العقيدة

بناء قبة على القبر

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.

فالسنة في القبر أن يرفع قدر شبر فقط ويسنَّم ليُعرف أنه قبر فلا يمتهن ولا يوطأ ولا يُجلس عليه، وهذا الذي فُعل بقبر رسول الله صلى الله علـيه وسلم؛ كما روى البخاري في صحيحه عن سفيان التمار رحمه الله تعالى قال: رأيت قبر رسول الله صلى الله علـيه وسلم مسنما. يعني مرتفعاً عن الأرض مثل سنام البعير. وروى أبو داود عن القاسم بن محمد قال: قلت لعائشة: يا أماه، اكشفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء. قال الحافظ رحمه الله تعالى في الفتح: وَهَذَا كَانَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ فَكَأَنَّهَا كَانَتْ فِي الْأَوَّلِ مُسَطَّحَةً ثُمَّ لَمَّا بُنِيَ جِدَارُ الْقَبْرِ فِي إِمَارَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى الْمَدِينَةِ مِنْ قِبَلِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ صَيَّرُوهَا مُرْتَفِعَةً.ا.هـــــ

وإذا ارتفع القبر عن هذا المقدار ببناء أو غيره فالمشروع تسويته بالأرض لما رواه مسلم في صحيحه أن علياً رضي الله عنه بعث أبا الهياج الأسدي وقال: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله علـيه وسلم: لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته. قال الإمام الشوكاني يرحمه الله: وفي هذا أعظم دلالة على أن تسوية كل قبر مشرف، بحيث يرتفع زيادة على القدر المشروع، واجبة متحتمة، فمن إشراف القبور أن يرفع سمكها، أو يجعل عليها القباب أو المساجد؛ فإن ذلك من المنهي عنه بلا شك ولا شبهة؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لهدمها أمير المؤمنين علياً، ثم أمير المؤمنين بعث لهدمها أبا الهياج الأسدي في أيام خلافته.ا.هـــــ

والبناء على القبور محظور؛ لما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجصَّص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه.

قال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى في نيل الأوطار: والظاهر أن رفع القبور زيادة على القدر المأذون فيه محرم، وقد صرح بذلك أصحاب أحمد وجماعة من أصحاب الشافعي ومالك، ومن رفع القبور الداخل تحت الحديث دخولاً أولياً القبب والمشاهد المعمورة على القبور، وأيضاً هو من اتخاذ القبور مساجد، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعل ذلك، وكم قد سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام، منها: اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام وعظم ذلك، فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضر فجعلوه مقصداً لطلب قضاء الحوائج وملجأً لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم، وشدوا إليها الرحال، وتمسحوا بها واستغاثوا، وبالجملة إنهم لم يدعوا شيئاً مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.ا.هــــــ

وقال الإمام أبو عبد الله بن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (زاد المعاد) 1/505: فَصْلٌ: وَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – تَعْلِيَةُ الْقُبُورِ وَلَا بِنَاؤُهَا بِآجُرٍّ، وَلَا بِحَجَرٍ وَلَبَنٍ وَلَاتَشْيِيدُهَا، وَلَا تَطْيِينُهَا، وَلَا بِنَاءُ الْقِبَابِ عَلَيْهَا، فَكُلُّ هَذَا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، مُخَالِفَةٌ لِهَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ «بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – إِلَى الْيَمَنِ، أَلَّا يَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسَهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّاهُ» ، فَسُنَّتُهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – تَسْوِيَةُ هَذِهِ الْقُبُورِ الْمُشْرِفَةِ كُلِّهَا، «وَنَهَى أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ».

وَكَانَتْ قُبُورُ أَصْحَابِهِ لَا مُشْرِفَةً، وَلَا لَاطِئَةً، وَهَكَذَا كَانَ قَبْرُهُ الْكَرِيمُ، وَقَبْرُ صَاحِبَيْهِ، فَقَبْرُهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مُسَنَّمٌ مَبْطُوحٌ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ لَا مَبْنِيَّ وَلَا مُطَيَّنَ، وَهَكَذَا كَانَ قَبْرُ صَاحِبَيْهِ. وَكَانَ يُعَلِّمَ قَبْرَ مَنْ يُرِيدُ تَعَرُّفَ قَبْرِهِ بِصَخْرَةٍ. ثم قال: فَصْلٌ: وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عَنِ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ، وَإِيقَادِ السُّرُجِ عَلَيْهَا، وَاشْتَدَّ نَهْيُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى لَعَنَ فَاعِلَهُ. وَنَهَى عَنِ الصَّلَاةِ إِلَى الْقُبُورِ، وَنَهَى أُمَّتَهُ أَنْ يَتَّخِذُوا قَبْرَهُ عِيدًا، وَلَعَنَ زُوَّرَاتِ الْقُبُورِ.

وكَانَ هَدْيُهُ أَنْ لَا تُهَانَ الْقُبُورُ وَتُوطَأَ، وَأَلَّا يُجْلَسَ عَلَيْهَا، وَيُتَّكَأَ عَلَيْهَا، وَلَا تُعَظَّمَ بِحَيْثُ تُتَّخَذُ مَسَاجِدَ فَيُصَلَّى عِنْدَهَا وَإِلَيْهَا، وَتُتَّخَذَ أَعْيَادًا وَأَوْثَانًا.ا.هــــــ

وغير خاف على أحد ما يحدث في تلك القباب من ضروب البدع وأنواع المخالفات، من دعاء الأموات والاستغاثة بهم وبذل النذور لهم، والتمسح بجدران تلك القباب وتعليق الخِرَق عليها، وقد نص السائل في سؤاله على أن بعض الناس قد اتخذها وسيلة للتكسب وجمع الأموال من الناس.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ:

كَانَ إِذَا زَارَ قُبُورَ أَصْحَابِهِ يَزُورُهَا لِلدُّعَاءِ لَهُمْ، وَالتَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ، وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، وَهَذِهِ هِيَ الزِّيَارَةُ الَّتِي سَنَّهَا لِأُمَّتِهِ، وَشَرَعَهَا لَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا إِذَا زَارُوهَا: ( «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ» ) .

وَكَانَ هَدْيُهُ أَنْ يَقُولَ وَيَفْعَلَ عِنْدَ زِيَارَتِهَا، مِنْ جِنْسِ مَا يَقُولُهُ عِنْدَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ، مِنَ الدُّعَاءِ وَالتَّرَحُّمِ وَالِاسْتِغْفَارِ. فَأَبَى الْمُشْرِكُونَ إِلَّا دُعَاءَ الْمَيِّتِ وَالْإِشْرَاكَ بِهِ، وَالْإِقْسَامَ عَلَى اللَّهِ بِهِ، وَسُؤَالَهُ الْحَوَائِجَ، وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِ، وَالتَّوَجُّهَ إِلَيْهِ، بِعَكْسِ هَدْيِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَإِنَّهُ هَدْيُ تَوْحِيدٍ وَإِحْسَانٍ إِلَى الْمَيِّتِ، وَهَدْيُ هَؤُلَاءِ شِرْكٌ وَإِسَاءَةٌ إِلَى نَفُوسِهِمْ، وَإِلَى الْمَيِّتِ، وَهُمْ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: إِمَّا أَنْ يَدْعُوَا الْمَيِّتَ، أَوْ يَدْعُوَا بِهِ، أَوْ عِنْدَهُ، وَيَرَوْنَ الدُّعَاءَ عِنْدَهُ أَوْجَبَ وَأَوْلَى مِنَ الدُّعَاءِ فِي الْمَسَاجِدِ،وَمَنْ تَأَمَّلَ هَدْيَ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَأَصْحَابِهِ، تَبَيَّنَ لَهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.ا.هـــــ

وفي شرح المواق عند قول خليل (وَتَطْيِينُ قَبْرٍ أَوْ تَبْيِيضُهُ وَبِنَاءٌ عَلَيْهِ أَوْ تَحْوِيزٌ وَإِنْ بُوهِيَ بِهِ حَرُمَ) مِنْ الْمُدَوَّنَةِ: كَرِهَ مَالِكٌ تَجْصِيصَ الْقُبُورِ وَالْبِنَاءَ عَلَيْهَا لِحَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ تَجْصِيصِهَا. الْمَازِرِيُّ: مَعْنَاهُ تَبْيَضُّ بِالْجِيرِ أَوْ بِالتُّرَابِ الْأَبْيَضِ وَالْقَصَّةُ الْجِيرُ وَهُوَ الْجَصُّ. انْتَهَى نَصُّ الْمَازِرِيِّ. ابْنُ يُونُسَ: لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا. ابْنُ رُشْدٍ: الْبِنَاءُ عَلَى نَفْسِ الْقَبْرِ مَكْرُوهٌ وَأَمَّا الْبِنَاءُ حَوَالَيْهِ فَإِنَّمَا يُكْرَهُ مِنْ جِهَةِ التَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ وَلَا بَأْسَ بِهِ فِي الْأَمْلَاكِ.

وَقَالَ اللَّخْمِيِّ: لَا بَأْسَ بِالْحَائِطِ الْيَسِيرِ الِارْتِفَاعِ لِيَكُونَ حَاجِزًا بَيْنَ الْقُبُورِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ عَلَى النَّاسِ مَوْتَاهُمْ مَعَ غَيْرِهِ لِيُتَرَحَّمَ عَلَيْهِمْ وَيُجْمَعَ إلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ. وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْفِنَ فِي مَقْبَرَةِ غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَضْطَرَّ فَلَا يُمْنَعُ لِأَنَّ الْجَبَّانَةَ أَحْبَاسٌ لَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ فِيهَا شَيْئًا. وَأَفْتَى ابْنُ رُشْدٍ بِهَدْمِ مَا بُنِيَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الرَّوْضَاتِ وَالْقِبَابِ إلَّا إنْ كَانَ فِي مِلْكِ بَانِيهَا فَلَا يُمْنَعُ. ابْنُ عَرَفَةَ: إنْ كَانَتْ حَيْثُ لَا يَأْوِي إلَيْهَا أَهْلُ الْفَسَادِ.

(وَجَازَ لِلتَّمْيِيزِ كَحَجَرٍ أَوْ خَشَبَةٍ بِلَا نَقْشٍ) ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ: لَا بَأْسَ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْقَبْرِ حَجَرٌ أَوْ خَشَبَةٌ أَوْ عُودٌ يَعْرِفُ بِهِ الرَّجُلُ قَبْرَ وَلِيِّهِ مَا لَمْ يُكْتَبْ فِي ذَلِكَ، وَلَا أَرَى قَوْلَ عُمَرَ: ” لَا تَجْعَلُوا عَلَى قَبْرِي حَجَرًا ” إلَّا أَنَّهُ أَرَادَ مِنْ فَوْقِهِ عَلَى مَعْنَى الْبِنَاءِ. ابْنُ حَبِيبٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يُجْعَلَ فِي طَرَفِ الْقَبْرِ الْحَجَرُ الْوَاحِدُ لِئَلَّا يَخْفَى مَوْضِعُهُ إذَا عَفَا أَثَرُهُ. ابْنُ عَرَفَةَ: قَالَ الْحَاكِمُ: لَيْسَ، الْعَمَلُ عَلَى أَحَادِيثِ النَّهْيِ عَنْ الْبِنَاءِ وَالْكَتْبِ عَلَى الْقَبْرِ فَإِنَّ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ شَرْقًا وَغَرْبًا مَكْتُوبٌ عَلَى قُبُورِهِمْ وَهُوَ عَمَلٌ أَخَذَهُ الْخَلَفُ عَنْ السَّلَفِ.ا.هــــــ التاج والإكليل لمختصر خليل 2/66

وعليه فإنه لا يشرع لك عمارة تلك القبة ولا إعادة بنائها، بل الواجب على من قدر أن يسعى في هدمها رعاية لحق الدفين ولئلا يرتكب في قبره ما يخالف ما أمر به رسول الله صلى الله علـيه وسلم.

هذا ويستحب أن يجعل عند رأس الميت علامة شاخصة يعلم بها أنه قبر؛ لفعل رسول الله صلى عليه وسلم ذلك عند دفن عثمان بن مظعون رضي الله عنه كما في سنن أبي داود، والعلم عند الله تعالى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى