خطب الجمعة

الإسلام الشامل

خطبة يوم الجمعة 20/12/1439 الموافق 31/8/2018

1/ الأدلة على شمولية الإسلام من القرآن الكريم كثيرة؛ ففي العهد المكي قبل قيام دولة الإسلام نجد قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً} {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}

واما في العهد المدني بعد أن مكَّن الله تعالى للمسلمين وجعل لهم داراً وأنصاراً، وإماماً يحكِّم شريعة الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} {أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}

2/ وخلاصة الآيات الكريمة جميعاً أن الله تعالى شرع لنا ديناً جامعاً، وألزمنا إلزاماً باتباع أوامره، واجتناب نواهيه، وجعله فوق الكفاية؛ بحيث لا نحتاج إلى استعارة أي حكم أو تشريع من غيره، ولذلك أَلزَمَنا بالدخول في كافة شرائعه، وحرَّم علينا تفرقته وتجزئته تحريماً قطعياً؛ لأن هذا ينافي الإيمان، ويبطل دعوى صاحبه في دخول الإسلام.

وقد استفاض أئمة التفسير في تقرير هذه المعاني عند تفسير هذه الآيات الجامعة، وبيان تفصيلاتها الجزئية، وما يندرج تحتها في العقائد، والأخلاق، والعبادات، والمعاملات: كآيات البيع، والرهن، والنكاح، والطلاق، والعدة، والرضاع، والنفقة، والميراث، والوصية… وغير ذلك من شؤون الحياة جميعاً التي تربو على الإحصاء والعد، بما يجِدُّ فيها من جديد دائم، ينضوي تحت هذا الشمول الجامع لقواعده، وأصوله، وشُعَبِه المتكاثرة.

3/ كثرة شُعب الإيمان في ضوء السُّنة المطهرة؛ والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان). وهل المراد هنا العدد بذاته، أم المراد بيان الكثرة وسعتها؟ “لأن العرب في أساليب كلامها تذكر السبعين في مبالغة كلامها ولا تريد التحديد بها” كما قال ابن كثير رحمه الله في تفسير آية {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} فإن أريد تحديد العدد، فإن في كل شعبة عشرات أو مئات من الأحكام التي تندرج تحتها، وبذلك يخرج العدد عن حدود الحصر. وإن أريد التكثير عاد المعنى إلى القصد الأول؛ فيثبت (الشمول) في كل الأحوال… والحمد لله رب العالمين.

4/ نموذج من كلام العلماء في الشمول الإسلامي: أورد الحافظ ابن حجر في شرح البخاري شيئاً من ذلك، فقال: إن هذه الشعب تتفرع عن أعمال القلب، وأعمال اللسان، وأعمال البدن:

– فأعمال القلب فيها المعتقدات والنيَّات، وتشتمل على (أربع وعشرين خصلة): الإيمان بالله، ويدخل فيه: الإيمان بذاته وصفاته، وتوحيده، وأنه ليس كمثله شيء.

والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر خيره وشره، والإيمان باليوم الآخر، ويدخل فيه: المسألة في القبر، والبعث، والنشور، والحساب، والميزان، والصراط، والجنة والنار، ومحبة الله، والحب والبغض فيه، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم واعتقاد تعظيمه، ويدخل فيه : الصلاة عليه، واتباع سنته … والإخلاص، ويدخل فيه : تَرْك الرياء والنفاق، والتوبة، والخوف، والرجاء، والشكر والوفاء، والصبر، والرضا بالقضاء، والتوكل والرحمة… والتواضع ويدخل فيه : توقير الكبير، ورحمة الصغير، وترك الكِبْر، والعُجب، وترك الحسد والحقد، والغضب.

– وأعمال اللسان: وتشتمل على (سبع خصال).

– وأعمال البدن وتشتمل على (ثمان وثلاثين خصلة) منها ما يختص بالأعيان، وهي (خمس عشرة خصلة) وعدَّ منها: التطهُّر، والعبادات جميعاً…

 ومنها ما يتعلق بالاتباع، وهي (ست خصال): التعفف بالنكاح، والقيام بحقوق العيال، وبر الوالدين، واجتناب العقوق، وصلة الرحم، وتربية الأولاد…

 وفيها ما يتعلق بالعامة، وهي (سبع عشرة خصلة): القيام بالإمرة مع العدل، ومتابعة الجماعة، وطاعة ولي الأمر، والإصلاح بين الناس، وإقامة الحدود، والجهاد، وأداء الأمانة… وحُسن المعاملة، وفيه: جمع المال من حِلِّه، وإنفاقه في حقه، ومنه: ترك التبذير والإسراف، وإماطة الأذى… “

ويختم ذلك بقوله: “فهذه (تسع وستون خصلة) ويمكن عدُّها (تسعاً وسبعين خصلة) باعتبار أفراد ما ضُمَّ بعضه إلى بعض مما ذكره والله أعلم”

ويتضح أن الحافظ ابن حجر رضي الله عنه أدخل في (شُعب الإيمان) كل التكاليف التي شرعها الله تعالى لعباده، في كل شؤون الحياة العامة والخاصة، وهذا هو معنى الشمول الإسلامي كما بينه علماؤنا رضي الله عنهم أخذاً من القرآن الكريم، والسُّنة المطهَّرة.

5/ وقد وفَّق الله تعالى بعض العلماء المعاصرين إلى اجتهاد نافع في حصر هذه الشُّعب الكثيرة، بردها إلى أربع شعب كلية جامعة؛ لتكون أسهل في الحفظ، وأيسر في الحصر، وأكثر في استيعاب ما تحتها من مفردات ومسائل وأحكام، وأوضح دلالة على جوانب الشمول الإسلامي في التشريع والتكليف، وهي على الترتيب: (شعبة الإيمان، وشعبة الأخلاق، وشعبة العبادات، وشعبة المعاملات) وتفصيل ذلك كالتالي:

 أولاً: شعبة الإيمان: ونعني بها شعبة التصديق الجازم، والاعتقاد الخالص بأصول الدين، من الإيمان بالله تعالى وملائكته، وكُتبه، ورُسُله، واليوم الآخر، ويدخل تحتها كل ما جاء في القرآن الكريم والسُّنة المطهرة عن الإلهيات، والنبوات، والسمعيات، وحقائق الغيب التي جاء بها الوحي المعصوم، وهذا جانب واسع جداً، ولا يوجد مثله صحيحاً موثَّقاً عند غير المسلمين، بعدما حرَّف أهل الكتاب ما جاءتهم به رسلهم عليهم السلام.

ثانياً: شعبة الأخلاق: وهي السجايا النفسية الراسخة، التي يصدر عنها السلوك الإنساني الخارجي من خلال إرادة حرة، ونية صالحة. والأخلاق هي الأصل الثاني في دين الله تعالى لذلك أمر بأحسنها، ونهى عن سيئها، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ}.

  وقد استفاض القرآن الكريم في بيانها، وتحديدها، والدعوة إليها (أمراً ونهياً) ابتداءً من العهد المكي، عهد التكوين والتأسيس الديني، وتابع ذلك بكثرةٍ – أيضاً – في العهد المدني، مما يدل على أهميتها البالغة، ومكانتها في دين الله – عز وجل – وضرورتها في كل جوانب الحياة.

ومن هذه الأخلاق الحسنة: الصبر، والإخلاص، والصدق، والأمانة، والعدل، والفضل، والعفة، والتعاون، والإيثار، والبذل، والسخاء، واللين، والعفو، والاعتدال في الأقوال والأفعال، والوفاء بالعهود والوعود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهر بالحق، والشورى… إلخ.

ومن الأخلاق السيئة التي شدد في النهي عنها: الخيانة، والغدر، ونقض العهود، والكذب، وشهادة الزور، والإسراف، والغِلظة، والفحش، والكبر، والغرور، والفخر، والبطر، والرياء، والحقد، والحسد، والغيبة، والنميمة، والسخرية والتنابز بالألقاب، والتجسس، وظن السوء.. إلخ.

  ثالثاً: شُعبة العبادات: ونعني بها ما شرعه الله تعالى ليكون عبادة له سبحانه وتعالى قولاً، أو فعلاً: كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والعمرة، والطواف، والجهاد، والذكر، والتفكُّر في عظمة الله وبديع خلقه، وتلاوة القرآن… ونحو ذلك.

رابعاً: المعاملات: ونعني بها الأحكام التي شرعها الله عز وجل المتعلقة بتصرفات الناس، وعلاقتهم ببعضهم البعض، في كل شؤون حياتهم: كأحكام البيع، والرهن، والتجارة، والمزارعة، والإجارة، والنكاح، والرضاع، والطلاق، والعدة، والهبة، والهدية، والنفقة، والميراث، والوصية، والحرب، والصلح، والهدنة، ومعاملة الأسرى، وتقسيم الفيء والغنائم، والحكم بالعدل، والنهي عن الظلم، والجور في الأموال، والربا، والزنى… وغيره.

وقد أُلحق بهذا الباب الشرائع والأحكام التي تحمي الناس في دينهم، ودمائهم، وأعراضهم، وأموالهم: كشرائع الحدود والقصاص، والجهاد في جانبه التعاملي، بعد جانبه العبادي الذي مر ذكره.

 “وهكذا استوعبت هذه الشعب الأربع جميع الأحكام والتكاليف الإلهية التي شرعها الله – تعالى – لعباده، والتي اجتهد العلماء قديماً في عدِّها لتوافق منطوق الحديث الشريف، والتي تتسع لأضعاف هذا العدد من حيث المعاني والمفهوم، تصديقاً وتحقيقاً لقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ}.

6/ حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، وكنا في صفّةٍ بالمدينة، فقام علينا وقال: إنّي رأيت البارحة عجباً:

  1. رأيت رجلاً من أمتي أتاه ملك الموت ليقبض روحه، فجاءه برّه بوالديه، فردَّ ملك الموت عنه.
  2. ورأيت رجلاً قد بسط عليه عذاب القبر، فجاءه وضوؤه، فاستنقذه من ذلك.
  3. ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته الشياطين، فجاءه ذكر الله عزّ وجلّ، فطرد الشياطين عنه.
  4. ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب، فجاءته صلاته، فاستنقذته من أيديهم.
  5. ورأيت رجلاً من أمتي يلتهب – وفي رواية: يلهث – عطشاً، كلما دنا من حوض منع وطرد، فجاءه صيام شهر رمضان، فأسقاه وأرواه.
  6. ورأيت رجلاً من أمتي ورأيت النبيين جلوساً حِلَقاً حِلَقاً، كلما دنا إلى حلقة طُرد، فجاءه غسلُهُ من الجنابة، فأخذ بيده، فأقعده إلى جنبي.
  7. ورأيتُ رجلاً من أمتي، بين يديه ظلمة، ومن خلفه ظلمة، وعن يمينه ظلمة، وعن يساره ظلمة، ومن فوقه ظلمة، ومن تحته ظلمة، وهو متحيّر فيها، فجاءه حجة وعمرته، فاستخرجاه من الظلمة، وأدخلاه في النور.
  8. ورأيت رجلاً من أمتي يتقي بيده وهج النار وشرره، فجاءته صدقته، فصارت سترة بينه وبين النار، وظللت على رأسه.
  9. ورأيت رجلاً من أمتي يكلم المؤمنين ولا يكلمونه، فجاءته صلته لرحمه فقالت: يا معشر المسلمين، إنه كان وصولاً لرحمه فكلموه، فكلمه المؤمنون، وصافحوه وصافحهم.
  10. ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته الزبانية، فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فاستنقذه من أيديهم، وأدخله في ملائكة الرحمة.
  11. ورأيت رجلاً من أمتي جاثياً على ركبتيه، وبينه وبين الله عزّ وجلّ حجاب، فجاءه حُسن خلقه، فأخذ بيده، فأدخله على الله عزّ وجلّ.
  12. ورأيت رجلاً من أمتي قد ذهبت صحيفته من قبل شماله، فجاءه خوفه من الله عزّ وجلّ، فأخذ صحيفته، فوضعها في يمينه.
  13. ورأيت رجلاً من أمتي خفّ ميزانه فجاء أفراطه، فثقلوا ميزانه.
  14. ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على شفير جهنم، فجاءه رجاؤه في الله عزّ وجلّ، فاستنقذه من ذلك ومضى.
  15. ورأيت رجلاً من أمتي قد أقوى في النار، فجاءته دمعته التي بكى من خشية الله عزّ وجلّ فاستنقذته من ذلك.
  16. ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على الصراط يرعد كما ترعد السّعَفة في ريح عاصف، فجاءه حُسْنُ ظنهِ بالله عزّ وجلّ، فسَكن رعدَتَهُ ومضى.
  17. ورأيت رجلاً من أمتي يزحفُ على الصراط، ويحبو أحياناً، ويتعلق أحياناً، فجاءته صلاته، فأقامته على قدميه، وأنقذته.
  18. ورأيت رجلاً من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة، فغلقت الأبواب دونه، فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله، ففتحت له الأبواب، وأدخلته الجنة.

رواه الحافظ أبو موسى المديني في كتاب (الترغيب في الخصال المنجية، والترهيب من الخلال المردية)، وبنى كتابه عليه وجعله شرحاً له، وقال: هذا حديث حسن جداً، رواه عن سعيد بن المسيب: عمرو بن آزر، وعلي بن زيد بن جدعان، وهلال أبو جبلة. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه، يعظم شأن هذا الحديث، وبلغني عنه أنه كان يقول: شواهد الصحة عليه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى