خطبة الجمعة 9/4/2014 – سيرة عمر بن الخطاب
خطبة يوم الجمعة 9/7/1435 الموافق 9/4/2014
1- تقدم الكلام في أن أكل الحرام جالب لشرور الدنيا والآخرة من ضيق الصدر وغم النفس وعظم الكرب مع شدة الحساب بين يدي الله عز وجل؛ وقد حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسـلم غاية التحذير وأخبرنا أن أكل الحرام مبينة أنها جالبة للعنة الله ورسوله صلى الله عليه وسـلم، وأنها مانع من إجابة الدعاء، وأنها تجعل على البصر غشاوة، وأنها تحرم العبد من حوض رسول الله صلى الله عليه وسـلم، وأنها سبب لدخول النار، وسبب لحصول الفضيحة يوم القيامة، وسبب لرد العمل وعدم قبوله
2- إن المسلم يزم نفسه بزمام التقوى ولا يتماهى مع رغباتها وشهواتها؛ وهو يعلم يقيناً أنه لو كان له واديان من ذهب لتمنى الثالث ولا يملأ فاه إلا التراب، وقد روى الشيخان في الصحيحين عن سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، أن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: “سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال لي: “يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى” قال حكيم: فقلت يا رسول اللّه: والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر يدعو حكيماً ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئاً، ثم إن عمر دعاه ليعطيه فأبى أن يقبله، فقال: “يا معشر المسلمين إني أعرض عليه حقه الذي قسم اللّه له من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم”.
3- من ولي وظيفة عامة للمسلمين فعليه أن يتقي الله في مال الله سبحانه وتعالى؛ فلا يصطفي لنفسه صفراء ولا بيضاء ولا يخص نفسه بشيء من مال المسلمين، بل عليه أن يتذكر دائماً قول ربنا جل جلالـه {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} ويتعامل مع هذا المال تعامل الشريك الشحيح مع شريكه، ويعلم أن الله تعالى سائله عن النقير والقطمير، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه “إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة ولي اليتيم من ماله، إن أيسرت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف؛ فإن أيسرت قضيت” وكان يقول للناس: “أنا أخبركم بما استحل منه؛ حلتان، حلة في الشتاء، وحلة في القيظ وما أحج عليه وأعتمر من الظهر، وقوتي وقوت أهلي كقوت رجل من قريش، ليس بأغناهم ولا بأفقرهم، ثم أنا بعد رجل من المسلمين يصيبني ما أصابهم”.
لماذا قال عمر هذا الكلام؟ لأنه تعلم من رسول الله صلى الله عليه وسـلم أن الغلول عار وشنار يوم القيامة، وأن من استعمل على عمل فكتم منه شيئاً مخيطاً فما فوقه فهو غلول يأتي به يوم القيامة، يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: وقد عَمِلتْ هذه الآية القرآنية والأحاديث الشريفة عملها في تربية الجماعة المسلمة حتى أتت بالعجب العجاب:
- حُملت الغنائم إلى عمر بعد القادسية وفيها تاج كسرى وإيوانه لا يقوَّمان بثمن، فنظر رضي الله عنه إلى ما أداه الجند في غبطة وقال: “إن قوماً أدوا هذا لأميرهم لأمناء”.
- روى ابن جرير في تاريخه قال: “لما هبط المسلمون المدائن، وجمعوا الأقباض، أقبل رجل بحُقٍّ معه فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال والذين معه: ما رأينا مثل هذا قط ما يعدله عندنا ولا يقاربه، فقالوا: هل أخذت منه شيئاً؟ فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به. فعرفوا أن للرجل لشأناً، فقالوا: من أنت؟ فقال: لا ــ والله ــ لا أخبركم لتحمدوني، ولا غيركم ليقرظوني، ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه، فأتبعوه رجلاً حتى انتهى إلى أصحابه، فسأل عنه فإذا عامر بن عبد قيس”.
- وفي الصحيح عن ثعلبة بن أبي مالك، أن عمر بن الخطاب قسم مروطاً بين نساء من نساء أهل المدينة، فبقي منها مرطٌ جيدٌ، فقال له بعض من عنده: “يا أمير المؤمنين، أعط هذا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عندك، يريدون أم كلثوم بنت عليّ”، فقال عمر: “أم سليط أحق به”، وأم سليط من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر: “فإنها كانت تُزْفِرُ القِرَب يوم أحد”.
- وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: “خرجت مع عمر بن الخطاب إلى السوق، فلحقت عمر امرأةٌ شابةٌ، فقالت: “يا أمير المؤمنين، هلك زوجي، وترك صبية صغاراً، والله ما يُنضِجون كراعاً، ولا لهم زرع ولا ضرع، وخشيت أن تأكلهم الضّبع، وأنا بنت خفاف بن إيماء الغفاري، وقد شهد أبي الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقف معها عمر ولم يمض، ثم قال: “مرحباً بنسب قريب”، ثم انصرف إلى بعير ظَهير كان مربوطاً في الدار، فحمل عليه غراراتين، ملأَها طعاماً، وحمل بينهما نفقة وثياباً، ثم ناولها بخطامه، ثم قال: “اقتاديه فلن يفنى حتى يأتيكم الله بخير”، فقال رجل: “يا أمير المؤمنين، أكثرت لها”، فقال عمر: “ثكلتك أمك، والله إني لأرى أبا هذه وأخاها قد حاصرا حصناً زماناً فافتتحاه، ثم أصبحنا نستفيء سُهْمَانَهُمَا فيه”
- وعن مالك بن أوس قال: “كان رضي الله عنه يحلف على أيمان ثلاث، يقول: “والله ما من أحد أحق بهذا المال من رجل، وما أنا بأحق من أحد، ووالله ما من المسلمين من أحد إلا وله في هذا المال من نصيب إلا عبداً مملوكاً، ولكنا على منازلنا من كتاب الله عز وجل وقسمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقِدَمُه في الإسلام، والرجل وغناه في الإسلام، والرجل وحاجته، والله لئن بقيت لهم ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال، وهو يرعى مكانه”.
- خطب الناس بالجابية، فقال: “من أراد أن يسأل عن القرآن، فليأت أبي بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني، فإن الله تعالى جعلني خازناً وقاسماً، وإني بادئ بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ثم المهاجرين الأوّلين أنا وأصحابي، أخرجنا من مكة من ديارنا، وأموالنا، ثم الأنصار {الَّذِينَ تَبَوَّءْوا الدَّارَ وَالإِيْمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، ثم قال: فمن أسرع إلى الهجرة أسرع به العطاء، ومن أبطأ عن الهجرة أبطأ به العطاء، فلا يلومنّ رجل إلا مناخ راحلته”.
- وعن الربيع بن زياد الحارث: “أنه وفد على عمر رضي الله عنه فأعجبه هيئته، فشكى عمر وجعاً به من الطعام يأكله، فقال: “يا أمير المؤمنين، إن أحق الناس بمطعم طيب، ومبلس لين ومركب وطئ لأنت، وكان متكئاً، وبيده جريدة فاستوى جالساً، فضرب بها رأس الربيع بن زياد، وقال: “والله ما أردت بهذا إلا مقاربتي، وإن كنت لأحسب فيك خيراً! ألا أخبرك بمثلي ومثل هؤلاء؟، إنما مثلنا كمثل قوم سافروا، فدفعوا نفقتهم إلى رجل منهم، فقالوا له: أنفق علينا، فهل له أن يستأثر عليهم بشيء؟”، قال: “لا”.