خطبة يوم الجمعة 4/3/1436 الموافق 26/12/2014
إن من تأمل في دنياه بعين العبرة والبصيرة، يعلم أنها دار الأكدار والأحزان، لا تستقر على حال ولا تدوم على شان؛ فليست هي محل السرور الدائم ولا السعة، وإنما هي ابتلاء وامتحان، وفرج وشدة، وكل إنسان في هذه الدنيا تمرُّ به محنٌ وبلايا، ومصائب ورزايا، بينما هو في رخاء إذ نزلت به شدة، وبينما هو في عافية وسعة إذ فَجَأهُ مرض وسقم. أو لعله كان في سعة زرق ورخاء ثم يبتلي بفقر مدقع أو غرم مفظع، آلام تضيق بها النفوس، ومزعجات تورث الخوف والجوع. كم ترى من مبتلى يشكو مرضه، وأب يلوم عقوق ولده، وأم ثكلى تبكي فقيدها، كم ترى ممن بارت تجارته وكسدت صناعته، وآخر قد ضاع جهده ولم يدرك مرامه، تلك هي الدنيا تضحك وتبكي، وتسر وتحزن، وتعطي وتمنع، وتشتّتٍ وتجمع.. إنها دار غرور لمن اغتر بها، وهي عبرة لمن اعتبر بها، وهي دار صدق لمن صدقها
يا خاطِبَ الدّنيا الدّنِيّةِ إنّها … شرَكُ الرّدى وقَرارَةُ الأكدارِ
دارٌ متى ما أضْحكتْ في يومِها … أبْكَتْ غداً بُعْداً لها منْ دارِ
غاراتُها ما تنْقَضي وأسيرُها … لا يُفتَدى بجلائِلِ الأخْطارِ
كمْ مُزْدَهًى بغُرورِها حتى بَدا … متمَرّداً مُتجاوِزَ المِقْدارِ
قلَبَتْ لهُ ظهْرَ المِجَنّ وأوغلَتْ … فيهِ المُدى ونزَتْ لأخْذِ الثّارِ
فارْبأ بعُمرِكَ أن يمُرّ مُضَيَّعاً … فيها سُدًى من غيرِ ما استِظهارِ
{لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور}
حال الأنبياء عليهم السلام مع البلاء
- هذا نوحٌ عليه السلام يشكو أمرَه إلى الله ويلجأُ لمولاه: قال تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}. كانتِ المناداة، كانتِ المناجاة، فكانتِ الإجابةُ من الرحمن الرحيم. وقال تعالى: {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}. وقال عز من قائل: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ}
- هذا أيوبُ عليه السلام، ابتلاهُ اللهُ بالمرضِ ثمانيةَ عشر عاماً حتى أن الناسُ ملوا زيارته لطولِ المدة، فلم يبق معه إلا رجلانِ من إخوانهِ يزورانه، لكنه لم ييأس عليه السلام، بل صبرَ واحتسب، وأثنى الله عليه: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}، أواب أي رجاعٌ منيبٌ إلى ربه، ظل على صلتِه بربِه وثقتِه به، ورضِاهُ بما قُسم الله له، توجه إلى ربه بالشكوى ليرفع عنه الضراء والبلوى قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}. فماذا كانتَ النتيجة؟ قال الحقُ عز وجل، العليمُ البصيرُ بعباده، الرحمنُ الرحيم قالَ: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ}.
أخرج ابن جرير عن الحسن أن أيوب لما اشتد عليه البلاء جزعت امرأته فقال لها: أرأيت ما تبكين عليه مما كنا فيه من المال والولد، فكم متِّعنا فيه قالت: ثمانين سنة، قال: فمنذ كم ابتلانا الله؟ قالت: سبع سنين وأشهُراً، فقال: ويلكِ واللهِ ما عدلتِ ولا أنصفت ربك، ألا صبرت حتى نكون في البلاء ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة..). الدر المنثور 4/591.
ابتلاه الله بالمرض والسقم وما على الأرض أحدٌ أكرم على الله تعالى منه، فما زال صابراً على مرضه.. محتسباً على الله مصابه حتى كشف الله ضره ورفع قدره وآتاه أهله ومثلهم معهم رحمة من الله وذكرى للعابدين.. ففي قصته عليه السلام ذكرى لكل سقيم ومريض بأن الفرج بيد الله وحده {وإذا مرضت فهو يشفين}..
وروى ابن أبى حاتم عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: كان لأيوب أخوان، فجاء يوماً فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه، فقاما من بعيد، قال أحدهما لصاحبه: لو كان الله علم من أيوب خيراً ما ابتلاه بهذا!!! فجزع أيوب من قولهما جزعاً لم يجزع مثله من شيء قط، فقال: اللهم إن كنت تعلم أنى لم أبت ليلة قط شبعان وأنا أعلم مكان جائع فصدِّقني، فصُدِّق من السماء وهما يسمعان. ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أنى لم يكن لي قميصان قط وأنا أعلم مكان عار ٍ فصدقني. فصدق. من السماء وهما يسمعان. ثم قال: اللهم بعزتك وخرَّ ساجدا، فقال: اللهم بعزتك لا أرفع رأسي أبداً حتى تكشف عنى، فما رفع رأسه حتى كشف عنه.
- هذا يونسُ عليه السلام، رفع الشكاية لله فلم ينادِ ولم يناجِ إلا الله قال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}. فماذا كانتَ النتيجة؟ {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}.
قال الله تعالى: {وإن يونس لمن المرسلين + إذ أبق إلى الفلك المشحون + فساهم فكان من المدحضين + فالتقمه الحوت وهو مليم} وذلك أنه لما وقعت عليه القرعة ألقى في البحر، وبعث الله عز وجل حوتاً عظيماً من البحر الأخضر فالتقمه وأمره الله تعالى ألا يأكل له لحماً ولا يهشم له عظما فليس لك برزق، فأخذه فطاف به البحار كلها. وقيل إنه ابتلع ذلك الحوت حوت آخر أكبر منه. قالوا: ولما استقر في جوف الحوت حسب أنه قد مات، فحرك جوارحه فتحركت، فإذا هو حي فخر لله ساجدا وقال: يا رب اتخذت لك مسجداً في موضع لم يعبدك أحد في مثله.
- وزكريا عليه السلام قال الحق عز وجل عنه: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ}. ماذا كانت النتيجة؟ {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}. الذين يشكون العقم وقلة الولد.
والمؤمن أيها الإخوة الكرام مهما أظلم عليه ليل الكروب الأمراض والأحزان.. إلا أنه لا ييأس من فجر يبدد الله به كرباته وأحزانه. كما قال سبحانه {إن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً} وقال: {سيجعل الله بعد عسر يسراً} وقال عز وجل {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً}
عسى فرج يأتي به الله إنه له كلَّ يوم في خليقته شأن
من حكايات الصالحين
1- ذكر التنوخي في كتابه الفرج بعد الشدة، عن لبيبٍ العابد قال: رأيت حية داخلة حجرها فأمسكت بذنبها فعضت يدي فشلَّت، ثم شلت يدي الأخرى، ثم جفت رجلاي ثم عميت وخرست، وبقيت سنة كاملة ملقى على فراش ليس فيَّ جارحة صحيحة إلا سمعي أسمع به ما أكره، وكنت أسقى وأنا ريان، وأُترَك وأنا عطشان، وأُطعم وأُهمل، فدخلت امرأة يوماً فسألت زوجتي: كيف أبو علي؟ فقالت: لا حيٌ فيُرجى ولا ميت فينسى، فآلمني ذلك، فدعوت الله في سري وبكيت.. فضربني ألم شديد ظننته الموت حتى جاء الليل فسكن عني فنمت، فما أحسستُ إلا وقتَ السَّحَر وإحدى يديَّ على صدري وكانت مطروحة على الفراش، فحركتها فتحركت، فحركت الأخرى فتحركت.. وجعلت أقبضها وأبسطها، ثم أردت الانقلاب من غير أن يقلبني أحد فانقلبت ثم قمت.. ومشيت وأنا أطمع في بصري فخرجت إلى صحن الدار فرأيت السماء فكدت أموت فرحاً فصحت: يا قديم الإحسان لك الحمد..
عسى فرج يأتي به الله إنه له كل يوم في خليقته شأن
2- حدث أبو جعفر طلحة بن عبد الله الطائي الجوهري قال: كان ببغداد رجل اعتلَّ غلامه بالسرسام فبلغ إلى درجة قبيحة وزال عقله (والسرسام هو ورم شديد يكون في الرأس) فوضعوه في بيت وأمروا صبياً بمراعاته، فما لبثوا أن سمعوا صياح الصبي الموكل به فلما أتوه نظروا فإذا عقرب قد نزلت على رأس العليل فلسعته في عدة مواضع فإذا به قد فتح عينيه لا يشكوا ألماً، فأطعموه وسقوه وبرأ مما كان فيه فسبحان اللطيف الخبير..
الابتلاء بين المحنة والمنحة
كم من محنة في طيها منحة، ومن هوان كانت عاقبته كرامة، ها هو يعقوب عليه السلام يفقد ولده الأول فيقول: {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} فلما ترقب الفرج غُـيِّب عنه ولده الثاني فقال: {فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً إنه هو العليم الحكيم} ثم أنزل همه وكربه بربه جلَّ وعلا فقال: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون}. الله أكبر.. يقين أرسى من الجبال، وعلمٌ بالله لا يخالطه شك أو جدال.
فالمؤمن الواثق مهما نزلت به الأمراض، أو ابتلي بفقد الأحباب، أو حُرِم من المال والولد، أو تكاثرت عليه مشاكل ومصائب في وظيفة أو تجارة أو سيارة أو بيت أو غير ذلك، لا يفقد صفاء العقيدة ونور الإيمان، أما الإنسان الجزوع فإنه إذا نزلت به المصائب ضاقت عليه مسالك الفرج بل ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فييأس، فإذا يئس زاد مرضُه مرضاً وهـمُّه هماً.
إذا اشتملت على اليأس القلوب……وضاق لما به الصدر الرحيب
وأوطأت المكاره واطمأنت……….وأرست في أماكنها الخطوب
ولم تر لانكشاف الضر وجها….. ولا أغني بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث…….. يجيء به القريب المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت……… فموصول بها الفرج القريب
من المنح التي تكون مع البلاء
1- رفع المنزلة عند الله: أخرج الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة فلم يبلغها بعمله، ابتلاه الله في جسده أو ماله أو ولده ثم صبر على ذلك؛ حتى يبلغ المنزلة التي أرادها الله له”
2- أن البلاء دليل على قوة الإيمان وعظيم المنزلة عند الرحيم الرحمن؛ فإن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل “يبتلى المرء على حسن دينه” رواه الترمذي وقال حسن صحيح.
3- إن أمر المؤمن كله له خير إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن.
4- أن يرفع الله درجاته ويكفر عنه سيئاته ويمحو خطيئاته، وقد قال الله عز وجل عند الحديث عن الإفك {لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم}
5- أن يظهر العبد عبوديته وافتقاره إلى الله تعالى ليزيل عنه ما به؛ أخرج أبو داوود في سننه من حديث أبي سعيد الخدري قال: دخل النبي صلى الله عليه وسـلم المسجد ذات يوم فرأى فيه رجلاً من الأنصار يقال له أبو أمامة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أراك جالساً في المسجد في غير وقت صلاة) قال هموم لزمتني، وديون يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسـلم: (أفلا أعلمك كلاماً إذ قلته أذهب الله همَّك وقضى عنك دينك) قلت: بلى يا رسول الله، قال: (قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال) قال ففعلت ذلك فأذهب الله تعالى همي وغمي وقضى عني ديني.
ومن الأدعية عند الهمِّ والقلق ما أخرجه أحمد في المسند من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسـلم “ما أصاب أحداً قط همٌّ ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك أبن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضائك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرجا” وفي رواية “فرحا” قال فقيل يا رسول الله ألا نتعلمها؟ قال “بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها”
يا صاحب الهم إن الهم منفرج……… أبشر بخير فإن الفارج الله
إذا بليت فثق بالله وارض به……… إن الذي يكشف البلوى هو الله
قال بعض السلف: قرأت في بعض الكتب المنزلة أن الله عز وجل يقول: (يؤمَّل غيري للشدائد والشدائد بيدي، وأنا الحي القيوم!!!! ويرجَّى غيري ويطرق بابه بالبكرات وبيدي مفاتيح الخزائن وبابي مفتوح لمن دعاني!!! من ذا الذي أملني لنائبة فقطعت به؟ أو من ذا الذي رجاني لعظيم فقطعت رجاءه؟ ومن ذا الذي طرق بابي فلم أفتحه له؟ أنا غاية الآمال فكيف تنقطع الآمال دوني؟ أبخيل أنا فيبخلني عبدي؟ أليست الدنيا والآخرة والكرم والفضل كله لي؟ فما يمنع المؤملين أن يؤملوني؟ ولو جمعت أهل السماوات وأهل الأرض ثم أعطيت كل واحد منهم ما أعطيت الجميع، وبلغت كل واحد منهم أمله لم ينقص ذلك من ملكي عضو ذرة، وكيف ينقص ملك أنا قيِّمه، فيا بؤسا للقانطين من رحمتي!! ويا بؤساً لمن عصاني ووثب على محارمي!!
ذكر ذلك ابن رجب في نور الاقتباس، والإسرائيليات يعتضد بها ولا يعتمد عليه كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.