خطبة يوم الجمعة 4/4/1434 الموافق 15/2/2013
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له يحق الحق بكلماته ولو كره المجرمون، وأشهد أن سيدنا ونبينا وعظيمنا وحبيبنا محمداً رسول الله، الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير والبشير النذير، أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين عزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون، أما بعد.
فإن الله تعالى خلق آدم عليه السلام بيديه ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، وعلَّمه الأسماء كلها، وأظهر فضله وشرفه ومزيته؛ وكان من تمام نعمته عليه أن خلق له من نفسه زوجاً ليسكن إليها ويأنس بها، فقال سبحانه {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} اسكن أنت وزوجك التي خلقت من ضلعك، وكانت من طبيعتك وشاكلتك، اسكن معها لتأنس بها وتقضي وطرك معها وتفضي إليها وتستر عليها؛ ومصداق ذلك قوله تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} وقوله تعالى {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا غليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات}
قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: “اسْكُنْ” تَنْبِيهٌ عَلَى الْخُرُوجِ، لِأَنَّ السُّكْنَى لَا تَكُونُ مِلْكًا، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: السُّكْنَى تَكُونُ إِلَى مُدَّةٍ ثُمَّ تَنْقَطِعُ، فَدُخُولُهُمَا فِي الْجَنَّةِ كَانَ دُخُولَ سُكْنَى لَا دُخُولَ إِقَامَةٍ. قُلْتُ: وَإِذَا كَانَ هَذَا فَيَكُونُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ مَنْ أَسْكَنَ رَجُلًا مَسْكَنًا لَهُ إِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ بِالسُّكْنَى، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ إِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِسْكَانِ. وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَقُولُ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ دَارِي لَكَ سُكْنَى حَتَّى تَمُوتَ فَهِيَ لَهُ حَيَاتَهُ وَمَوْتَهُ، وَإِذَا قَالَ: دَارِي هَذِهِ اسْكُنْهَا حَتَّى تَمُوتَ فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا إِذَا مَاتَ.
(أَنْتَ وَزَوْجُكَ) “أَنْتَ” تَأْكِيدٌ لِلْمُضْمَرِ الَّذِي فِي الْفِعْلِ، وَمِثْلُهُ “فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ”
وَزَوْجُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هِيَ حَوَّاءُ عَلَيْهَا السَّلَامُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَمَّاهَا بِذَلِكَ حِينَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحِسَّ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ، وَلَوْ أَلِمَ بِذَلِكَ لَمْ يَعْطِفْ رَجُلٌ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَلَمَّا انْتَبَهَ قِيلَ لَهُ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: امْرَأَةٌ قِيلَ: وَمَا اسْمُهَا؟ قَالَ: حَوَّاءُ، قِيلَ: وَلِمَ سُمِّيَتِ امْرَأَةً؟ قَالَ: لِأَنَّهَا مِنَ الْمَرْءِ أُخِذَتْ، قِيلَ: وَلِمَ سُمِّيَتْ حَوَّاءَ؟ قَالَ: لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ حَيٍّ. رُوِيَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ سَأَلَتْهُ عَنْ ذَلِكَ لِتُجَرِّبَ عِلْمَهُ، وَأَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: أَتُحِبُّهَا يَا آدَمُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا لِحَوَّاءَ: أَتُحِبِّينَهُ يَا حَوَّاءُ؟ قَالَتْ: لَا، وَفِي قَلْبِهَا أَضْعَافُ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ حُبِّهِ. قَالُوا: فَلَوْ صَدَقَتِ امْرَأَةٌ فِي حُبِّهَا لِزَوْجِهَا لَصَدَقَتْ حَوَّاءُ.ا.هـ
جاءت شريعة الإسلام بالحث على الزواج والترغيب فيه؛ وأن يثق الإنسان بعطاء ربه جل جلاله ولا يخشى الفقر؛ فقال سبحانه {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله، والله واسع عليم} وفي حديث الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة حق على الله عونهم، المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الاداء، والناكح الذي يريد العفاف) وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة التي تعين العبد على أمر دينه ودنياه؛ روى الترمذي وابن ماجه عن ثوبان رضي الله عنه، قال لما نزلت: (والذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله، فبشرهم بعذاب أليم) قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فقال بعض أصحابه: أنزلت في الذهب والفضة، فلو علمنا أي المال خير فنتخذه؟ فقال: (لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه).
وروى الطبري بسند جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من أصابهن فقد أعطي خير الدنيا والاخرة: قلباً شاكرا، ولسانا ذاكرا، وبدنا على البلاء صابرا، وزوجة لا تبغيه حوباً في نفسها وماله) وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة) وعن أبي أمامة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما استفاد المؤمن – بعد تقوى الله عز وجل – خيرا له من زوجة صالحة: إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله) رواه ابن ماجه. وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سعادة ابن آدم ثلاثة، ومن شقاوة ابن آدم ثلاثة: من سعادة ابن آدم: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح، ومن شقاوة ابن آدم: المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء) رواه أحمد بسند صحيح. واه الحاكم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة من السعادة: المرأة الصالحة، تراها تعجبك، وتغيب فتأمنها على نفسها ومالك، والدابة تكون وطيئة تلحقك بأصحابك، والدار تكون واسعة كثيرة المرافق، وثلاث من الشقاء: المرأة تراها فتسوءك، وتحمل لسانها عليك، وإن غبت عنها لم تأمنها على نفسها ومالك، والدابة تكون قطوفا فان ضربتها أتعبتك، وإن تركتها لم تلحقك بأصحابك، والدار تكون ضيقة قليلة المرافق)
وحكمة الزواج تكثير النسل وحفظ النوع وقضاء الوطر وحصول هدوء النفس وطمأنينة القلب وإرواء غريزة الأبوة والأمومة وتوزيع المسئوليات توزيعاً ينتظم به شأن البيت في الداخل وأمر المجتمع في الخارج مع ما يحصل من تقوية الأواصر بين الأسر وحصول التعارف بين الناس
إن فساداً قد انتشر بين الناس بسبب الإعراض عن الزواج والزهد فيه بسبب عظم تكاليفه وكثرة مؤونته في عادات ذميمة فرضها الناس فجعلوا يسر دينهم عسرا، واستبدلوا بالسهولة صعوبة وبالرخاء شدة؛ ما بين نفقات هائلة وحفلات صاخبة وشروط مجحفة
قد قرأنا في صحف الأمس أن رجلاً أطلق النار على مخطوبته لحصول خلاف بينهما، سبحان الله جرائم ما كان المجتمع يعرفها ولا قبل له بها، من أين جاءت؟ وفي أي مدرسة تخرج هؤلاء؟ نقرأ في الصحف من الجرائم ما تقشعر له الأبدان، ويقول بعض من يتابع الأمور: إن نسبة اللقطاء تزيد في كل عام في شهرين من السنة، في سبتمبر ونوفمبر لماذا؟ هذا سؤال يتردد لأن سبتمبر على رأس تسعة أشهر من رأس السنة، ونوفمبر على رأس تسعة أشهر من عيد الحب.
أيها المسلمون: إن الفساد قد عم وطم، وقد بدت أنيابه وقويت أركانه وامتد سلطانه في أغان ماجنة وفحش ظاهر ومسلسلات ساقطة قد يمتد أحدها مائة وثمانين حلقة يتعلم فيها الشباب والفتيات فنون الإجرام وأنواع الشر والتمرد على الله، وشريعة الإسلام لم تجعل سبيلاً للعلاقة بين الجنسين إلا من خلال هذه القناة الطاهرة والوسيلة الشريفة أعني الزواج
التي يحصل بها السكن والمودة والطمأنينة والرحمة.