خطبة الجمعة 26/9/2014 – ابوبكر الصديق 2
خطبة يوم الجمعة 2/12/1435 الموافق 26/9/2014
- الحمد لله رب العالمين، أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، {أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله .. تركنا على المحجة البيضاء . . ليلها كنهارها .. لا يزيغ عنها إلا هالك . . صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وصحبه أعلام الهدى ، ومصابيح الدجى ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ، وسار على نهجهم واقتفى. أما بعد.
- فقد مضى معنا طرف من الكلام في سيرة الصديق أبي بكر عليه من الله الرضوان، وكيف أنه كان الصاحب المجتبى والحبيب المصطفى والخليل الأثير على رسول الله صلى الله عليه وسـلم؛ فهو أحب الناس إليه وأثرهم لديه وأعظمهم قدرا لما كان منه من سابقة إلى الإسلام وجهاد في سبيل الله الملك العلام، مع صدق ويقين ومحبة وسعة علم وصلاح عمل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسـلم وهو عنه راض، ولا زلنا نتفيأ ظلال هذه السيرة العطرة من أجل أن نزداد حباً لأبي بكر ومعرفة بقدر أبي بكر ومنزلة أبي بكر، سائلين الله تعالى أن يحيينا على سنة أبي بكر، وأن يميتنا على ملة أبي بكر، وأن يحشرنا في زمرة أبي بكر.
- أيها المسلمون عباد الله: لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسـلم وتعذر عليه الخروج إلى الصلاة. قال مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس. أخرج البخاري ومسلم، وابن خزيمة، وابن حبان وغيرهم من أهل الصحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: «مرض النبي – صلى الله عليه وسلم – فاشتد مرضه، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق متى يقوم مقامك لا يستطيع أن يصلي بالناس. قال: مري أبا بكر فليصل بالناس، فعاودت، فقال: مري أبا بكر فليصل بالناس فإنكن صواحب يوسف، فأتاه الرسول فصلى بالناس في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – » وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما ثقل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جاء بلال يؤذنه بالصلاة فقال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» فقلت يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس. قالت فقلت لحفصة: قولي له إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر. فقالت له: فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس. قالت: فأمروا أبا بكر يصلي بالناس» فصلى بهم مدة مرضه – صلى الله عليه وسلم – من يوم الخميس إلى يوم الخميس إلى يوم الاثنين
4- وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات حقاً فكيف الحياة بدونه؟ ووراء من يصلون؟ وإلى نصح من ينصتون؟ من يعلمهم؟ ومن يربيهم؟ ومن يبتسم في وجوههم؟ ومن يرفق بهم؟ ومن يأخذ بأيديهم؟ إنها كارثة وأي كارثة؟ وأظلمت المدينة، وأصاب الحزن والهم كل شيء فيها، ليس الصحابة فقط بل نخيل المدينة وديارها وطرقها وطيورها ودوابها، فإذا كان جذع النخلة قد حن لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما فارقه ليخطب من فوق المنبر بدلاً منه حتى سمع الصحابة لجذع النخلة أنيناً، وحتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح بيده على الجذع حتى سكن، إذا كان الجذع فعل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم فارقه إلى منبر يبعد عنه خطوات معدودات فكيف بفراق لا رجعة فيه إلى يوم القيامة؟ فالصحابة ماذا يفعلون؟ أتطيب نفوسهم أن يهيلوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لقد تقطعت قلوب الصحابة، وتمزقت نفوسهم، وتحطمت مشاعرهم. يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: “ما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت يوماً قط كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم” ويقول رضي الله عنه: قدم رسول الله صلى الله عليه وسـلم المدينة يوم الاثنين ضحى فأنار منها كل شيء، وتوفي يوم الاثنين ضحى فأظلم منها كل شيء؛ وما إن نفضنا أيدينا من تربته حتى أنكرنا قلوبنا‼ يقول أبو سفيان بن الحارث رضي الله عنه:
لقد عظمت مصيبتنا وجلت عشية قيل قد قبض الرسول
وأضحت أرضنا مما عراها تكاد بنا جوانبها تميل
فقدنا الوحي والتنزيل فينا يروح به ويغدو جبرئيل
وذاك أحق ما سالت عليه نفوس الناس أو كادت تسيل
نبي كان يجلو الشك عنا بما يوحى إليه وما يقول
ويهدينا فلا تخشى ضلالاً علينا والرسول لنا دليل
أفاطم إن جزعت فذاك عذر وإن لم تجزعي ذاك السبيل
فقبر أبيك سيد كل قبر وفيه سيد الناس الرسول
- أما الصديق أبو بكر رضي الله عنه فقد كان موقفه غير الناس؛ أقبل أبو بكر على فرسه من مسكنه بالسنح ونزل عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكلم الناس، ودخل المسجد، ومنه دخل إلى بيت عائشة رضي الله عنها حيث مات رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدرها، فتوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغطى بثوب، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله وبكى، عبرات لا بد منها، انحدرت ساخنة حارة على وجنتي الصديق رضي الله عنه وأرضاه لفراق حبيب عمره ودرة قلبه وقرة عينه، ثم قال الصديق وقلبه يتفطر: (بأبي أنت وأمي، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها) في الصحيحين عن ابن عباس: «أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس. فقال: اجلس يا عمر، فأبى أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر. فقال أبو بكر: أما بعد فمن كان منكم يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} قال: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله قد أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فنقلها الناس كلهم فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها، فأخبرني المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، وعلمت أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد مات»
- خطبته رضي الله عنه في الناس عند اجتماعهم بالسقيفة، وكيف عصم الله المسلمين من الفتنة بتلك الخطبة العصماء التي أصلت وبينت وحفظت “يا معشر الأنصار: إن رسول الله صلى الله عليه وسـلم قد أوصانا أن نقبل من محسنكم وأن نتجاوز عن مسيئكم، وإن الله تعالى قد سمانا في كتابه الصادقين وسماكم المفلحين، وأمركم أن تكونوا معنا حيث كنا؛ فقال {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} وقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسـلم قد قال “الأئمة من قريش” وقال “لن تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش” وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين: عمر بن الخطاب أو أبا عبيدة بن الجراح فبايعوا أيهما شئتم”
- أما حاله حين ولي الخلافة، حين ولي مقاليد الأمة، فهو الحال الذي تفتقده أمة الإسلام اليوم في ولاتها وحكامها، وجدير بكل من ولي من أمر المسلمين شيئا أن يتأمل سيرته وحاله في ولايته، أرأيتم خطبته حين تولى فماذا قال؟! “أيها الناس إني قد وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، الضعيف فيكم قوي حتى آخذ الحق له، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه، لا يدع قوم الجهاد إلا خذلهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمَّهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيتهما فلا طاعة لي عليكم” هذا هو دستور أبي بكر في خلافته وولايته، فهل كانت هذه خطبة رنانة، وأقوالاً فضفاضة، كالتي تنشر على شعوب الإسلام اليوم ولا يطبق حرف؟ هل كان قوله هذا غشاً أو تجارة أو دعوة لانتخابه فقط؟ لا؛ إنه أبو بكر، إنه الصديق.