1/ اليهود أمة غضب الله عليهم ولعنهم على لسان أنبيائهم، كما قال سبحانه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} وقال سبحانه: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} وقد وصفهم الله تعالى في كتابه بسوء فعالهم؛ فهم الذين يطعنون في ذات الرب سبحانه وتعالى كما قال سبحانه: {وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}، وقال سبحانه في اليهود: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}. وهم الذين كفروا بالله تعالى وكذبوا رسله، وقتلوا الأنبياء والمصلحين، كما قال سبحانه: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}. بل إنهم لا يتركون مُصلحاً أو آمراً بالقسط إلا قتلوه وتآمروا عليه، كما أخبر الله عنهم، فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.
2/ ولليهود تاريخ أسود مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فَهَمُّوا بقتله، ووضعوا له السم، وآذوه بأنواع الإيذاء في حياته، ولا يزالون يتطاولون عليه ويسيئون إليه بعد مماته صلى الله عليه وسلم. واليهود أشد الناس فساداً في الأرض؛ فهم يستبيحون الأمم الأخرى، كما قال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. ولا يزال اليهود متصفين بنقض العهود، كما أخبر عنهم سبحانه بقوله: {أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}.
3/ لقد احتل اليهود أرض فلسطين بعد أن قتلوا أبناءها، وأخرجوهم من ديارهم، وسلبوا ممتلكاتهم، وحاربوا العرب من أجل ذلك، واستعانوا بالقوى الدولية على تحقيق أهدافهم، ولا يزالون يسعون لإقامة دولة اليهود الكبرى من النيل إلى الفرات ومن الإسكندرية إلى المدينة المنورة، وإلحاقها بفلسطين المحتلة، ويسعون في هذه الفترة مع من يعينهم من القوى الدولية لتحطيم مقومات العرب من دين وأخلاق، وقوة واقتصاد، وجيش وأمن، ووحدة سياسية، ويفرضون على العرب اليوم التسليم بكل ما فعلوا ضدهم وضد إخوانهم في فلسطين، ويطلبون منهم الرضا بالأمر الواقع، واعتبار ذلك أمراً طبيعياً، بينما هم لا يتوقفون عن تنفيذ بقية مخططاتهم المدمرة للعرب والمسلمين ومقوماتهم.
- إن موالاة أعداء الإسلام محرمة شرعاً وبخاصة هؤلاء اليهود؛ لأنهم في حالة حرب مع العرب والمسلمين، واغتصاب لأراضيهم ومقدساتهم، ويخططون لإقامة دولتهم اليهودية الكبرى على أراضي المسلمين، وعليه فيحرم شرعاً التطبيع معهم كما يدل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. وكما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
- يحرم التعامل مع هؤلاء اليهود الحربيين بيعاً أو شراءً أو استثماراً أو تمليكاً للأراضي حتى لا يكون سبباً في توطينهم وادعائهم الإقامة حيث يملكون
- برز اصطلاح جديد وهو التطبيع، وقد استعمله اليهود كثيراً على الرغم من المغالطة في المفهوم؛ حيث إن التطبيع هو عودة العلاقات إلى سابق عهدها، بينما الأصل في العلاقة مع اليهود هو العداوة كما قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ والَّذِينَ أَشْرَكُوا} ولا ينكر الساسة اليهود أن التصور الإسرائيلي للسلام مع العرب يدور حول فكرة أساسية هي تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية التي هي مرحلة من مراحل السيطرة اليهودية
يمكن تلخيص مظاهر التطبيع بالآتي:
أولاً: التطبيع السياسي؛ حيث أرسيت علاقات دبلوماسية كاملة ولقاءات قمة متبادلة.
ثانياً: التطبيع الاقتصادي؛ حيث تمت إزالة جميع الحواجز بل أصبحت (إسرائيل) الدولة الأولى بالرعاية.
ثالثاً: التطبيع الثقافي؛ حيث ينظر اليهود إليه على أنه الدعامة الرئيسة لبقاء السلام حيث يتم نزع العداء لليهود من العقل العربي.
ومن مظاهر التطبيع يتبين لنا أهمية التطبيع الكبيرة بالنسبة للكيان اليهودي، حيث يتم كسر الحاجز النفسي بين المسلمين واليهود، وتنتهي المقاطعة العربية مما يفتح المجال لتوسع اقتصادي كبير في (إسرائيل) نتيجة فتح الأسواق العربية، وهناك أمر آخر هو أهمها وهو أن الاستقرار الأمني في المنطقة سيؤدي إلى سيل كثيف من هجرة اليهود إلى (إسرائيل)، مما يقرب اليهود من تحقيق حلم (إسرائيل) الكبرى؛ حيث إن قلة عدد السكان هو أكبر عامل يعرقل المشاريع اليهودية في المنطقة. ويتبين من حرص اليهود على التطبيع بين مصر و(إسرائيل) عدة مظاهر خطيرة:
منها استغلال الدين وتطبيعه حيث يتم تصوير ذلك على أنه إحياء لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم في صلحه مع قريش، وسنة صلاح الدين في دخوله القدس وقد أصر اليهود على منع بث السور التي تتحدث عن اليهود وحذف الآيات التي تفضح اليهود من الكتب الدراسية، وكذلك منع البرامج الدينية التي تتناول قصص اليهود والواردة في القرآن، وأخيراً تأليب النظام على الحركة الإسلامية. وقد سارعت الحكومات المطبعة وقامت بمراجعة شاملة لمناهج التعليم في مصر وتعديلها لتلائم المرحلة الجديدة، وبالطبع لم يتم شيء من هذا في الجانب اليهودي. إن اليهود مصرون على تحقيق هدفهم مستعينين على ذلك بتواطؤ الحكومات العربية إضافة إلى جدهم وجَلدهم، فمنذ الأيام الأولى لتأسيس (إسرائيل) صرح بن غوريون في كلمة موجهة إلى الطلاب اليهود بقوله: (إن هذه الخارطة ليست خارطة شعبنا، إن لنا خارطة أخرى عليكم – أنتم طلاب المدارس اليهودية وشبابها – أن تحولوها إلى واقع… يجب أن يتسع شعب (إسرائيل) من النيل إلى الفرات)!
إن حلقات هذا المسلسل لن تنتهي إلا بتحقيق موعود الله – تعالى – لهذه الأمة على لسان نبيها بأن تحصل المجابهة النهائية بين اليهود وبين جند الإسلام؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود؛ فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعالَ فاقتلْه..) رواه مسلم والترمذي. فما يحصل الآن هو بشارة لهذه الأمة بعودة دولة الإسلام وإن الله جامع اليهود ليوم الملحمة.ا.هــــ
وقال المغيرة بن شعبة لعامل كسرى عندما خرج المسلمون لقتال الفرس زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ” فأمرنا نبينا رسول ربنا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم، حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية “. وإذا بقي الكفار على دينهم لكن قبلوا بخضوعهم لحكم الإسلام، ودفع الجزية صارت دارهم بخضوعها لحكم الإسلام دار إسلام، فإن رفضوا صاروا محاربين، وإزاء إيمان المؤمنين، وكفر الكافرين وامتناعهم من الدخول في حكم الإسلام انقسمت البلدان إلى دارين: دار يأرز إليه الإيمان، وهي دار الإسلام التي تظهر فيها شرائعه وأعلامه، ويحكم فيها بشرع الله. ودار للكفر وهي التي تغلب فيها شرائع الكفر، ويحكم فيها بحكم الطاغوت. وقد كانت العلاقة بين دار الإسلام ودار الحرب ذات شقين: فمن جانب المسلمين كانت علاقة الدعوة إلى دين الله والقتال من جانب المسلمين؛ لمنع تسلط الكافرين على خلق الله. ومن جانب الكفار الحربيين كانت علاقة القتال للصد عن سبيل الله، والسعي في إطفاء نور الله، غير أن هذه العلاقة قد تتخللها في بعض الفترات الزمنية حالات، وأوضاع يحتاج فيها المسلمون إلى الصلح أو الهدنة، إما لأسباب تعود إلى المسلمين: (كضعف أو استعداد وتقوية ونحو ذلك)، وإما لأسباب تعود إلى الكافرين: (كحُسن ظن في المسلمين، وقرب هداية، ونحو ذلك)
رابعاً: الصلح فيه تفصيلات كثيرة، لكن يضبط هذه التفصيلات أمران لا بد من تحققهما:
الأول: أن يكون الصلح مما يوافق أحكام الشريعة في أصله وتفصيلاته، فلا يشتمل في أصله أو تفاصيله على ما يضاد أو يناقض الأحكام الشرعية.
الثاني: أن يكون مبناه على ارتياد ما هو في مصلحة الإسلام والمسلمين؛ فالصلح الذي يجلب على المسلمين الضرر، سواء في دينهم أو دنياهم، وكذلك الصلح الذي لا يجلب نفعاً، هو صلح لم يقم على قاعدة ارتياد الأصلح، وكل عهد أو صلح بين المسلمين وبين الكفار لم يحقق هذين الأمرين، أو أحدهما فهو صلح لا يعتد به شرعاً، وهو صلح باطل؛ لأنه أسس على غير التقوى.
ومن هذا العموم الذي تقدم ننتقل إلى التفاصيل: تعريف الصلح: يراد بالصلح بين المسلمين وبين الكافرين الحربيين: هدنة أو موادعة أو معاهدة يتفق عليها الطرفان؛ لتحقيق بعض المصالح التي يهدف إليها كل طرف من وراء المعاهدة، ومن شروط هذه الهدنة أو الموادعة أو المصالحة أو المعاهدة المعتبرة شرعاً ما يلي:
أن تكون على النظر لصالح المسلمين كأن تنزل بهم نازلة، أو أن المسلمين يرجون إسلام المشركين، أو أن المشركين يقبلون بإعطاء الجزية بلا مؤونة. أما الهدنة التي لا تكون على النظر لصالح المسلمين، بل يتحقق من خلالها مصالح المشركين: كرواج تجارتهم وتصدير سلعهم، ومنتجاتهم الصناعية، وغيرها إلى بلاد المسلمين، أو حصولهم على المواد الخام من بلاد المسلمين بأسعار رخيصة.
أو كان يترتب على ذلك تدخل الكفار في ثقافة الشعوب الإسلامية، والتأثير في مناهج التعليم فيغيرون منها، أو يحذفون ما فيها من النصوص الشرعية التي تتحدث عن الأحكام التي ينبغي أن تكون بين المسلمين والكافرين (أحكام الموالاة والمعاداة)؛ فإن هذا الصلح لم يقم على قاعدة ابتغاء مصلحة المسلمين، وإنما قام على ضرر المسلمين، ومن القواعد المقررة في فقه السياسة الشرعية أن تصرّف الإمام منوط بالمصلحة؛ فما لم يكن فيه مصلحة بل مفسدة فهو تصرف باطل؛ لأن الشرع لا يأمر بالفساد، قال الشافعي – رحمه الله تعالى -: “وإذا سأل قوم من المشركين مهادنةً، فللإمام مهادنتهم على النظر للمسلمين، رجاء أن يسلموا أو يعطوا الجزية بلا مؤونة، وليس له مهادنتهم إذا لم يكن في ذلك نظر”، وقال: ” وإن صالحهم الإمام على ما لا يجوز فالطاعة نقضه”.
وقال الماوردي الشافعي: “وإذا لم تَدْعُ إلى عقد المهادنة ضرورة لم يجز أن يهادنهم”، وقال ابن العربي المالكي: “إذا كان المسلمون على عِزَّة، وفي قوة ومنعة، ومقانب عديدة، وعدّة شديدة: فلا صلح حتى تُطعن الخيلُ بالقنا، وتُضرب بالبيض الرقاقِ الجماجمُ، وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح لانتفاع يُجلب به، أو ضر يندفع بسببه؛ فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه، وأن يجيبوا إذا دُعوا إليه”، وقال ابن قدامة الحنبلي: “ومعنى الهدنة: أن يعقد لأهل الحرب عقداً على ترك القتال مدة، بعوض وبغير عوض. وتسمى مهادنة وموادعة ومعاهدة، وذلك جائز، بدليل قول الله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ}. وقال سبحانه وتعالى: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}، ولأنه قد يكون بالمسلمين ضعف، فيهادنهم حتى يقوى المسلمون.
ولا يجوز ذلك إلا للنظر للمسلمين؛ إما أن يكون بهم ضعف عن قتالهم، وإما أن يطمع في إسلامهم بهدنتهم، أو في أدائهم الجزية، والتزامهم أحكام الملة، أو غير ذلك من المصالح”، وقال صاحب الهداية الحنفي: “وإذا رأى الإمام أن يصالح أهل الحرب أو فريقاً منهم، وكان في ذلك مصلحة للمسلمين فلا بأس به لقوله تعالى: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}، ووادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة عام الحديبية، على أن يضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين؛ ولأن الموادعة جهادٌ معنًى إذا كان خيراً للمسلمين؛ لأن المقصود وهو دفع الشر حاصل به،… بخلاف ما إذا لم يكن خيراً؛ لأنه ترك الجهاد صورة ومعنى “؛ فقيّد ذلك بكونه مصلحة للمسلمين، وجعل الموادعة إذا حققت الخير بمنزلة الجهاد من حيث المعنى، أما إذا كانت الموادعة لم تحقق الخير أو المصلحة كان ذلك تركاً للجهاد، وهذا لا مصلحة فيه، وقد بين الشيخ ابن باز – رحمه الله تعالى – أن الصلح إنما يكون “عند العجز عن قتال المشركين، والعجز عن إلزامهم بالجزية إذا كانوا من أهل الكتاب أو المجوس، أما مع القدرة على جهادهم وإلزامهم بالدخول في الإسلام أو القتل أو دفع الجزية إن كانوا من أهلها فلا تجوز المصالحة معهم وترك القتال وترك الجزية، وإنما تجوز المصالحة عند الحاجة أو الضرورة مع العجز عن قتالهم أو إلزامهم بالجزية إن كانوا من أهلها”.
ومن الشروط الفاسدة التي لا مصلحة فيها للمسلمين مصالحتهم على “إعطائهم شيئاً من سلاحنا أو من آلات الحرب” قال ابن قدامة بعدما ذكر هذه وأشياء أخرى: ” فهذه كلها شروط فاسدة لا يجوز الوفاء بها”، ويلحق بإعطاء السلاح أو آلات الحرب الموافقة على الامتناع من استخدام بعض أنواع السلاح في الوقت الذي يمتلك فيه الكفار هذا النوع من السلاح ولا يمتنعون عن استخدامه عند الحاجة إليه مثل ما يعرف في وقتنا الحاضر بأسلحة الدمار الشامل؛ فإنه لو تمت المصالحة أو المعاهدة على أن يمتنع المسلمون من تملُّك هذا النوع من الأسلحة أو صناعته، بينما الكفار لا يمتنعون عن تملكه وصناعته كان هذا من الشروط الفاسدة التي لا يحل الموافقة عليها، لأنه شرط يضعف المسلمين مقابل أعدائهم كما أنه يخالف الإعداد المأمور به في قوله تعالى: {وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ}، فتكون نتيجة ذلك تجريد المسلمين من الأسلحة القوية التي يتحقق عن طريقها ردع العدو بإذن الله تعالى وتحقيق النصر.
ومن شروط الهدنة الصحيحة عدم مخالفة الشريعة أو معارضتها: وتحدث المخالفة بأن تؤسس المعاهدة في أصلها أو في تفاصيلها على ما يخالف الشريعة، وهذا قد يأخذ صورا ًمتعددة؛ فمن ذلك: التعاهد على أن يكون التصالح أبدياً؛ لأن التأبيد يتضمن التعاهد على ترك الجهاد في سبيل الله تعالى، وهو من فرائض الدين الثابتة بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، ولا يمكن أن تقبل الشريعة فكرة أن يتعاقد الناس ويتعاهدوا على تجاوز الأحكام الشرعية؛ فالغاية من الجهاد أمران:
الأول: نشر الإسلام في أرض الله، وإزالة تحكم الكفار في خلق الله، وهذا يُعرف بجهاد الطلب.
والثاني: الدفاع عن دار الإسلام ضد عدوان المعتدين من الكفار والمشركين وأضرابهم وهذا يُعرف بجهاد الدفع.
وقد أتفق أهل العلم على أنه لا يجوز أن تكون المعاهدة أبدية، وهم بعد اتفاقهم على عدم التأبيد على قولين في توقيت المعاهدة:
القول الأول: فالجمهور على أن المعاهدة ينبغي أن توقت بوقت، وأطول وقت يمكن اعتباره للمعاهدة هو عشر سنوات، وهي المدة التي صالح عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين في مكة، وإن كان هناك من أهل العلم من يجعل المدة مرتبطة بالمصلحة؛ فقد تزيد عن ذلك، وقد تنقص بشرط ألا تكون أبدية.
والقول الثاني: بجواز أن تكون المعاهدة مطلقة؛ أي من غير تحديد فترة زمنية تنتهي عندها المعاهدة، بل تكون مطلقة عن قيْد الزمن، وأن من أراد نبذها فله ذلك بعد إعلام الطرف الثاني حتى لا يكون هناك غدر. وبعض أهل العلم يرفضون هذه الصورة من أجل خشيتهم أن يؤدي إطلاق المدة إلى تأبيد المعاهدة، وهذا التعاهد المؤبد يتضمن مفاسد أخرى؛ حيث يستروح المسلمون لتلك المعاهدة المؤبدة، فيقصرون في الاستعداد، حتى يصلوا إلى مستويات متدنية في القوة والتجهيزات، وحينئذ ينقض عليهم العدو الذين لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، وحينئذ لا ينفع الندم، ولا يفيد ما يقوله النادمون: يا ليتنا ويا ليتنا! ونحن هنا لا نتكلم من قبيل الفروض الذهنية، وإنما نتكلم من قِبَل إخبار من هو بكل شيء عليم، ومن يعلم ما تخفي الصدور؛ فقد نبأنا الله من أخبار المشركين والكفار أنهم: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ}، وأنهم {قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}، وأنهم: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلاَ المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ}.
ولا يسوغ الاحتجاج على جواز ذلك بقوله تعالى: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}، أو بمصالحة الرسول صلى الله عليه وسلم لمشركي قريش في صلح الحديبية، أو غيرها من معاهدات الصلح مع أهل الكتاب؛ لأن المنازعة ليست في جواز الصلح عند الاحتياج إليه ووجود دواعيه؛ فإن ذلك مما لا ينازع فيه أحد من أهل العلم المعتبرين، وإنما الكلام في الشروط المرتبطة به والنتائج المترتبة عليه، فلا ينبغي الدعوة إلى المصالحة أو قبولها على خلاف أحكام الشرع؛ لأن ذلك من ظن السوء بالله تعالى وهو من تصرفات أهل الجاهلية والشرك وليس من تصرفات المسلمين الذين يحسنون ظنهم في ربهم ودينهم، وأن الله ناصرهم ومؤيدهم إذا اعتصموا به واتبعوا شريعته، قال الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ}، وقال: {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً}، وإذا كان بالمسلمين ضعف فالحل لا يكمن في معصية الله، ومخالفة أمره، والركون إلى الكفار والاعتصام بهم والتودد إليهم والمسارعة فيهم؛ فإن ذلك لا يزيدهم إلا ضعفا على ضعف، وقد عدَّ الله المسارعة في الكفار بزعم الضعف من علامات مرض القلب، فقال تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ}. فإذا كان بالمسلمين ضعف فلا يجوز الركون إليه والاستسلام له والتعويل عليه، بل عليهم السعي إلى الأخذ بإزالة أسباب ضعفهم؛ لأن الاستسلام له حكم بالموت على المسلمين في واقع الحياة، والقدرة على التأثير فيها، وسيظل المسلمون رهينة لهذا الضعف، كل يوم يُنتقَص شيء من دينهم، وشيء من أراضيهم وممتلكاتهم، ثم يُسوَّغ ذلك بالحجة نفسها حجة الضعف.
والذي يستقيم مع أحكام الشريعة في ظل الظروف التي تحياها الأمة الإسلامية أنه يجوز المصالحة أو المعاهدة على وضع الحرب عشر سنوات أو أكثر أو أقل حسب ما يُرى من تحقيق المصلحة في ذلك، من غير التسليم بأحقية الكفار في الاستيلاء على ما غلبوا عليه من دار الإسلام، ويقوم ولاة أمور المسلمين بالأخذ بأسباب القوة من التمسك بالشريعة الإسلامية وتحكيمها بمعناها الشامل الكامل (لا بمعنى الاقتصار على جزء منها كالعبادات، أو إقامة بعض الحدود)، ومن العناية بتحصيل أسباب القوة المادية، سواء بالشراء أو التصنيع امتثالاً لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}، وتشجيع البحث العلمي، ورصد المكافآت له وإقامة مراكز الأبحاث والعناية بها، وليس ببعيد على المسلمين مع توفيق الله لهم أن يتمكنوا من تحصيل أسباب القوة في فترة عشر سنوات، إذا جدوا واجتهدوا، تمكنهم من استرداد حقوقهم المسلوبة، أو تمكنهم من إقامة صلح من مركز قوة تراعي فيه الشروط الشرعية المتقدمة؛ بدلاً من الهرولة والمسارعة إلى صلح ليس لهم منه إلا الاسم الأجوف، بينما الحقيقة خضوع واستسلام في ظل الهوان.
والتطبيع بين العرب والصهاينة قد يكون أخطر نتائج اتفاقيات التسوية بين النظام العربي الرسمي وإسرائيل؛ حيث إن الهدف النهائي لهذا التطبيع يتركز في محاور رئيسة مهمة، أبرزها: الوصول إلى عقل المواطن العربي ووجدانه، وضرب المناعة النفسية لديه، ودفعه للقبول بالآخر «الإسرائيلي» ضمن شروطه التي يفرضها في عصر قوته، والترويج لفكرة المشاركة مع الآخر «الإسرائيلي» في كل المجالات والقطاعات..
وفي ضوء أن التطبيع يمثّل الدعامة الرئيسة للتغلغل الإسرائيلي في المنطقة العربية، لأنه أعمق وأكثر استقراراً من أي ترتيبات أمنية؛ كالمناطق المنزوعة السلاح، ووضع قوات دولية… وغيرها من الترتيبات الأمنية؛ فإنه يبقى العامل الحاسم على المدى البعيد؛ لأن الصراع يترسخ في وعي الشعوب وثقافتها وذاكرتها الجمعية ووجدانها، فيصعب هز القناعات وتدمير مقومات الذاكرة الوطنية واختراق الثوابت التاريخية والدينية والحضارية دون إقامة جسور للتواصل والتطبيع.
ومن ثم، فإن الإصرار الإسرائيلي على التطبيع ينبع من إدراكه أن هذا الميدان هو المؤهل والقادر على تلويث الفكر العربي والثقافة الشعبية الوطنية، وضخ المفاهيم والتصورات المشوهة لقيمه ومبادئه و«الشخصية القومية»؛ فالتطبيع في المجال الثقافي، كما تنطوي عليه المخططات الإسرائيلية، يستهدف في التطبيق العملي إعادة كتابة التاريخ الحضاري للمنطقة العربية، من خلال تزييف عديد من الحقائق والبديهيات التاريخية المتعلقة بالطريقة الاستعمارية الاستيطانية التي أقحمت دولة الكيان في الوطن العربي، والتوقف عن تدريس الأدبيات والوثائق والنصوص المعادية لليهود ودولة إسرائيل.
كما يهدف التطبيع إلى أن تصبح الجامعات ومراكز الأبحاث الإسرائيلية، مرجعية علمية للمنطقة بأسرها، بحيث تؤسس للمشروع «الصهيوني» الموجّه لتدمير الثقافة والهوية الحضارية للمنطقة العربية بأكملها، بل إحداث التفكيك والفوضى داخل كل قطر عربي، عبر إذكاء روح التناحر بين المنتمين للأديان والطوائف والمذاهب والجماعات المختلفة من جهة، ومحاولة تحقيق السيطرة الثقافية والعلمية والتقنية من جهة أخرى، وتدمير المقومات الذاتية للثقافة والحضارة العربية؛ ولهذا فهو في نظر خبراء إسرائيل وباحثيها وقادتها العنصرُ الأهم والأكثر إلحاحاً في فرض الهيمنة «الصهيونية» على العرب، وجعلهم يستسلمون نهائياً، تعبيراً عن الهزيمة الحضارية والانهيار والانتحار الجماعي.
خامساً: ويمكن الإشارة إلى عديد من الشواهد التي تؤكد سريان التطبيع لبعض النخب السياسية والثقافية، ومن ذلك أن هذا التطبيع الثقافي بين العرب والإسرائيليين يستهدف مفردات قاموس خطابهم السياسي والثقافي، بدليل أننا بتنا نتحدث عن إعادة الانتشار بدلاً من الانسحاب أو جلاء الاحتلال، ووقف الاستيطان بدلاً من إزالته، ولم نعد نستخدم كلمة العدو الصهيوني، وتردد ألسنتنا دون وعي المسميات الإسرائيلية لكثير من الأماكن العربية، ومن يدري أي صفات بدل «العدو» سنطلقها على إسرائيل في وقت لاحق.
كما يلاحظ على خطابنا أنه يتسم بنبرة استعطافية توحي وكأن الطرف الإسرائيلي هو الثابت وصاحب الحق، وأننا نحن الطارئون. كما يختصر خطابنا حقوقنا في حدود الضفة والقطاع كحد أقصى، متجاهلاً تماماً حقنا التاريخي في فلسطين كاملة.
إلى جانب أن التطبيع يستهدف إعادة صياغة مفاهيمنا ومناهج تفكيرنا بما ينسجم مع المتغيرات الإقليمية والدولية، أي إعادة النظر في كثير من قضايا تاريخنا العربي، وإعادة قراءة، وربما كتابة، تاريخنا الماضي والمعاصر، فنعيد النظر في موقفنا من الحركة الصهيونية، والطبيعة الاستعمارية العدوانية لإسرائيل، ودور الغرب الاستعماري فيما وصل إليه حال أمتنا من التخلف والتجزئة ونهب الثروات.
بل أكثر من ذلك، فإن التطبيع يهدف لمسح الذاكرة التاريخية للأمة، وقطع صلتها بماضيها، من خلال الدعوة للابتعاد عن كل ما يثير الأحقاد، ويسعِّر موجة العداء، أو يثير أسبابه؛ بدعوتنا للتركيز على متغيّرات الحاضر، والانطلاق منها إلى المستقبل، في الوقت الذي يتمسك فيه العدو بنبش الماضي علَّه يجد فيه بعض ما يؤكد حقه؛ كاحتفالات إسرائيل بثلاثة آلاف عام على إنشاء القدس، وإحياء التراث اليهودي في القدس والخليل، حتى لو أدى الأمر إلى هدم الأماكن الإسلامية المقدسة.
بكلمات أخرى:
فإن التطبيع يستهدف الإبداع العربي في كل أجناسه، خاصة أن الصراع العربي ضد الصهيونية وأهدافها وأخطارها على الوطن العربي، وكذلك مقاومة الأطماع الغربية في وطننا وثرواته؛ تمثل في عناوين رئيسة: في إبداعنا الأدبي والفني من شعر، ورواية، وغيرها.. فأي اتجاه ستسلكه هذه الإبداعات في ظل التطبيع، وفي ظل المتغيّرات السياسية والاقتصادية، وتغير المفاهيم والأفكار؟
إلى جانب فتح غالبية الفضائيات العربية أبوابها مشرعة أمام المسؤولين الصهاينة من سياسيين وعسكريين ليقولوا ما يريدون، واندماج قسري للاقتصاديات العربية في العولمة الاقتصادية بما تمليه من فتح للحدود ووقف للمقاطعة الاقتصادية على أسس سياسية.
أخيراً، فإن التطبيع مع عدو يحتل الأرض يتناقض مع المصالح الاستراتيجية للأمة، ومع قيمها الوطنية والإسلامية، وهو موقف يعد تواصلاً مع الموقف المبدئي المساند للقضية الفلسطينية.