صلاة الجنازة في المقابر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فصلاة الجنازة من فروض الكفايات، وفيها من الأجر العظيم ما لا يقدره إلا الله، وقد ثبت في السنة عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال “مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَها حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ” قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ: “مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ” رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، زاد مسلم: قَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّى عَلَيْهَا ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَلَمَّا بَلَغَهُ حَدِيثُ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ لَقَدْ ضَيَّعْنَا قَرَارِيطَ كَثِيرَةً.
وصلاة الجنازة على مسافة من المقابر لا حرج فيها إن شاء الله، وإنما الخلاف بين أهل العلم في الصلاة على الجنازة وسط المقابر؛ حيث أجازها بعضهم – وهم الحنفية والإمام أحمد في رواية – استدلالاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر المرأة التي كانت تقم المسجد بعدما دفنت؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ – أَوْ شَابًّا – فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلَ عَنْهَا – أَوْ عَنْهُ – فَقَالُوا مَاتَ. قَالَ «أَفَلاَ كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِى». قَالَ فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا – أَوْ أَمْرَهُ – فَقَالَ «دُلُّونِى عَلَى قَبْرِهِ». فَدَلُّوهُ فَصَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ «إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلاَتِى عَلَيْهِمْ». قال القرطبي رحمه الله تعالى في المفهم: قلت: قال بعض مَن لم يُجِز الصلاة على القبر: إنّ القبرَ الرَّطْبَ الذي في حديث ابن عباس، يحتمل أن يكون قبر السوداء التي كانت تقمّ المسجد، وكانت صلاتُه عليه خاصةٌ به؛ لأنه قد قال: “إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإنّ الله ينوّرها بصلاتي عليهم”، فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وغيره لا يعلم ذلك، فكان ذلك خصوصًا به. قال: وهذا ليس بشيء؛ لثلاثة أوجه:
أحدها: أنّا وإن لم نعلم ذلك، لكنّا نظنّه، ونرجو فضل الله سبحانه، ودعاء المسلمين لمن صلّوا عليه.
وثانيها: أنه صلى الله عليه وسلم قد قال: “من صلّى عليه مائة، أو أربعون من المسلمين، شفعوا فيه”، فقد أعلمنا أنّ ذلك يكون من غيره.
وثالثها: أنه كان يلزم منه ألا يصلّى على ميِّتٍ بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لإمكان الخصوصية فيمن صلّى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا باطل.
وأشبه ما قيل في حديث السوداء: أنّه صلى الله عليه وسلم صلَّى على قبرها؛ لأنه لم يصلِّ عليها صلاةً جائزة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الإمام ولم يستخلف، بل قد روي أنه صلى الله عليه وسلم أمَرهم أن يُعلِموه بموتها، فلم يُعلِموه بذلك؛ كراهية أن يشقّوا عليه.ا.هـــــ
واستدلالاً بفعل السلف رضوان الله عليهم؛ قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: ذكر نافع أنه صلي على عائشة وأم سلمة وسط قبور البقيع، صلى على عائشة أبو هريرة، وحضر ذلك ابن عمر، وفعل ذلك عمر بن عبد العزيز.
وذهب بعض أهل العلم – منهم الشافعي وأحمد في رواية – إلى كراهة الصلاة على الجنازة وسط المقابر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم “الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام” رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي. وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال “اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبورا” قال ابن حجر رحمه الله تعالى: نقل ابن المنذر عن أكثر أهل العلم أنهم استدلوا بهذا الحديث على أن المقبرة ليست بموضوع للصلاة.ا.هــــ
وخلاصة الكلام أنه لا حرج عليكم في الصلاة على الجنازة على مسافة من المقابر أو في الساحة الملحقة بها، والعلم عند الله تعالى.