الذي أطغاكا
وإذا رأيت الليل يغشى داجياً — فاسأله من يا ليل حاك دجاكا
وإذا رأيت الصبح يسفر ضاحكاً — فاسأله من يا صبح صاغ ضحاكا
ستجيب ما في الكون من آياته — عجبٌ عجابٌ لو ترى عيناكا
ربي لك الحمد العظيم لذاتك — حمداً وليس لواحد إلاكا
يا منبت الأزهار عاطرة الشذى — ما خاب يوماً من دعا ورجاكا
يا مجري النهار عاذبة الندى — ما خاب يوماً من دعا ورجاكا
يا أيها الإنسان مهلاً ما الذي — بالله جل جلاله أغراكا
ومنهم من ناقش المسألة مناقشة حسابية، رياضية، فانتهى إلى أن الأضمن لحياته، وما بعد حياته: أن يؤمن بالله وبالآخرة والبعث والجزاء. وفي مثل هذا يقول الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري:
قال المنجم والطبيب كلاهمـا |
لا تبعث الأموات، قلت: إليكما |
إن صح قولكما فلست بخاسر |
أو صح قولي فالخسار عليكـما |
إن الذي يؤمن بالله والدار الآخرة لا يخاطر بدنياه الفانية ليربح آخرته الباقية … كلا، إنه بإيمانه يربح الحياتين معاً، ويفوز بالحسنيين في الدنيا والآخرة جميعا. وصدق الله العظيم: )من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة( )للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة، ولدار الآخرة خير(
إن العبادات التي فرضها الدين إنما هي وسائل لتزكية نفس المؤمن وترقية روحه، وما أقل ما يبذل فيها من جهد، إلى جنب ما يكسب وراءها من خير. وإن المحرمات التي حظرها عليه الدين، إنما صان بتحريمها عقله وخلقه ونفسه وماله وعرضه ونسله، فهو إنما )يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم( والدين إذا حرم على الناس شيئاً عوَّضهم ما هو خير منه، مما لا يشتمل على مفسدة الشيء المحرم.
إن المؤمن لم يخسر شيئاً بعبادة الله سبحانه، واتقائه ما حرم الله عليه، وإنما ربح الهدى والاستقامة على الحق، والثبات على الخير، والاستعلاء على الشهوات، وربح بعد ذلك هدوء النفس وطمأنينة الحياة.
مزايا العقيدة الإسلامية
1ـ فهي عقيدة واضحة بسيطة لا تعقيد فيها ولا غموض، تتلخص في أن وراء هذا العالم البديع المنسق المحكم رباً واحداً خلقه ونظمه. وقدَّر كل شيء فيه تقديراً، وهذا الإله أو الرب ليس له شريك ولا شبيه ولا صاحبة ولا ولد )بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون( وهذه عقيدة واضحة مقبولة، فالعقل دائماً يطلب الترابط والوحدة وراء التنوع والكثرة، ويريد أن يرجع الأشياء دوماً إلى سبب واحد. فليس في عقيدة التوحيد ما في عقائد التثليث أو المثنوية ونحوها من الغموض والتعقيد الذي يعتمد دائماً على الكلمة المأثورة عند غير المسلمين “اعتقد وأنت أعمى”.
2ـ وهي عقيدة ليست غريبة عن الفطرة ولا مناقضة لها، بل هي منطبقة عليها انطباق المفتاح المحدد على قفله المحكم، وهذا هو صريح القرآن )فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيِّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون( وصريح الحديث النبوي {كل مولود يولد على الفطرة -أي على الإسلام- وإنما أبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه} متفق عليه. فدل على أن الإسلام هو فطرة الله، فلا يحتاج إلى تأثير من الأبوين. أما الأديان الأخرى من يهودية ونصرانية ومجوسية فهي من تلقين الآباء.
3ـ وهي عقيدة ثابتة محددة لا تقبل الزيادة والنقصان، ولا التحريف والتبديل فليس لحاكم من الحكام، أو مجمع من المجامع العلمية، أو مؤتمر من المؤتمرات الدينية، أن يضيف إليها أو يحوِّر فيها، وكل إضافة أو تحوير مردودة على صاحبها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول {من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد} متفق عليه أي مردود عليه. والقرآن يقول مستنكراً )أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله( وعلى هذا فكل البدع والأساطير والخرافات التي دُست في بعض كتب المسلمين أو أشيعت بين عامتهم باطلة مردودة لا يقرها الإسلام ولا تؤخذ حجة عليه.
4ـ وهي عقيدة “مبرهنة” لا تكتفي من تقرير قضاياها بالإلزام المجرد والتكليف الصارم، ولا تقول كما تقول بعض العقائد الأخرى “اعتقد وأنت أعمى” أو “آمن ثم اعلم” أو “أغمض عينيك ثم اتبعني” أو “الجهالة أم التقوى” بل يقول كتابها بصراحة )قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين( ولا يقول أحد علمائها ما قاله القديس الفيلسوف المسيحي (أوغسطين): “أومن بهذا لأنه محال”! بل يقول علماؤها: إن إيمان المقلد لا يقبل، وكذلك لا تكتفي بمخاطبة القلب والوجدان والاعتماد عليهما أساساً للاعتقاد بل تتبع قضاياها بالحجة الدامغة، والبرهان الناصع، والتعليل الواضح، الذي يملك أزمة العقول، ويأخذ الطريق إلى القلوب، ويقول علماؤها: إن العقل أساس النقل.. والنقل الصحيح لا يخالف العقل الصريح. فنرى القرآن في قضية الألوهية يقيم الأدلة من الكون ومن النفس ومن التاريخ على وجود الله وعلى وحدانيته وكماله. وفي قضية البعث يدلل على إمكانه بخلق الإنسان أول مرة، وخلق السماوات والأرض، وإحياء الأرض بعد موتها، ويدلل على حكمته بالعدالة الإلهية في إثابة المحسن، وعقوبة المسيء {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى} |