خطبة يوم الجمعة 12/5/1440 الموافق 18/1/2019
الحمد لله الذي له مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الحليم الغفور الشكور الصبور، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه.
1/ ما زالت تلك الأزمة التي سببت الاحتقان الحاصل في بلادنا تتابع نتائجها وتتوالى حلقاتها، وأسوأ ما هنالك سقوط عدد من القتلى يزداد عددهم يوماً بعد يوم، أسأل الله تعالى أن يتقبلهم في الصالحين، وأن يرفع درجتهم في عليين، وأن يخلفهم في عقبهم في الغابرين، وأن يربط على قلوب ذويهم، وأن يجعل مثواهم جنة النعيم، وقد أصيب في تلك الأحداث كذلك إخوة لنا وبنوهم ممن لا شك في دينهم ولا وطنيتهم ولا في حرصهم على الخير، ومع ذلك لم يتكلموا بالهجر من القول، ولا نطقوا زورا، ولا مارسوا فجورا، بل اعتصموا بالله صابرين غير شاكِّين في عدالة القضية التي من أجلها خرجوا وفي سبيلها أصيبوا
2/ إن هذه الأحداث العاصفة التي تمر بها بلادنا قد أفرزت أزمة كبيرة واجبٌ على أهل الغيرة ووجهاء الملة أن يتداعوا لعلاجها والحدِّ من نتائجها؛ نصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، أعني بذلك أزمة الأخلاق التي تمثلت في مظاهر كثيرة، مع علمنا بأن الدين كله خلق، ومن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في الدين، وأن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم، وأنه ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وأن أقرب الناس مجلساً من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة أحساننا أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون، وأن أبعدهم مجلساً منه يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون؛ قيل: ما المتفيقهون يا رسول الله؟ قال (المتكبرون)
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتماً وعويلا
3/ ومن مظاهر أزمة الأخلاق التي نراها رأي عين في هذه الأيام:
- الكذب الصراح والتلفيق العجيب الذي يمارسه فئام من الناس في الفضاء المفتوح وقد أمنوا العقوبة الدنيوية من البشر، حيث لا حسيب ولا رقيب، لكنني أذكِّرهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب) وحين رأى صلى الله عليه وسلم رجلاً يُشَرشَر شدقُه إلى قفاه وأنفه إلى قفاه؛ سأل الملك عليه السلام (ما هذا) قيل له: (هذا الذي يخرج من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق) في أيامنا هذه يقول من شاء ما شاء، ويكذب من شاء على من شاء، وكل من أراد أن يشين خصماً له بتهمة أو كلمة فإنه يطلقها غير آبه بعواقبها، مع يقيننا أن الظلم كله حرام، صدر من حاكم أو محكوم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال)
- التزوير الذي يمارسه كثير من الناس حين يركبِّون أخباراً على صور لا علاقة لها بالخبر، ويأخذون خبراً صحيحاً يبنون عليه أخباراً كاذبة؛ حالهم كحال الكهان الذين يأخذون كلمة فيخلطون معها مائة كذبة
- قطيعة الأرحام التي هي موجبة للعنة الله عز وجل {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم. أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم} فكل من كان له خلاف مع بعض أرحامه نشر خبراً بأن آل فلان يتبرؤون من فلان لأنه قتل المتظاهرين أو فعل كذا أو كذا، وهو كاذب فيما قال وما أراد بذلك إلا أن يثلم عرضه ويشين سمعته
- عقوق الوالدين حين يكتب بعضهم مفاخراً بأنه خرج متظاهراً على الضد من رغبة أمه أو أبيه، وما درى المسكين أن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل الجهاد وأبركه وأطيبه ما كان يأذن فيه إلا بعد إذن الوالدين
- العنصرية البغيضة والجاهلية المقيتة التي يحاول بعض الناس النفخ في نارها وتأجيج أوارها غير آبه بما تؤول إليه من حصول العداوة والبغضاء بين المؤمنين، حين يعمد إلى شتم جنس ما أو قبيلة ما، وهو في هذا يهمل قول نبينا صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتفاخرها بالآباء، الناس رجلان مؤمن تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله) (ومن افتخر بتسعة آباء ماتوا على الكفر فهو عاشرهم في النار)
- إهمال مكارم الأخلاق التي ربينا عليها في توقير الكبير ورحمة الصغير وإنزال الناس منازلهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم وذي السلطان المقسط وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه) وقال عليه الصلاة والسلام (ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه)
- من أعظم الأزمات في هذه الأحداث أن بعض الناس من المجهولين – عيناً أو حالا – وبعض الناس ممن ليسوا فوق مستوى الشبهات قد أعطى نفسه الحق في تصنيف الناس ومنحهم صكوك الغفران أو قرارات الحرمان؛ فمن وافقهم فيما يشتهون فهو الوطني الغيور، ومن خالفهم في قليل أو كثير فهو الخوان الكفور، وإني قائل لكل واحد من هؤلاء:
ما أنت بالحكم الترضى حكومته ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل
- شتيمة ضيوف البلاد من إخواننا من الشعوب المنكوبة الذين أووا إلينا؛ بعض مرضى القلوب وجدها فرصة لينفث أحقاده ويظهر ضغينته تجاه إخوة لنا في الدين ما كان لهم فيما يحصل من ناقة ولا جمل
4/ قد كان بالأمس لقاء لثلة من أهل العلم والدعاة إلى الله تعالى مع رئيس الجمهورية، وقد سلموه نصيحة مكتوبة قرئت عليه، ثم أتيحت الفرصة للكلام، والقضايا التي تناولتها في حديثي سبعة كنت أرجو أن تظل قيد الكتمان، لكنني أذكرها لكم لأن صوراً قد نشرت، ولربما يفهم الأمر على غير وجهه، خلاصتها:
- أن الدين أبقى من الأشخاص، ومتى ما حصل التعارض فإن مصلحة الدين مقدم، ومن أجل الدين يذهب الأشخاص
- وأن هذا الشعب – في سواده الأعطم – محبٌّ للدين حريص عليه
- وأن الدولة مسئولة عن الدماء التي تراق؛ مع التذكير بقوله تعالى {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيما} وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه (لمسلم واحد أحب إلي من الروم وما حوت)
- والتذكير بحرمة تولية الأمر غير أهله وأن في ذلك تضييعاً للأمانة مع التذكير بقول النبي صلى الله عليه وسلم (من ولى رجلاً على عصابة من المسلمين وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله)
- وجوب كفِّ الأيدي عن المال العام ومحاسبة من اعتدوا عليه أياً كانوا، وأن يرى الناس في ذلك إجراءات جادة وحازمة، وأن الدعاة إلى الله تعالى قد بحت أصواتهم من التذكير بهذا الأمر والتحذير من مغبة التقصير فيه
- وجوب محاسبة المسئولين المقصرين الذين أفضى تقصيرهم إلى هذه الأزمات المتتابعة التي أخذ بعضها بخناق بعض
- وأنه لا بد من تطييب خواطر الناس بالكلام الطيب والوعد الصادق، لا استفزازهم وإثارة حفيظتهم بتصريحات هوجاء وكلام يزيد النار اشتعالا
5/ أيها المسلمون: من أفحش ما كان خلال هذه الأحداث أن بقايا أعداء الدين من خفافيش الظلام قد اهتبلوها فرصة ليركبوا على أماني المساكين وأحلام المحرومين فينفثوا سموهم ضد الدين وأهله؛ محمِّلين الدين وأهله مسئولية ما آلت إليه الأوضاع؛ زاعمين إفكاً وزورا حين يقولون: لا تنصتوا إلى من يقول لكم: إن الخلل في البشر لا في الدين!! {قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر} {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا} فالدين ما كان إلا باباً لرحمة الله ورضوانه، والاستمساك بالدين سببٌ لكل خير في الدنيا والآخرة، كما أن الذي يحيط بالناس من أزمات ومشاكل سببه البعد عن الدين، الدين الذي يأمرنا بالأخذ بالأسباب، الدين الذي يأمرنا بالضرب في مناكب الأرض، الدين الذي ينهانا عن الفساد
إن هؤلاء الشيوعيين ومن لفَّ لفَّهم ممن يحلمون بزمان سلف وعقود غبرت حين كان لهم الصوت العالي والأمر المطاع قد عظم على هذا الشعب حقدهم لأنه كرههم ولفظهم، فظنوا في هذه الأحداث فرصة للعودة من جديد، وإني قائل لهم: {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} هذا الشعب شعب مسلم، لن يرضى بغير الإسلام ديناً، وبالقرآن إماماً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم هادياً وقائدا
6/ قد كان في الجمعة التي مضت تلك الأحداث التي علمتم مما وقع في هذا المسجد المبارك عقيب الصلاة، وقد اضطررت لإصدار بيان في مساء اليوم نفسه رداً على سلسلة من الأكاذيب انطلقت في ساعات معدودات، وإنني أقسم بالله العظيم الذي لا إله إلا هو وأنا واقف بين يديه أن ذلك البيان قد سجَّلته في بيتي لا في مكان آخر، وأقسم بالله العظيم الذي لا إله إلا هو أنه ما اتصل بي مسئول ولا نافذ من أجل أن أقول ما قلته، وأزيد الأمر بياناً بتوضيح جملة من الحقائق:
- المساجد جوامع للمسلمين على اختلاف انتماءاتهم ومذاهبهم وآرائهم، يستقبلون فيها قبلة واحدة ويصلون صلاة واحدة، خلف إمام واحد، وقد بُنيت لذكر الله وتلاوة القرآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليست هي مكاناً للهتاف مع فلان أو ضد فلان، إذ لا يسلم هذا الفعل من رد فعل، مما يؤدي إلى جعلها ساحات للصراع والسجال بما ينتهك حرمتها ويشوه صورتها ويعطل رسالتها
- مسئولية المنبر ترجع إلى شخص واحد يقول على منبره ما يعتقده صواباً يبرئ ذمته أمام الله عز وجل، وليس من حق أحد أن يملي عليه ما يقول أو ما يذر
- ما روجه بعض الشانئين أننا نريد تنحية الدين عن السياسة أو أننا ننحني لعاصفة لا نقوى على ردها محض هراء وكذب؛ فكم من مرة كان الحديث من على هذا المنبر عن الاستبداد وأهله، وعن الفساد وسفك الدماء، وعن الاعتداء على المال العام، وهذا المنبر والحمد لله لا يكاد يخلو من حديث عن الشأن العام بما يشفي صدور قوم مؤمنين
- وها هنا كلام لا بد من ذكره في هذا المقام، وهو أن منبر هذا المسجد – والحمد لله – أعتليه منذ ثلاث وعشرين سنة أو تزيد، ولا أتقاضى على ذلك درهماً ولا ديناراً، لا من الدولة ولا من المسجد، بل شعاري إن شاء الله تعالى شعار من قال {يا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله} {يا قوم لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون}
- وحين أعتلي هذا المنبر – والحمد لله – فإنني لست معنياً بالنظر إلى فلان أو فلان، ولا إرضاء هذا أو ذاك؛ حاكماً كان أو محكوماً، بل المراد – إن شاء الله – رضا الله، وأن يكون على خطا رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع يقين تام بأن إرضاء الناس غاية لا تدرك، ولست أبالي بمدح المادحين ولا قدح القادحين بل شعاري ما قاله الأول:
فما أحد من ألسن الناس سالم ولو أنه ذاك النبي المطهر
فإن يك سكيتاً يقولون أبكم وإن يك منطيقاً يقولون مهذر
وإن يك مقداماً يقولون أهوج وإن يك مفضالاً يقولون مبذر
وإن يك صواماً وبالليل قائماً يقولون كذاب يرائي ويمكر
فلا تكترث بالناس في المدح والثنا ولا تخش غير الله والله أكبر
وبعد: فهذا الكلام حالي فيه كحال المضطر الذي يأكل الميتة، وإني على يقين أني لست بالمعصوم الذي لا يخطئ بل الخطأ سمة البشر أجمعين، ولا معصوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا لست بشيء وما قدمت للدين شيئاً بل غاية الأمر اجتهاد وتسديد، وإنما أقول هذا الكلام من أجل أن تطمئن قلوب شباب مؤمن أثَّرت فيه تلك الحملات ونالت منه تلك الكلمات فطلبوا ردوداً عليها، والله الهادي إلى سواء السبيل
أما والله إنَّ الظُّلم شؤمٌ … … وما زال المسيء هو الظَّلوم
إلى دياَّن يوم الدّين نمضي … … وعند الله تجتمع الخصوم
ستعلم في الحساب إذا التقينا … … غداً عند الإله من الملوم