خطبة يوم الجمعة 25/2/1429 الموافق 20/2/2009
- فإن المسلم الموفق الغيور يسوؤه كل خلاف يقع بين المسلمين، ويقض مضجعه كل قطرة دم تسيل، وكل خراب يحصل، كما أنه يسره ما يقع من صلح واتفاق بينهم؛ لأنه يعلم أن من غايات الشريعة جمع الكلمة ووحدة الصف والتئام الشمل، وأن الفرقة والخلاف شر وبيل
- إن شعبنا المسلم في دارفور عانى من ويلات الحرب واختلاف الكلمة وتمزق النسيج الاجتماعي بسبب الحرب والاختلاف، وما ترتب عليه من سفك الدماء والتشريد في داخل البلاد وخارجها، وحان الوقت لهذا الشعب أن يستظل بظلال الأمن والأمان ويبني دولته ومؤسساته الاجتماعية والتنموية والاقتصادية والثقافية والعلمية … إلخ.. على أسس راسخة من العدل والمساواة وسيادة القانون واستقلال القضاء، من خلال مرجعيته الإسلامية. قد آن الوقت لوضع السلاح وجلوس الفصائل للحوار والنقاش من أجل المصلحة العليا للشعب المسلم في دارفور، لكي يصلوا إلى اتفاق يحبه ربنا ويرجع بالخير العميم على الشعب الجريح، وعلى أمتكم التي تتشوق لوحدة صفكم واجتماع كلمتكم.
- إن اتفاق المبادئ الذي وقع في الدوحة خلال هذا الأسبوع بين الحكومة وبعض حاملي السلاح من أهل دارفور يحملنا على أن نضع جملة من المعالم التي بها يهتدي الناس، ومنها:
- إننا ندعوكم إلى تحكيم الإسلام فيما بينكم من خلاف، قال الله تعالى {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} إن الاحتكام إلى الشريعة وتطبيقها ليس مقصوراً على الحدود والعقوبات كما يتوهم من لا فقه عنده، بل هو معنى عام يقتضي حفظ ضروريات الدين والحياة التي هي: الدين، والنفس والمال والعرض والعقل، ولا يتم حفظ ذلك كله إلا بالأمن والاستقرار
- إن من مكارم الأخلاق التي جاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لتكميلها خلق الشجاعة؛ فهي خلق فاضل عظيم والشجاعة تكون مع النفس وتكون مع الأتباع ، كما تكون مع الأعداء، ولذا جاء في الصحيحين {إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِى يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ} وليست الشجاعة كل الأخلاق بل هي خلق واحد، وكذلك الحلم والأناة كما مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم أشج عبد القيس كما في صحيح مسلم {إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ} وكذا التسامح والعفو فهي ممدوحة بالكتاب والسنة، محمودة في الطباع البشرية ولا يداوي الجراح ويزيل الوحشة والشحناء مثل الكرم والتسامح والتغافل كما قال الشافعي رضي الله عنه {الكيس العاقل هو الفطن المتغافل} وقيل لأحمد: إن فلاناً يقول تسعة أعشار العقل في التغافل؟، قال: بل هو العقل كله.
- إننا ندعوكم للحرص على الأخوة فيما بينكم، فهذا الأمر من مقاصد دينكم الإسلامي العظيم، فبه تحفظون وحدة الصف وقوة التلاحم ومتانة التماسك بين أفراد المسلمين، فالإخوة منحة من الله عز وجل قال الله تعالى {إنما الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وقال الله تعالى {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}
- أيها الإخوة الفضلاء، إن اتحادكم على أسس من ديننا العظيم أمل كل المسلمين الصادقين في كل مكان، قال الله تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} إن الله ربكم جعل إصلاح ذات البين من أعظم الجهاد، فبه يتحقق تأليف قلوب المسلمين واجتماعهم على دينهم ومصالحهم الدينية والدنيوية، فالله عز وجل أمر بكل ما يحفظ على المسلمين جماعتهم وألفتهم ونهى عن كل ما يعكر هذا الأمر العظيم
- كفانا سفكاً للدماء، إن الله عز وجل جعل من مقاصد الشريعة حفظ النفوس وتحريم الاعتداء عليها، قال تعالى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} وقال تعالى {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا + يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} وقال تعالى {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكبر اجتماع للمسلمين في حجة الوداع (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا) وقال صلى الله عليه وسلم (لزوال الدنيا أهون على الله تعالى من قبل مؤمن بغير حق) وقال صلى الله عليه وسلم (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)
- إن التنازل عن بعض الحق وغض الطرف عن بعض ما حاق بالعبد من ظلم لهو كفيل بإطفاء نار العداوة والبغضاء، ولكم في الحسن بن علي رضي الله عنهما أسوة حسنة؛ ما الذي دفعه رضي الله عنه إلى التنازل عن الخلافة وإيثار معاوية بن أبي سفيان بها حتى سمي ذلك العام عام الجماعة؟ هل كان الحسن عاجزاً عن القتال؟ أم كان يعاني من قلة الجنود والأتباع؟ اللهم لا هذا ولا ذاك إنما دفعه لذلك الرغبة فيما عند الله وإرادة الإصلاح، قال الحسن بن علي ردا على نفير الحضرمي عندما قال له: إن الناس يزعمون أنك تريد الخلافة، فقال (كانت جماجم العرب بيدي يسالمون من سالمت ويحاربون من حاربت، فتركتها ابتغاء وجه الله) إن الدرس المستفاد من موقف الحسن بن علي رضي الله عنهما في أهمية إرادة وجه الله وتقديم ذلك والحرص على إصلاح ذات البين من أسباب الصلح ودوافعه، فمكانة الصلح عظيمة وهو من أجلِّ الأخلاق الاجتماعية، إذ به يرفع الخلاف وينهي المنازعة التي تنشأ بيني المتحاملين مادياً أو اجتماعياً، ويعود بسببه الود والإخاء بين المتنازعين، لكونه يرضي طرفي النزاع ويقطع دابر الخصام، ولذلك فإن الصلح من أسمى المطالب الشرعية، قال الله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، وقال الله تعالى {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} وقال الله تعالى {وإن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} وقال تعالى {لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} وقال الرسول صلى الله عليه وسلم (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟) قالوا بلى يا رسول الله، قال (إصلاح ذات البين) وقال صلى الله عليه وسلم (إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)
- والدافع الثاني للحسن بن علي رضي الله عنهما في الصلح حقن الدماء. قال رضي الله عنه (خشيت أن يجيء يوم القيامة سبعون ألفاً أو أكثر أو أقل، كلهم تنضح وجوههم دما، كلهم يستعدي الله فيما أريق من دمه) وقال أيضاً (إني ما أحسب أن لي من أمة محمد مثقال حبة من خردل يهراق فيه هجمة من دم، قد علمت ما ينفعني مما يضرني) ونلحظ من كلام الحسن بن علي شدة خوفه من الله، ذلك الخوف الذي دفعه إلى الصلح.
- قام الحسن بن علي ابن أبي طالب خطيباً في إحدى مراحل الصلح فقال (أيها الناس إني قد أصبحت غير محتمل على مسلم ضغينة، وإني ناظر لكم كنظري لنفسي، وأرى رأياً، فلا تردوا علي رأيي، إن الذي تكرهون من الجماعة أفضل مما تحبون من الفرقة) فقد ارتأى رضي الله عنه أن يتنازل عن الخلافة حقناً لدماء المسلمين وتجنباً للمفاسد العظيمة التي ستلحق الأمة كلها إذا بقيّ مصراً على موقفه من استمرار الفتنة وسفك الدماء وقطع الأرحام واضطراب السبل، وتعطيل الثغور وغيرها … وقد تحقق بحمد الله وحدة الأمة بتنازله عن عرض زائل من أعراض الدنيا، حتى سمي ذلك العام عام الجماعة، وهذا يدل على فقه الحسن في معرفته لاعتبار المآلات ومراعاته نتائج التفرقات، ولهذا الفقه مظاهره في كتاب الله وشواهد، فقد رتب المولى عز وجل الحكم على مقتضى النتائج والشواهد.
- إن الحسن بن علي قدوة للمسلمين في الترفع عن حطام الدنيا، وطلب ما عند الله تعلى واحتساب الأجر والمثوبة، فالزهد في المناصب والكراسي من الأمور الثقيلة على النفس البشرية، فالإخوان والأصحاب والأقارب يتقاتلون على الكراسي والمناصب، والزهد في الرئاسة أقل ما يكون في دنيا الناس، وكم من أناس زهدوا في المال والنساء وغيرها من الأمور، لكنهم أمام الزعامة والرئاسة والمناصب ينهزمون. وقد قيل إنه آخر ما ينزع من صدور الفاتحين، وتأملوا قول سفيان الثوري {ما رأيت الزهد في شيء أقل منه من الرياسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب، فإن نوزع حامى عليها وعادى}، فإياكم وحب الرياسة، فإن حب الرياسة أحب إليه من الذهب والفضة وهو باب غامض لا يبصره إلا البصير من العلماء، فتفقدوا في أنفسكم أيها الإخوة الصوماليون، واعملوا بنية خالصة لله، فالحسن بن علي رمز لنكران الذات ومعلم للإيثار، ومدرسة وفخر للأمة عبر الأجيال في تقديمه مصلحة الأمة ووحدتها وحفظ دمائها على أي مصلحة أخرى.
- لقد نجح الحسن بن علي في قيادة الأمة بأسرها لتحقيق مشروعه العظيم، ولم يتأثر بضغوط القواعد الشعبية ولا بغيرها، وهكذا القادة الربانيون يفعلون، وكان يرد على منتقديه بأدب جمّ وحجة ظاهرة، فعندما قال له أبو عامر سفيان بن الليل: السلام عليك يا مُذل المؤمنين، فقال له الحسن {لا تقل هذا يا أبا عامر، لست بمُذل المؤمنين ولكني كرهت أن أقتلهم على الملك} وعندما قيل له يا عار المؤمنين، قال {العار خير من النار}