صندوق تكافلي للحج
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
فقد أوجب الله الحج على المستطيع؛ فقال سبحانه وتعالى {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} والواجبات الشرعية عامة منوطة بالقدرة، والأصل الشرعي المطرد في ذلك قوله تعالى {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} وقوله {لا تكلف نفس إلا وسعها} وقوله {لا نكلف نفساً إلا وسعها} وقوله {لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها} وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أن ملك الزاد والراحلة مع أمن الطريق مما تتحقق به الاستطاعة، أما غير المستطيع فلا إثم عليه ولا حرج.
وما جرت عليه عادة بعض الجهات الحكومية أو الخاصة من إقامة صندوق تكافلي يساهم فيه نفر من الناس من منسوبي الجهة المعنية بقسط شهري، ثم تجرى قرعة لاختيار عدد منهم للذهاب للحج أو العمرة، إنما هو من التعاون على البر والتقوى، ولا حرج في ذلك، ولا حرج في دعمه من جهات خاصة كالشركات المملوكة للأفراد ونحوها.
أما دعمه من المال العام – كوزارة المالية أو غيرها من الوزارات – فلا يجوز؛ وذلك لأن صرف المال العام إنما يكون بحسب المصلحة، وليس كل ما يتصوره الناس مصلحة يكون كذلك في نفس الأمر، وليس تقديرها موكولاً لأهواء الناس ـ حكاماً أو غيرهم ـ بل المصلحة الشرعية المعتبرة ما توافر فيها ثلاثة شروط:
الشرط الأول: كونها خالصة أو راجحة، فإن كانت المصلحة مساوية للمفسدة فلا يشرع الإنفاق حينئذٍ، وكذا لو كان لا يحقق أي مصلحة من باب أولى. ويشمل ذلك مصالح المسلمين الدينية والدنيوية، أما الدينية فكالإنفاق على الدعوة إلى الله ونشر العلم الشرعي، والجهاد إعلاء لكلمة الله وحماية لثغور المسلمين والذود عن حياضهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يتبع ذلك من تقرير النفقات للقائمين على تلك الوظائف كلها من الجنود والمحتسبين والأئمة والمؤذنين والمعلِّمين.
وأما الدنيوية فتشمل العلوم النافعة من طبية وهندسية وبيطرية وإنسانية، وكفالة العيش الكريم لعموم المسلمين بما يصونهم عن السؤال، بإطعام جائعهم وكسوة عاريهم وإيواء من لا يجد مأوى، وكذلك صيانة منشآتهم وتيسير معاشهم؛ مما لا قوام للدنيا إلا به.
الشرط الثاني: كون المصلحة عامة؛ أي يعود نفعها على عموم المسلمين، وذلك كتعبيد الطرق وتشييد المساجد والمدارس والمشافي وبناء الجسور وشق الترع أو ما كان يعود على طائفة منهم ـ بأوصافهم وأعمالهم لا بأشخاصهم وذواتهم؛ وذلك كرواتب موظفي الدولة أو عطاء أهل الحاجات الذين لم يسد حاجاتهم مال الزكاة، فإن الإنفاق على هؤلاء من المال العام وإن كان ظاهره إعطاء أفراد، إلا أن الإعطاء لم يكن لذواتهم، بل إما لقيامهم بمصالح المسلمين، فيجب على المسلمين القيام بكفايتهم نظير ما قاموا به من مصالحهم، أو لما قام بهم من الحاجة التي يجب على المسلمين سدها، والمال العام محل ذلك، إن لم يكف مال الزكاة.
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى: لا يجوز صرف المال إلا لمن فيه مصلحة عامة، أو هو محتاج إليه عاجز عن الكسب.[1] وقال العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى: وكل تصرف جرَّ فساداً، أو دفع صلاحاً فهو منهي عنه، كإضاعة المال بغير فائدة[2]. وقد اشتد نكير أهل العلم على من ظن أن لولي الأمر أن يتصرف في مال المسلمين العام بحسب هواه، اعتقاداً منهم أنه ملكه، يتصرف فيه بما شاء، قال البلاطنسي: واعتقد الجهال أن للسلطان أن يعطي من بيت المال ما شاء لمن شاء، ويقف ما شاء، على من يشاء، ويرزق ما يشاء، لمن يشاء، من غير تمييز بين مستحق وغيره، ولا نظر في مصلحة، بل بحسب الهوى والتشهي، وهو خطأ صريح، وجهل قبيح، فإن أموال بيت المال لا تباح بالإباحة[3].
الشرط الثالث: كون المصلحة متحققة أو يغلب الظن بتحققها، ولا يكفي مجرد الظن، قال ابن جماعة وأما من ليس في عطائه مصلحة عامة، بل قصدت مصلحة خاصة، كمن يعطى لمجرد ظن صلاحه؛ لوجاهته، من غير حاجة.. فلا يجوز صرف مال المسلمين إليه[4] ووجه ذلك: حتى لا تتخذ المصلحة ستاراً يوارى به التصرف الضار بالمال العام.
فصرف المال العام يكون مرتباً حسب الأولويات التي يحددها الشرع في حفظ الضرورات الخمس، التي هي الدين والنفس والعرض والعقل والمال، قال الشافعي رحمه الله تعالى: (منزلة الإمام من الرعية منزلة الولي من اليتيم) فليس للدولة صرف المال العام ليحج بعض رعيتها، وفي البعض الآخر يوجد الفقير الجائع والمريض المتأوه الذي لا يجد ثمن الدواء، وفيهم من هو معرَّض للارتداد عن دين الله – عياذاً بالله – من أجل غذاء يسد جوعته أو لباس يستر عورته أو علاج يداوي علته.
ثم إن هذا الباب لو فتح فإنه سيتقدم كثيرون من جهات متعددة لنيل الامتياز نفسه مما يكلف خزينة الدولة مالاً كثيراً هي في حاجة إليه لسد ضرورة الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسـلم (إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق أولئك لهم النار يوم القيامة) والله تعالى أعلم.
(4) تحرير الأحكام لابن جماعة 1/100