خطبة الجمعة 18/6/2010 – أحب لأخيك ما تحب لنفسك
خطبة يوم الجمعة 6/7/1431 الموافق 18/6/2010
1ـ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد؛ فإن الناظر في أخلاق الناس من حوله يجد أكثرهم قد استولت عليه الأثرة؛ وزُيِّن له سوء عمله فرآه حسناً؛ حتى ما عاد يفكر إلا في نفسه، ولا يهتم إلا بشهواته؛ لا يتمنى الخير لغيره، ولا يكف أذاه عن إخوانه؛ ولا يتورع عن إيصال الضر إليهم بالغش والحسد والغيبة والنميمة والعدوان؛ ما دام ذلك يوفِّر له بعض ما يريد، قد يبادر إلى أكل الحرام أو قتل النفس أو أكل لحوم الناس واستباحة أعراضهم من أجل الوصول إلى أغراضه وتحقيق أهدافه التي قد يكون فيها حتفه وضياع آخرته؛ مما يتنافى مع أصول الإيمان وقواعد الإسلام، وقد روى أبو حمزة أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه} رواه البخاري ومسلم
2ـ وفي معنى هذا الحديث حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر} خرَّجاه في الصحيحين، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي هريرة رضي الله عنه {اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِناً، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِماً، وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ القَلْبَ} خرَّجه الترمذي وابن ماجه، ومن حديث معاذ رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الإيمان، قال {أفضل الإيمان أن تحب لله وتبغض لله، وتُعمل لسانك في ذكر الله} قال: وماذا يا رسول الله؟ قال {أن تحب للناس ما تحب لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك، وأن تقول خيراً أو تصمت} وقد رتَّب النبي صلى الله عليه وسلم دخول الجنة على هذه الخصلة فروى الإمام أحمد عن يزيد بن أسد القسري رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم {أتحب الجنة؟} قلت: نعم، قال {فأحب لأخيك ما تحب لنفسك} وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، ويأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه}
3ـ ومن تطبيقات هذا الحديث النبوي الشريف في عهد النبوة وحياة السلف
- في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم {يا أبا ذر، إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمَّرن على اثنين، ولا تولَّين مال يتيم} قال ابن رجب رحمه الله تعالى: وإنما نهاه عن ذلك، لما رأى من ضعفه، وهو صلى الله عليه وسلم يحب هذا لكل ضعيف، وإنما كان يتولى أمور الناس؛ لأن الله قواه على ذلك، وأمره بدعاء الخلق كلهم إلى طاعته، وأن يتولى سياسة دينهم ودنياهم.
- وقد روي عن علي رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم {إني أرضى لك ما أرضى لنفسي، وأكره لك ما أكره لنفسي، لا تقرأ القرآن وأنت جنب، ولا وأنت راكع، ولا وأنت ساجد}
- وقال ابن عباس رضي الله عنهما {إني لأمر بالآية من القرآن فأفهمها فأود أن الناس كلهم فهموا منها ما أفهم}
- وقال الشافعي رحمه الله تعالى: وددت أن الناس كلهم تعلَّموا هذا العلم ولم يُنسب إليَّ منه شيء.
- وفي تفسير قوله تعالى )تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً( قال عليٌّ رضي الله عنه وغيره: هو أن لا يحب أن يكون نعله خيراً من نعل غيره، ولا ثوبه خيراً من ثوبه.
- وكان محمد بن واسع رحمه الله: يبيع حماراً له، فقال له رجل: أترضاه لي؟ قال: لو رضيته لم أبعه. وهذه إشارة منه إلى أنه لا يرضى لأخيه إلا ما يرضى لنفسه، وهذا كله من جملة النصيحة لعامة المسلمين التي هي من جملة الدين.
- وكان عتبة الغلام إذا أراد أن يفطر يقول لبعض إخوانه المطلعين على أعماله: أخرج إليَّ ماء أو تمرات أفطر عليها؛ ليكون لك مثل أجري.
4ـ ومعاني مفردات هذا الحديث كما قال أهل العلم:
لا يؤمن: قال العلماء: يعني لا يؤمن من الإيمان التام، وإلا فأصل الإيمان يحصل لمن لم يكن بهذه الصفة
يحب لأخيه: المراد يحب لأخيه من الطاعات والأشياء المباحات، ويدل عليه ما جاء في رواية النسائي {حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه} قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: وهذا قد يعد من الصعب الممتنع؛ وليس كذلك إذ معناه: لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه في الإسلام ما يحب لنفسه، والقيام بذلك يحصل بأن يحب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها بحيث لا ينقص عليه شيء من النعمة، وذلك سهل قريب على القلب السليم، وإنما يعسر على القلب الدغل عافانا الله تعالى وإخواننا أجمعين… وقال أبو الزناد: ظاهر هذا الحديث التساوي وحقيقته التفضيل؛ لأن الإنسان يحب أن يكون أفضل الناس؛ فإذا أحب لأخيه مثله فقد دخل هو في جملة المفضولين!! ألا ترى أن الإنسان يحب أن ينتصف من حقه ومظلمته؟ فإن أكمل إيمانه وكان لأخيه عنده مظلمة أو حق بادر إلى إنصافه من نفسه وإن كان عليه فيه مشقة
ويحكى أن الفضيل بن عياض قال لسفيان بن عيينة: إن كنت تريد أن يكون الناس مثلك فما أديت لله الكريم النصيحة فكيف وأنت تود أنهم دونك؟
من فوائد الحديث
- وجوب النصيحة لكل مسلم
- من النصيحة محبة الخير للمسلم، وكراهة الشر له، كما يحب المرء لنفسه ويكره لنفسه
- النصيحة من الإيمان
- الإيمان يتفاضل؛ فإن النفي في الحديث نفي لكمال الإيمان الواجب، فإن الإيمان لا ينفى إلا لترك واجب، ولا ينفى لترك مستحب، وإلا للزم جواز نفي الإيمان عن أكثر المؤمنين، كما أوضح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية
- النصيحة موجب الأخوة الإيمانية، فذكر الأخوة من بواعث القيام بحقوقها، فهي علة الحكم وموجبه
- الأخوة في الله فوق أخوة النسب؛ فحقها أوجب
- حق الأخوة الإيمانية عام للمؤمنين والمؤمنات كما قال تعالى )والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض( وقال سبحانه )إنما المؤمنون إخوة(
- تحريم كل ما ينافي هذه المحبة من الأقوال والأعمال كالغش والغيبة والنميمة والحسد والعدوان على نفس المسلم أو ماله أو عرضه
- لما نفى النبي r الإيمان عمن لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه دل على أن ذلك من خصال الإيمان، بل من واجباته، فإن الإيمان لا ينفي إلا بانتفاء بعض واجباته، كما قال {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن}
- قال بعض العلماء: في هذا الحديث من الفقه أن المؤمن مع المؤمن كالنفس الواحدة فينبغي أن يحب له ما يحب لنفسه من حيث إنهما نفس واحدة كما جاء في الحديث الآخر {المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر}
- ينبغي للمؤمن أن يحزن لفوات الفضائل الدينية، ولهذا أمر أن ينظر في الدين إلى من فوقه، وأن ينافس في طلب ذلك جهده وطاقته، كما قال تعالى )وفي ذلك فليتنافس المتنافسون( ولا يكره أن أحدا يشاركه في ذلك، بل يحب للناس كلهم المنافسة فيه، ويحثهم على ذلك، وهو من تمام أداء النصيحة للإخوان
- وينبغي للمؤمن أن لا يزال يرى نفسه مقصِّراً عن الدرجات العالية، فيستفيد بذلك أمرين نفيسين: الاجتهاد في طلب الفضائل، والازدياد منها، والنظر إلى نفسه بعين النقص، وينشأ من هذا أن يحب للمؤمنين أن يكونوا خيراً منه؛ لأنه لا يرضى لهم أن يكونوا على مثل حاله، كما أنه لا يرضى لنفسه بما هي عليه، بل يجتهد في إصلاحها، وقد قال محمد بن واسع لابنه: أما أبوك فلا كثَّر الله في المسلمين مثله