خطبة يوم الجمعة 29/3/1432 الموافق 4/3/2011
1ـ ما تناقلته الأخبار من حال أولئك الفراعنة المستبدين الذين نزع الله منهم الملك، وأذهب عن الناس آذاهم، وعافاهم من بلواهم؛ حيث علم أنهم لقوت الأمة سارقون، وعلى أموالها معتدون؛ فمنهم من هرَّب معه طناً ونصف طن من الذهب!! بعد أن بلغ مجموع ما سرقه سوى الذهب ثلاثة عشر ملياراً من الدولارات، ومنهم من سرق من المال العام سبعين ملياراً، ومنهم من بلغت ثروته مائة وثلاثين ملياراً استودعها بنوك أوروبا وأمريكا، بعد عاش عمره كله يخادع الناس بأنه يحارب الامبريالية ويقاوم الاستعمار؛ فإذا بالأيام تكشف حاله وتبدي عواره، وأنه ليس إلا لصاً خائناً وعدواً سارقا، ولا حول ولا قوة إلا بالله
2ـ إن هؤلاء المستبدين من عتاة البشر ليسوا إلا لصوصاً متغلبة، لا يفرِّقون بين أملاكهم الخاصة وأملاك الأمة، ولا يرون بأساً في أن يضموا هذا إلى ذاك ويأكلوا أموالهم إلى أموالهم؛ لأن تصرفهم في الثروات فرع عن تصرفهم في الرقاب والأبدان؛ فإذا كان الظالم المستبد لا يتورع عن ضرب الرقاب وجلد الأبشار، ولا يرى رعيته إلا مجموعة من الخونة الأوغاد، أو الفئران والجرذان، فمن باب أولى أنه لن يتورع عن أكل أموالهم بالباطل، ولن يبالي بمن جاع ومن مرض ما دامت بطنه متخمة وكأسه مترعة
3ـ لا يسمعون قول النبي صلى الله عليه وسلم {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يبيتن ليلة شبعان وجاره طاو} بل هؤلاء المستبدون يملأ أحدهم بطنه بألوان الطعام والشراب ثم لا يستحي أن يخرج على رعيته آمراً إياهم أن يربطوا على بطونهم، ويكفوا ألسنتهم عن حكامهم فلا يذكروهم بسوء أبدا. لا يسمعون قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه {إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة ولي اليتيم من ماله، إن أيسرت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف؛ فإن أيسرت قضيت}
4ـ إذا كانت شريعة الإسلام قد أوجبت على المسلمين تجهيز موتاهم وصيانتهم وسترهم؛ فماذا هي قائلة عن حكام لا يتقون الله في الأحياء؛ فلا يحفظون مهجهم، ولا يداوون مرضاهم، ولا يتداركون حشاشة فقرائهم، لا يكفلون يتيماً، ولا يطعمون مسكينا، ولا يكسون عارياً، ولا يفكون أسيرا، ثم بعد ذلك الثروات منهوبة، والأموال مهدرة، والعدالة غائبة.
5ـ هذا الداء في الأمة قديم؛ يقول عبد الملك بن مروان في كلام له طويل: ألا وإن من كان قبلي من الخلفاء كانوا يأكلون ويطعمون من هذه الأموال، ألا وإني والله لا أداوي أدواء هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم؛ تكلفوننا أعمال المهاجرين ولا تعملون مثل أعمالهم؛ فلن تزدادوا إلا عقوبة حتى يحكم السيف بيننا وبينكم!!! هذا هو دستور الظلمة وقانون المستبدين!!!
6ـ في زماننا المعاصر تجد المستبدين من حكام المسلمين ينفقون يبددون ثروات الأمة ويتلفون المال الكثير في أمور لا يحل لهم الإنفاق عليها:
- الإنفاق اللامحدود على أمن الحاكم والحرس والجنود، ويبذل في سبيل ذلك ما يعلمه إلا الله من إرسال البعثات وتفريغ الطاقات!! قالت كتب التاريخ: كان للخليفة قبل عمر بن عبد العزيز ثلاثمائة حرس وثلاثمائة شرطي؛ فقال عمر للحرس بعد ما ولي الخلافة: إن لي عنكم بالقدر حاجزاً، وبالأجل حارسا، من أقام منكم فله عشرة دنانير، ومن شاء فليلحق بأهله.
- استجلاب الخبراء واستيراد الأجهزة التي يحصل بها قمع الشعوب وردع المخالفين لهوى الحكام
- تبذير الأموال في الإنفاق على الأمجاد والأعياد الشخصية للحاكم؛ فتارة يحتفل بيوم مولده، وتارة بيوم جلوسه على عرش الحكم، وتارة بيوم ردعه لخصومه وهكذا
- تخصيص النفقات الباهظة لتمويل الصحف والمجلات التي تسبِّح بحمده وتقدِّس له، وبذل المستطاع في سبيل شراء أكبر قدر من الذمم والأقلام التي تتقرَّب إلى الحاكم زلفى؛ بتزيين الباطل له وترويج إفكه وضلاله، وتصوير هزائمه على أنها انتصارات وإخفاقاته على أنها إنجازات
- بناء القصور والاستراحات والدور داخل البلاد وخارجها والمبالغة في ذلك بغير ضرورة ولا حاجة؛ حتى عادت تلك القصور مضرب الأمثال في فخامتها وضخامتها وأبهتها وما فيها من ألوان الترف والنعيم، ولربما لا يأتيها بعد ما تبنى إلا قليلا؛ حالهم كحال أسلافهم من الطغاة الذين قال لهم نبيهم {أتبنون بكل ريع آية تعبثون ^ وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون ^ وإذا بطشتم بطشتم جبارين} فهم يبنون ما لا يسكنون، ويجمعون ما لا يأكلون، ويؤملون ما لا يدركون
- الصرف على التوافه التي لا تبني مجداً ولا ترفع دينا
- الحاكم لا تعرف الرعية مخصصاته؛ ما هي حدود عطائه؟ كم مرتبه؟ ماذا كان يملك قبل الحكم وماذا يملك بعده؟
- إقطاع الأراضي ومنح المزارع وتوزيع الأموال على أهل الحظوة يعد من حقوق الحاكم التي لا ينازع فيها؛ فمن شاء أعطاه ومن شاء منعه
7ـ وما زالت كتب التاريخ تحكي عن عطايا بذلت من الحكام لمن لا يستحقون من المداحين والطبالين؛ حتى أبطل ذلك الخليفة العادل والإمام الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله، قدم عليه جرير بن عطية الخطفي فطال مقامه ببابه ولم يلتفت إليه عمر؛ فكتب إلى عون بن عبد الله
أيها القاري المرخي عمامته هذا زمانك إني قد مضى زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه أني لدى الباب كالمصفود في قرن
ولما دخل على عمر أراد أن ينشد الشعر فمنعه؛ فقال: إنما أذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فقال عمر: أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فاذكره. فقال:
إن الذي بعث النبي محمداً قد جعل الخلافة للأمير العادل
رد المظالم حقها بيقينها عن جورها وأقام ميل المائل
والله أنزل في القران فريضة لابن السبيل وللفقير العائل
إني لأرجو منك خيراً عاجلاً والنفس مغرمة بحب العاجل
8ـ حال أبي بكر لما ولي الخلافة، وحال عمر حين اشتكى فنعت له العسل، وكان يشترط على الوالي حين يبعثه – كما قال خزيمة بن ثابت رضي الله عنه- “كان عمر إذا استعمل عاملاً كتب له، واشترط عليه ألا يركب برذوناً، ولا يأكل نقيا، ولا يلبس رقيقا، ولا يغلق بابه دون ذوي الحاجات، فإن فعل فقد حلت عليه العقوبة” إن حكام المسلمين اليوم يركبون البراذين ويأكلون المرقق ويغلقون أبوابهم دون ذوي الحاجات، ومع ذلك فهل تعرف الأمة مخصصاتهم؟
9ـ إن مقتضى النصيحة أن نقول: إن حكامنا جزاهم الله خيراً قد فتحوا للدعوة أبواباً وبذلوا لها أسباباً، وما ضروا الناس في دينهم فلا راقبوا المساجد ولا أحصوا الداخلين إليها، ولا منعوا حجاباً، ولا ضروا شباباً لالتزامهم؛ لكن أموراً تستدعي مراجعة وتصحيحاً، إن المال العام قد صار نهباً لكل سارق، وتقارير المراجع العام تثبت أن معدل الاختلاسات كل عام في زيادة!! إن ناساً يتولون المناصب وسرعان ما تظهر عليهم علامات الثراء؛ فيرتفع البناء ويتنوع الغذاء وترق الثياب!! وإن رسوماً ومكوساً تفرض على الناس بغير حق، ومن أبشعها ما تقوم به هيئة الحج والعمرة من فرض مكوس على الحجيج؛ فترتفع تكلفة الحج من غير وجه.