رمضان شهر الصبر
/ إن الصبر مزية عظيمة ومنزلة رفيعة، فلذلك بين الله سبحانه وتعالى درجة أهله في كتابه فقال: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} وقال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وقد جعله الله بوتقة لكل الصفات المرضية والقيم الرفيعة، فبعدما ذكر صفات المؤمنين من عباد الرحمن الذين يستحقون رضوانه، قال: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} وكذلك في مجادلة أهل النار قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} فجعل كل ما قاموا به داخلاً في بوتقة الصبر.
2/ وقد رتب الله عليه الأجر العظيم، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوصي به عند المصائب، فقد أرسلت إليه ابنته تدعوه لشهود ولدها، وهو يقعقع -أي: نفسه تقعقع في حال الموت- فأرسل إليها قال: فلتصبر ولتحتسب، فعزمت عليه أن يحضر فأتى صلى الله عليه وسلم ووضع الصبي في حجره حتى فاضت نفسه. وكذلك: (أتى امرأة أخرى وهي عند قبر تبكي، فقال: يا أمة الله! اتقي الله واصبري، فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي، فقيل لها: إنه رسول الله، فندمت وأتته في بيته فلم تلق عنده حاجباً ولا بواباً، فقالت: يا رسول الله إني تائبة ووالله ما عرفتك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى).
3/ على الإنسان أن يعلم أن الجزع قبيح ووصف ذميم، وهو من الخور والضعف، ولا يرد شيئاً من قدر الله سبحانه وتعالى، وإنما يزيد الشامتين شماتة، ويزيد الأعداء تمكناً من الإنسان، ولن يحقق له أي هدف من أهدافه، ولن يوصله إلى أي مستوى من المستويات التي يطلبها؛ ولهذا كان أهل الجاهلية يتجلدون لأعدائهم، حتى قال أحدهم: وتجلدي للشامتين أريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع فالجزع لا خير فيه؛ لأنه اعتراض على الله سبحانه وتعالى في قدره وملكه، وكل ما في هذه الدنيا يتصرف فيه الباري سبحانه وتعالى تصرف المالك في ملكه، فإذا أخذ شيئاً منه فهو الذي منحه من قبل، وهو الذي أخذه بعد ذلك، ولهذا قال: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} فقوله: (قالوا إنا لله)، أي: نحن مملوكون له فتصرفه فينا تصرف المالك في ملكه، وهو نافذ ماض لا اعتراض لنا عليه.
(وإنا إليه راجعون) أي: نحن أيضاً سنعود إليه سبحانه وتعالى، وسيجازينا بحسب أعمالنا، ومن هنا كان الصبر مما يرجى ثوابه عند الله سبحانه وتعالى، وقد أعد لمن صبر وقال ذلك عند المصيبة هذا الجزاء العظيم الذي قال فيه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (نعم العلاوة ونعم الرفدان) فالعلاوة هي قوله: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}، والرفدان {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} فعليهم صلوات وبركات ورحمة منه سبحانه وتعالى، وهم المهتدون بشهادة الله تعالى لهم بذلك.
وقد قال لبيد بن ربيعة العامري رضي الله عنه: وما المال والأهلون إلا وديعة ولا بد يوماً أن ترد الودائع وكذلك فإن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما لما توفي العباس حزن عليه فأتاه الناس للعزاء، وكان منهم رجل من الأعراب فخاطبه بهذين البيتين البليغين فقال:
اصبر نكن بك صابرين فإنما صبر الرعية عند صبر الراس
خير من العباس أجرك بعده والله خير منك للعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــباس
وكذلك فقد كتب أحد العلماء إلى نظير له في العلم ابتلي بمصيبة، فأراد تثبيته فيها فكتب إليه:
إنا معــــــــــــــزوك لا أنّا على ثقة من البقاء ولكن سنة الدين
فما المعزى بباق بعد ميته ولا المعزي وإن عاشا إلى حين
أنواع الصبر
أولاً: الصبر عن معصية الله: بأن يصبر الإنسان نفسه عن المعصية، فيلجمها بلجام التقوى، ويمنعها أن تقع في المعصية أو أن تحبها، أو أن تتعلق بها من أي وجه، وذلك مقتضٍ منه لكراهيته لكل ما كرهه الله له، وهذا النوع من الصبر ثلاثة أقسام: الأول: يصبر القلب بأن لا يحبها وألا يتعلق بها، وألا يجلس في مجالسها، وألا يجالس أهلها وألا يأنس بهم، فذلك كله يرجع إلى القلب والعاطفة.
الثاني الصبر عما يتعلق بمباشرتها وممارستها، فلا يقربها ويقوي وازعه الديني الذي يمنعه من مزاولتها ومواقعتها.
الثالث من الصبر عن المعصية: سرعة الإقلاع إذا استزله الشيطان إليها، والرجوع والتوبة: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ}
والإنسان مطالب بتقوية الوازع الديني الذي يمنعه من الوقوع في المعصية، بأن يعظ نفسه ويذكرها ويحاسبها، وقد روي عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله أن رجلاً أتاه فقال له: إن نفسي لا تطاوعني في ترك المعصية فعظني، فقال: إذا أردت أن تعصي الله فاذهب إلى مكان لا يراك فيه فاعصه، قال: كيف أختفي منه وهو يعلم السر وأخفى، لا تحجب عنه سماء سماءً ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره. فقال: كيف تبارزه بالمعصية وهو يراك وأنت تعلم قدرته عليك؟ فقال: زدني رحمك الله. فقال: إذا أردت أن تعصي الله فاخرج من كل نعمة أنعم بها عليك وردها عليه ثم اعصه. قال: كيف أرد عليه نعمته وأنا من نعمته: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ}؟ قال: كيف تأكل خيره وتستعين به على معصيته، إنه اللؤم؟ قال: زدني يرحمك الله. قال: إذا أردت أن تعصي الله فاخرج من أرضه وسمائه واعصه. قال: إلى أين أخرج من أرضه وسمائه؟ قال: كيف تعصيه في بيته وتحت سلطانه وإمرته وأنت ضيف عنده، إن ذلك غاية ما يمكن من اللؤم؟ فلهذا لا بد أن يعظ الإنسان نفسه ويزجرها حتى يقوي وازعه الذي هو برهان الله في قلبه، فيمنعه من الوقوع في المعصية.
ثانياً: هو الصبر على طاعة الله: وهو يقتضي من الإنسان الصدق إذا قرأ: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} فلا بد أن يجتهد الإنسان في أن يصبر نفسه على طاعة الله، فقد قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} والصبر على طاعة الله ثلاثة أقسام:
الأول: الصبر على طاعة الله قبلها بالاستعداد لها والعزيمة عليها.
الثاني: الصبر عليها في أثنائها بالحضور فيها والخشوع، وأدائها كما شرعها الله.
الثالث: الصبر عليها بعدها بعدم إبطالها باللواحق المبطلة كالمن والأذى والرياء والسمعة، وغير ذلك مما يبطل العمل، نسأل الله السلامة والعافية.