1/ الكلام فيما مضى كان عن فتنة الخوارج، أولئك الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، وخرجوا على أمة محمد صلى الله عليه وسـلم بالسلاح يسفكون الدماء ويزهقون الأرواح، يقاتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، قد سلم من شرهم اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا، واستطالوا بألسنتهم فيمن كان أولى بالله منهم وأقرب إلى الله منهم وأعلم بالله منهم؛ فكانت فتنتهم طامة عامة لم يسلم من شرِّهم إلا القليل. وقد صدق فيهم قول رسول الله صلى الله عليه وسـلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه (وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي، يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا، وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ) وقد تبين لنا أن هؤلاء إنما أتوا من قبل نقص في العلم ومسارعة في الفتوى وجرأة على القول في دين الله عز وجل؛ وقد روى مسلم في صحيحه عن التابعي يزيد بن صهيب أبو عثمان الكوفي، المعروف بـ (الفقير)، فإنه قال: كنت قد شغَفَني رأيٌ من رأي الخوارج، فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد الحج، ثم نخرج على الناس، قال: فمررنا على المدينة، فإذا جابر بن عبد الله يحدِّث القوم – جالس إلى سارية – عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإذا هو قد ذكر الجهنَّميِّين. قال: فقلت له: يا صاحب رسول الله! ما هذا الذي تحدِّثون؟ والله يقول: {إنك من تدخل النار فقد أخزيته} ويقول {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أُعيدوا فيها} فما هذا الذي تقولون؟ احتج هذا التابعي بآيات على مشربه، لُقِّنَها على أنها تقرر معانيَ أُخِذَت بالاستقلال دون سائر النصوص، فنبّهه الصحابي الجليل جابر على خطئه المنهجي هذا، فقال له: «أتقرأ القرآن؟» قال يزيد: نعم. قال: فهل سمعت بمقام محمد عليه السلام يعني: الذي يبعثه الله فيه؟ قال يزيد: نعم. قال: فإنه مقام محمد صلى الله عليه وسلم المحمود الذي يُخرِجُ الله به من يُخرج؟ ثم نعت وضع الصراط، ومر الناس عليه … و «أن قوماً يخرجون من النار، بعد أن يكونوا فيها» قال يزيد على إثر هذا الحديث، وقد نفعه الله به، وفهم الآيات السابقة التي احتج بها على ضوئه، ومعه، دون منافرة بين النصوص، ولا تضارب ولا تعارض، قال: «فرجعنا -أي: إلى الكوفة-، قلنا: وَيْحكم! أترون الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟» فنفعه الله عز وجل باعتقاد صدق علماء الصحابة، وهذا أول شرط للانتفاع بالعلماء الربانيين عموماً، وفي وقت الفتن خصوصاً. قال يزيد -كما في «صحيح مسلم» -أيضاً-: «فرجعنا، فلا والله ما خرج منا غيرُ رجل واحد».
2/ وقد اجتهد كثير من الصحابة في التعرف على الفتن التي ستعصف بالأمة وتبين طريق النجاة والخلاص منها، حيث كانوا يكثرون من السؤال عن الفتن حتى لا يقعوا فيها، ومن هؤلاء بل في مقدمتهم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فقد صح عنه أنه قال: “إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة، فيما بيني وبين الساعة” ولما سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصحابة: أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسـلم في الفتن؟ قال حذيفة رضي الله عنه (أنا)
3/ والمخرج من الفتن أيها المسلمون في أمور ينبغي لنا أن ندركها ونلزمها:
أولها: لزوم جماعة المسلمين وإمامهم؛ ففي صحيح البخاري عن حذيفة قال: “كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن، قلت: ما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله: صفهم لنا. قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك”
ثانيها: التمسك بالإسلام والسنة واجتناب غرائب الأقوال والأعمال؛ فقد روى عبد الرحمن بن عمرو السُّلمي أنه سمع العرباض بن سارية يقول: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، إن هذه لموعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال: (تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وعليكم بالطاعة، وإن عبداً حبشياً، فإنما المؤمن كالجمل الأنف، حيثما قيد ينقاد)
ثالثها: اجتناب إراقة الدماء وانتهاك حرمة المسلمين؛ وذلك حيث يخفى الحق، وتضطرب الأمور، فقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اجتناب الصراع والقتال في مثل هذه الحال، والاعتزال في مكان ناء، يرعى الرجل الغنم في قمم الجبال، أو يجاهد الأعداء على حدود الدولة المسلمة، فإن وصلت إليه سيوف المتحاربين، فقد أمر بأن يمتنع عن الدفاع عن نفسه، ولو كان في هذا هلاكه، فقد روى لنا أبو بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنها ستكون فتن، ألا ثَمَّ ستكون فتنة، القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت أو وقعت، فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كان له غنم فليلحق بغنمه، ومن كان له أرض فليلحق بأرضه. قال: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاء، اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين، أو إلى إحدى الفئتين؟ فضربني رجل بسيفه، أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال: يبوء بإثمه وإثمك، ويكون من أصحاب النار” وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن” وفي حديث أبي هريرة عند الحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أظلتكم فتن كقطع الليل المظلم، أنجى الناس منها صاحب شاهقة، يأكل من رسل غنمه، أو رجل من وراء الدروب، آخذ بعنان فرسه، يأكل من فيء رمحه”
رابعها: اعتزال الناس حين يكون الصراع على دنيا فانية وعرض زائل؛ فقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر كيف يتصرف في الفتنة، فقال له: “أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضاً حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء، كيف تصنع؟ قال: اقعد في بيتك، وأغلق عليك بابك، قال: فإن لم أترك؟ قال: فأت من كنت معه، فكن فيهم. قال: فآخذ سلاحي؟ قال: إذاً تشاركهم فيما هم فيه، ولكن إن خشيت أن يروعك شعاع السيف فألق من طرف ردائك على وجهك، كي يبوء بإثمه وإثمك، ويكون من أصحاب النار”
وقد احتج بالأحاديث التي سقناها وما أشبهها من لم ير القتال في الفتنة من الصحابة، وهم كل من ترك القتال مع علي بن أبي طالب في حروبه، كسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة، وأبي بكرة، وغيرهم، وقالوا: يجب الكف حتى لو أراد أحد قتله لم يدفعه عن نفسه، ومنهم من قال: لا يدخل في الفتنة، فإن أراد أحد قتله دفع عن نفسه، وذهب جمهور الصحابة والتابعين إلى وجوب نصر الحق وقتال الباغين، وحمل هؤلاء الأحاديث الواردة في ذلك على من ضعف على القتال، أو قصر نظره عن معرفة صاحب الحق.
خامسها: الابتعاد عن الغضب والاستعجال؛ فإن المرء إذا غضب في حال الأمن فإنه قد لا يُدرك الصواب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان» فإذا كان القاضي كذلك في مسألة بين متخاصمين فإن الكلام في المسائل العملية أبلغ، وإن الكلام في المسائل التي تهم الأمة حينئذٍ أبلغ. ولهذا كان من سمة منهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين فَمَنْ بعدهم من أئمة الإسلام أنهم لم يستعجلوا حين استعجل الناسُ فيما ليس لهم. قال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ رحمه تعالى في وَصْفِ الصحابة والتابعين: “عليكم بآّثارهم فإنهم على علمٍ وَقَفوا، وببصرٍ نافذٍ كفُّوا”
سادسها: الرفق والأناة والحلم؛ فإن من سمات الصحابة رضوان الله عليهم الأخذُ بما يُحِبُّ الله – جل وعلا – ويرضاه، ومن ذلك الرفقُ والأناةُ والحلمُ. قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء في الصحيحين: «إِن الله يُحِب الرفْقَ في الأمر كلهِ» وقال عليه الصلاة والسلام «إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تُشركوا به شيئا، وأن تَعْتصَمُوا بحبلِ جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصِحوا من ولاهُ اللهُ أمرَكُمْ» قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الرِّفْقَ لا يكونُ في شيءٍ إلاَّ زانَهُ، ولا يُنزْعُ من شيءٍ إلا شانَهُ» وقال صلوات الله وسلامه عليه: «من يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الخير» وكما قال رسول صلى الله عليه وسلم لأشَجِّ عبد القيسِ: «إِن فيك خَصْلتَين يُحِبُّهُما الله: الحلمُ والأناة»
سابعها: اجتماع الكلمة عند الفتن، وذلك اجتماع في الدين واجتماع على من ولاه الله الأمر؛ قال تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} والنبيُّ صلى الله عليه وسلم حضَّ على الاجتماع والجماعة بقوله: (الجماعة رحمة والفرقة عذاب)
ثامنها: الاعتبار والعظة بتاريخ الأمم السابقة؛ فمَن قرأ كتب التاريخ وَجَدَ أن الفتنَ إذا ظهرت فأول ما يلجأ إليه الناسُ الذين اشتبهتْ عليهم الأمورُ هو أن يطعنوا في أهلِ العلمِ، ويسارعوا في ذلك، وهذا ما حَصَلَ من الخوارج مع علماء الصحابة. وهذا ما حَصَلَ من أهل البغي لما استُبيحتِ المدينةُ المنورة، وضُرِبَتْ مكةُ المكرمةُ بالمنجنيق. إلى غير ذلك مما حَصَلَ في أزمنة كثيرة.
وقد طفحتْ كُتبٌ الجرحِ والتعديلِ في مَنْ يرى السيفَ في الأمة. وهذا ظاهرٌ بيِّنٌ، وأن الذي يرى السيفَ في الأمة يكون من وسيلته أن يطعنَ في مَنْ يرجِعُ إليه المسلمونَ كيلا يرجعوا إليه.
تاسعها: الحذر من ترويج الأخبار وإشاعة الأقوال قبل التثبت والتبصر؛ فبئس مطية القوم زعموا، وكفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع، وقد قال سبحانه {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}