1- أعظم ثمرات الإيمان: الحياة الطيبة، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} حرامٌ على من أعرض عن الله الحياة الطيبة، وحرامٌ عليه السعادة والسرور، قال سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} قال أحد الصالحين بعد أن تاب: “ذقت كل شيء فما وجدت كالتقوى”. وقال إبراهيم بن أدهم وهو مؤمنٌ صالحٌ مقبل على الله: “نحن في سعادة لو يعلم بها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليه بالسيوف”.
العيش مع الله! السعادة الكامنة في الإيمان، وفي النوافل التي جعلت المؤمن يرى الذهب والفضة كأنها أكوام من تراب، ويرى القصور كأنها ثكنات من صخور، ويرى المناصب كأنها لا شيء؛ لأنه بإيمانه ويقينه وإقباله على الله استثمر الإيمان.
إن السعادة الحقيقية والحياة الطيبة تكون بالقرب من الله، القرب من ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، فالأمر أمره، والخلق خلقه، والتدبير تدبيره، ولذلك تجد الإنسان دائماً في قلق وتعب، تجد الشخص يتمتع بكل الشهوات، ومع ذلك تجده من أكثر الناس آلاماً نفسية، وأكثرهم قلقاً نفسياً، وأكثرهم ضجراً بالحياة، واذهب وابحث عن أغنى الناس تجده أتعب الناس في الحياة، لماذا؟ لأن الله جعل راحة الأرواح في القرب منه، وجعل لذة الحياة في القرب منه، وجعل أنس الحياة في الإنس به سبحانه وتعالى.
2- مفاهيم خاطئة حول الحياة الطيبة: ليست السعادة في وفرة المال، ولا سطوة الجاه، ولا كثرة الولد، ولا نيل المنفعة، ولا العلم المادي، ولا المخترعات، ولا الآلات؛ إنها شيء لا يرى بالعين، ولا يقاس بالكم، ولا تحتويه الخزائن، ولا يشترى بالدينار، ولا الجنيه والدولار؛ السعادة: شيء يحسه الإنسان بين جوانحه إنها صفاء نفس، وطمأنينة قلب، وانشراح صدر، وراحة ضمير.
قال زوج لزوجته: لأشقينك، فقالت له بهدوء: لا تستطيع ذلك أبداً كما أنك لا تملك أن تسعدني، فقال في حنق: وكيف لا أستطيع؟ فقالت في ثقة: لو كانت السعادة في راتب لقطعته عني، أو زينة من الحلي والحلل لحرمتني منها، ولكنها في شيء لا تملكه أنت ولا الناس أجمعون فقال: وما هو؟ فقالت في يقين: إني أجد سعادتي في إيماني، وإيماني في قلبي، وقلبي لا سلطان لأحد عليه إلا ربي.
هذه هي السعادة التي أحس بها المؤمنون الصالحون فقال قائلهم: إننا نجد سعادة لو علم بها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف؛ لأنهم يبحثون عنها أشد البحث.
وقال الآخر وهو في جنة ذكره في الدنيا وخلوته بربه: إنه لتمر علي ساعات أقول فيها: لو كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه لكانوا في عيش طيب.
هؤلاء الذين يعيشون في جنة الإيمان وواحته في الدنيا، هؤلاء هم المغمورون في السعادة حقاً.
يا عباد الله! لا نجحد أن للجانب المادي أثراً في تحقيق السعادة للإنسان، ففي مسند أحمد من حديث إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ ثَلاثَةٌ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ ثَلاثَةٌ، مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ: الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الصَّالِحُ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ: الْمَرْأَةُ السُّوءُ، وَالْمَسْكَنُ السُّوءُ، وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ” ولكنها ليست كل شيء، ليست في المكان الأول، إن المكان الأول إنما هو للإيمان الذي هو حقيقة السعادة، السعادة الحقيقية فيه أنه يحس بسكينة النفس.
قال أحد الأطباء اللامعين في أمريكا: وضعت مرة وأنا شاب جدولاً لطيبات الحياة المعترف بها، فكتبت رغباتي الدنيوية: الصحة والموهبة والقوة والثراء والشهرة، ثم أطلعت حكيماً من الحكماء عليها، فقال: يبدو أنك أغفلت العنصر المهم الذي بدونه يعود جدولك عبئاً لا يطاق، فقلت ما هو: فضرب على الجدول كله وكتب كلمتين: سكينة النفس وهي ما يبحثون عنها، ثم قال: وقد وجدت يومئذ أن من الصعب أن أتقبل هذا، ولكن الآن بعد نصف قرن من الزمن والتجربة الخاصة والملاحظة الدقيقة؛ أصبحت أدرك أن سكينة النفس هي الغاية المثلى للحياة الرشيدة، لقد رأيت السكينة تزهر بغير عون من المال، وبغير مدد من الصحة، بل إنها تحول الكوخ إلى قصرٍ رحب، كما تحول القصر قفصاً وسجناً.
فلا سكينة -أيها الإخوان- بلا إيمان، السكينة التي يبحثون عنها أين هي؟ إنها في الإيمان بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، لقد علمتنا الحياة أن أكثر الناس قلقاً واضطراباً وشعوراً بالتفاهة والضياع هم المحرومون من نعمة الإيمان؛ انظر إليهم في المخدرات، وانظر إليهم في حالات الانتحار، وانظر إليهم في عيادات الأطباء النفسانيين، إن حياتهم ليس لها طعم ومذاق وإن حفلت باللذائذ والمرفهات؛ لأنهم لا يدركون لها معنى ولا يفقهون لها سراً، ولكن المؤمن سكينته في نفسه روحٌ من الله ونور، يسكن إليها إذا خاف، ويطمئن عندها إذا قلق، ويتسلى بها إذا حزن، ويستروح بها إذا تعب، ويقوى بها إذا ضعف {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ” في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفة الله وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع على الله وجمع القلب وتوحد النية والتوجه والفرار إلى الله، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبداً “.
3- عوائق القرب من الله: هناك ثلاثة عوائق تمنعك من القرب من الله:
أولها: الشهوة التي تحول بينك وبين القرب من الله.
ثانيها: سوء الظن بالله.
ثالثها: الشيطان الذي أخذ على نفسه العهد أن يبعدك من الله عز وجل.
فأما الشهوة: فهي لذة ساعة وألم دهر شهوة اللهو واللعب الذي وصف الله عز وجل به هذه الحياة الدنيا أنها لهو ولعب، ولكن كم من أجساد لهت ولعبت وهي الآن تتقلب في عذاب القبور! وكم من أجساد لهت ولعبت ترى الآن الضنك في ضيق القبور! وكم من أناس الآن تضيق عليهم اللحود، هؤلاء يتمنون لحظة واحدة من ذكر الله وطاعته.
لن تعرف قيمة هذه الحياة ولا حقيقة هذه الشهوة التي دعت إلى معصية الله، إلا إذا جاء وقت فراق هذه الحياة، ولن تجد ندماً أصدق من ندم الإنسان إذا ودع هذه الحياة، وسيعرف الإنسان حقيقة الشهوة التي هي أول العوائق إذا فارق الحياة، وبمجرد أن تأتي لحظة الفراق تبكي بكاء الندم، ويقول الإنسان -ولو كان صالحاً-: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} يتمنى -ولو كان صالحاً- أن يرجع؛ لكي يزيد من صحيفة العمل، ولا يغتر الإنسان ويقول: إن هذه الساعة بعيدة؛ لأنه شباب، فكم من حوادث أخذت أناساً في عز الشباب وزهرته، وشدة النشوة واكتمال العمر، ولذلك ينبغي للإنسان أن يعرف حقيقة هذه الشهوة، والله عز وجل لم يحرمنا من الشهوة، ولا منعنا من اللذة، بل جعل للشهوة موضعاً ومكاناً معيناً، أميناً سليماً نقياً، ولا يأذن لك أن تضع الشهوة في غير هذا المكان.
أما الأمر الثاني من العوائق فهو: سوء الظن بالله، وبعض الناس إذا قلت له: أقبل على الله! يقول لك: يا أخي! لماذا تضيق عليّ؟! دعني أتمتع بالحياة! دعني أسهر وأتمتع بسهري، وأذهب وآتي وأتمتع بذهابي دون قيود أو حدود! يحس أن الحياة الضنكة والأليمة إذا اقترب من الله!! فوالله ثم والله! أنه لا أطيب من القرب من الله! ومن أراد أن يجدد لذة القرب من الله فليزدد من طاعة الله عز وجل، وليزدد من الصالحات، وليزدد من الأعمال التي تحبب إلى الله عز وجل، وتدعوه إلى مرضاته؛ حتى يحس ساعتها بلذة العبودية لله تبارك وتعالى.
أما الأمر الثالث الذي يعيق الإنسان عن طاعة الله ومحبته فهو: الشيطان الرجيم، وهذا الشيطان على نوعين: شيطان إنس، وشيطان جن، فمن أراد القرب من الله عز وجل فعليه أن يفر من شياطين الإنس وشياطين الجن، أما شياطين الإنس فهم الذين يزهدون في طاعة الله، وييئسون الإنسان ويقنطونه من رحمة الله، فينبغي للإنسان ألا يصغي إليهم، وليعلم أن الصديق الصادق في محبته ومودته وخلته، هو الذي يهدي إليه عيوبه، ويدعوه إلى محبة ربه وذل العبودية لخالقه.
وأما شيطان الجن فهي الوساوس التي يقذفها في قلب الإنسان، ويقول له: انتظر فلا زال في العمر بقية، ولا تعجل، وتمتع بهذه الحياة، تمتع بالشهوات فيها، واسهر ما شئت من الليالي، وافعل ما شئت من لذات هذه الحياة، فإن الحياة طويلة، ولا يزال يمنيه ويسليه حتى يسلمه إلى عاقبة الردى، نسأل الله جل وعلا أن يعصمنا وإياكم من ذلك.
4- ومن أعظم نعم الحياة الطيبة أن يرزق المرء زوجة صالحة إن نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله، وأن ترزق المرأة زوجاً صالحاً يتقي الله فيها، يؤدي إليها حقوقها، إن أحبها أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها، زوج يأمرها بالمعروف وينهاها عن المنكر، قال أنس: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زفوا امرأة على زوجها، يأمرونها بخدمة الزوج ورعاية حقه. وأوصى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ابنته فقال: “إياك والغيرة، فإنها مفتاح الطلاق، وإياك وكثرة العتب، فإنه يورث البغضاء، وعليك بالكحل فإنه أزين الزينة، وأطيب الطيب، الماء”
وقال أبو الدرداء لامرأته: “إذا رأيتني غضبت فرضني. وإذا رأيتك غضبى رضيتك. وإلا لم نصطحب” وقال أحد الأزواج لزوجته:
خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
ولا تقريني نقرك الدف مرة فإنك لا تـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدرين كيف المغيب
ولا تكثري الشكوى فتذهب بالقوى ويأباك قلبي والقلوب تقلـــــــــــــــــــــــــــب
فإنى رأيت الحب في القلب والأذى إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب
خطب عمرو بن حجر ملك كندة، أم إياس بنت عوف بن محلم الشيباني، ولما حان زفافها إليه خلت بها أمها أمامة بنت الحارث، فأوصتها وصية، تبين فيها أسس الحياة الزوجية السعيدة، وما يجب عليها لزوجها فقالت: أي بنية: إن الوصية لو تركت لفضل أدب لتركت ذلك لك، ولكنها تذكرة للغافل، ومعونة للعاقل.
ولو أن امرأة استغنت عن الزوج لغنى أبويها، وشدة حاجتهما إليها – كنت أغنى الناس عنه، ولكن النساء للرجال خلقن، ولهن خلق الرجال.
أي بنية: إنك فارقت الجو الذي منه خرجت، وخلَّفت العش الذي فيه درجت، إلى وكر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فأصبح بملكه عليك رقيبا ومليكا، فكوني له أمة يكن لك عبدا وشيكا. واحفظي له خصالا عشرا، يكن لك ذخرا:
أما الأولى والثانية فالخشوع له بالقناعة، وحسن السمع له والطاعة، وأما الثالثة والرابعة فالتفقد لمواضع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك ألا أطيب ريح. وأما الخامسة والسادسة فالتفقد لوقت منامه وطعامه؛ فإن تواتر الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة. وأما السابعة والثامنة فالاحتراس بماله والارعاء على حشمه وعياله، وملاك الأمر في المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير. وأما التاسعة والعاشرة فلا تعصين له أمرا، ولا تفشين له سرا، فإنك إن خالفت أمره أو غرت صدره، وإن أفشيت سره لم تأمني غدره. ثم إياك والفرح بين يديه إن كان مهتما، والكآبة بين يديه إن كان فرحا.