دخول النصارى إلى المسجد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فإن دخول الكفار إلى مساجد المسلمين جائز إذا كان بإذن من المسلمين لتحقيق مصلحة كدعوتهم إلى الإسلام، أو مناظرتهم لبيان الحق لهم، أو الاستعانة بهم في بعض الأعمال؛ ودليل ذلك:
أولاً: ما ثبت في الصحيحين من قصة ربط ثمامة بن أثال الحنفي t بسارية من سواري المسجد النبوي، وقد كان إذ ذاك مشركاً؛ فقد روى الشيخان من حديث أبي هريرة tقال: بعث رسول الله r خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله r، فقال {ماذا عندك يا ثمامة؟} فقال: يا محمد عندي خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت}
ثانياً: إنزاله r وفد نصارى نجران في مسجده الشريف ومناظرته إياهم فيه. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في (أحكام أهل الذمة) 1/397: وقد صح عن النبي r أنه أنزل وفد نصارى نجران في مسجده، وحانت صلاتهم فصلوا فيه، وذلك عام الوفود بعد نزوله قوله تعالى )إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا( فلم تتناول الآية حرم المدينة ولا مسجدها.ا.هـــــــ وقال رحمه الله في زاد المعاد 3/557 فيها ـ يعني القصة ـ جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين، وفيها: تمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين وفى مساجدهم أيضا إذا كان ذلك عارضاً ولا يمكنون من اعتياد ذلك.ا.هــــــــــــ
ثالثاً: إنزاله r وفد أهل الطائف في مسجده قبل إسلامهم. انظر: زاد المعاد 3/521
رابعاً: دخول بعض الكفار ـ كأبي سفيان بن حرب الأموي وعمير بن وهب الجمحي ـ مسجده r دون نكير؛ قال سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: قد كان أبو سفيان يدخل مسجد المدينة وهو على شركه، وقدم عمير بن وهب فدخل المسجد والنبي r فيه ليفتك به فرزقه الله الإسلام.ا.هــــ
والجواز مقيد بضوابط لا بد من مراعاتها، ومن ذلك أن يكون دخولهم لمصلحة شرعية من دعوتهم إلى الإسلام أو تأليف قلوبهم أو الاستعانة بهم في بناء ونحوه، وألا يكون على أبدانهم أو ثيابهم قذر أو وسخ يتأذى به المسجد، وإذا كان من بين الداخلين نساء فلا يكنَّ متبرجات أو حيضاً؛ وذلك لأننا ـ معشر المسلمين ـ مأمورون بتعظيم المساجد لأنها من شعائر الله )ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب( ومن تعظيمها إبعاد الأذى والقذر عنها وكل ما يدنس حرمتها، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة t أن النبي r قال {إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والقذر} وفي سنن أبي داود ـ وصححه الألباني ـ من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت {أمر رسول الله r ببناء المساجد في الدور ـ يعني الأحياء ـ وأن تنظف وتطيب} وفيه قوله r {إني لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب}
وبذلك يستبين أنه لا حرج في الاستعانة بكافر في بناء المسجد أو صيانته؛ وهذا هو مذهب المالكية رحمهم الله، قال الصاوي رحمه الله تعالى في حاشيته على الشرح الصغير 1/302 تنبيه: يمنع دخول الكافر المسجد أيضاً وإن أذن له مسلم إلا لضرورة عمل، ومنها قلة أجرته عن المسلم وإتقانه، على الظاهر.ا.هــــــ وقال الشيخ محمد عليش رحمه الله تعالى في منح الجليل 1/375: كشخص كافر ذكر أو أنثى فيحرم عليه دخوله إن لم يأذن فيه مسلم، وإن أذن له فيه شخص مسلم إلا لضرورة كعمارة لم تمكن من مسلم أو كانت من الكافر أتقن.ا.هـــ وعند غير المالكية كذلك؛ فقد قال ابن تيمية رحمه الله: وأما نفس بناء المساجد فيجوز أن يبنيها البر والفاجر والمسلم والكافر، وذلك يسمى بناء كما قال النبي {من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة} .ا.هـــــــــ
وأما قوله تعالى )إنما المشركون نجس( فالمراد به نجاسة قلوبهم واعتقادهم لا أنهم نجسون نجاسةً حسيةً، يدل على ذلك أن رسول الله r توضأ من مزادة مشركة وأكل من طعام يهودية، كما أن القرآن الكريم أباح لنا طعام أهل الكتاب ونكاح نسائهم بقوله تعالى )وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم( رغم كونهم مشركين؛ كما قال سبحانه )وقالت اليهود عزير بن الله وقالت النصارى المسيح بن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون + اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون(
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره 4/ 130 عند كلامه عن قوله تعالى )إنما المشركون نجس( أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين دينًا وذاتًا بنفي المشركين، الذين هم نَجَس دينًا، عن المسجد الحرام… إلى أن قال: ودلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك كما دلت على طهارة المؤمن، ولما ورد في الحديث الصحيح {المؤمن لا ينجس} وأما نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات؛ لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب، وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم.ا.هـــــ وقال الإمام الشوكاني رحمه الله في تفسيره فتح القدير 3 / 239: نجس مبالغةً في وصفهم بذلك حتى كأنهم عين النجاسة، أو على تقدير مضاف: أي ذوو نجس؛ لأن معهم الشرك وهو بمنزلة النجس. وقال قتادة ومعمر وغيرهما: إنهم وصفوا بذلك لأنهم لا يتطهرون، ولا يغتسلون، ولا يتجنبون النجاسات . وقد استدل بالآية من قال بأن المشرك نجس الذات، كما ذهب إليه بعض الظاهرية والزيدية وروي عن الحسن البصري، وهو محكيّ عن ابن عباس. وذهب الجمهور من السلف والخلف ومنهم أهل المذاهب الأربعة إلى أن الكافر ليس بنجس الذات؛ لأن الله سبحانه أحلّ طعامهم، وثبت عن النبيّ r في ذلك من فعله وقوله ما يفيد عدم نجاسة ذواتهم، فأكل في آنيتهم، وشرب منها، وتوضأ فيها، وأنزلهم في مسجده.ا.هــــــــ وقال ابن الجوزي رحمه الله في زاد المسير 3 / 164: وفي المراد بكونهم نجساً ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم أنجاس الأبدان، كالكلب والخنزير، حكاه الماوردي، عن الحسن وعمر بن عبد العزيز. وروى ابن جرير عن الحسن قال: من صافحهم فليتوضأ.
والثاني: أنهم كالأنجاس لتركهم ما يجب عليهم من غسل الجنابة، وإن لم تكن أبدانهم أنجاساً، قاله قتادة.
والثالث: أنه لما كان علينا اجتنابهم كما تُجتنب الأنجاسُ، صاروا بحكم الاجتناب كالأنجاس، وهذا قول الأكثرين، وهو الصحيح.ا.هـــــــــــ
الخلاصة
أن القول الراجح هو جواز دخول غير المسلم المسجد إذا كان دخوله يحقق مصلحة، وحتى على قول من منعوا ذلك؛ فإنه لم يفت أحد منهم بحرمة الصلاة أو بطلانها فيما لو دخل المسجد كافر، وعلى من قال بهذا القول أن يتوب إلى الله تعالى من الفتوى بغير علم، والله تعالى أعلم.