خطب الجمعة

السيّد

خطبة يوم الجمعة 14/1/1438 الموافق 15/10/2016

1- من هو السيد؟ جاء عن عكرمة أنه قال: ((السيد: الذي لا يغلبه غضبه)). وقال قتادة ((هو العابد، الورع، الحليم)) وقال الأصمعي رحمه الله تعالى: العرب تقول: السيد: ((كل مقهور مغمور بحلمه)) وقال النضر بن شميل رحمه الله تعالى: ((السيد: الذي فاق غيره، ذو العقل والمال والدفع والنفع، المعطي ماله في حقوقه، المعين بنفسه، فذلك السيد)) وقال الفراء رحمه الله تعالى: ((السيد: الملك، والسيد: الرئيس، والسيد: الحليم، والسيد: السخي، وسيد العبد: مولاه، والأنثى من كل ذلك بالهاء، وسيد المرأة: زوجها، وسيد كل شيء أشرفه وأرفعه)) وقال ابن الأثير رحمه الله تعالى: ((والسيد يطلق على الرب، والمالك، والشريف، والفاضل، والكريم، والحليم، ومتحمل أذى قومه، والزوج، والرئيس، والمقدم))

2- وفي النصوص الشرعية إطلاق هذا اللفظ على غير الله عز وجل قوله تعالى عن نبيه يحيى عليه السلام {وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه (أنا سيد ولد آدم) وقال عن سعد بن معاذ رضي الله عنه (قوموا لسيدكم) وقال عن سعد بن عبادة (اسمعوا إلى ما يقول سيدكم، إنه لغيور، وأنا أغير منه، والله أغير منى) وقال عن الحسن والحسين رضي الله عنهما (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) وقال عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما (أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين، إلا النبيين والمرسلين)

3- ممن نالوا هذا الرتبة المنيفة والمنزلة الشريفة شرعاً الإمام السيد أبو محمد الحسن بْنِ علي بن أبي طالب بن عَبْدِ المُطَّلِبِ بنِ هَاشِمِ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ، رَيْحَانَةُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسِبْطُهُ، وَسَيِّدُ شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ، أَبُو مُحَمَّدٍ القُرَشِيُّ الهَاشِمِيُّ المَدَنِيُّ، الشَّهِيْدُ. كان مَوْلِدُهُ: فِي شَعْبَانَ سَنَةَ ثَلاَثٍ مِنَ الهِجْرَةِ، وَقِيْلَ: فِي نِصْفِ رَمَضَانِهَا، وعقَّ عَنْهُ جَدُّهُ بِكَبشٍ. وَكَانَ يُشْبِهُ جَدَّهُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، َقَالَ الزُّهْرِيُّ: قَالَ أَنَسٌ: كان أشبههم بالنبي عليه الصلاة السلام الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ.

4- روى أحمد والبخاري في الأدب المفرد عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَمَّا وُلِدَ الحَسَنُ جَاءَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (أَرُوْنِي ابْنِي مَا سَمَّيْتُمُوْهُ)؟ قُلْتُ: حَرْبٌ! قَالَ: (بل هو حسن)، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أذَّن فِي أُذُنِ الحَسَنِ بِالصَّلاَةِ حِيْنَ وُلِدَ.

5- في صفته رضي الله عنه قال الذهبي رحمه الله تعالى: وَقَدْ كَانَ هَذَا الإِمَامُ سَيِّداً وَسِيماً جَمِيْلاً، عَاقِلاً رَزِيناً، جَوَاداً مُمَدَّحاً، خَيِّراً دَيِّناً، وَرِعاً مُحتشِماً، كَبِيرَ الشَّأْنِ، عَنِ ابْنِ سِيْرِيْنَ، قَالَ: كَانَ الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ لاَ يَدعُو أَحَداً إِلَى الطَّعَامِ، يَقُوْلُ: هُوَ أَهوَنُ مِنْ أَنْ يُدعَى إِلَيْهِ أَحَدٌ.

6- في فضله ثبتت السنة القولية والفعلية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام رضي الله عنهم، ومن ذلك:

  • عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بنِ الحَارِثِ قَالَ: صَلَّى بِنَا أَبُو بَكْرٍ العَصرَ، ثُمَّ قَامَ وَعَلِيٌّ يَمْشيَانِ، فَرَأَى الحَسَنَ يَلعبُ مَعَ الغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ أَبُو بَكْرٍ فَحَمَلَهُ عَلَى عُنُقِهِ، وَقَالَ: بأَبِي شَبِيْهٌ النَّبِيّ … لَيْسَ شَبِيْهٌ بِعَلِيّ. وَعَلِيٌّ يتبسَّم.
  • عَلِيُّ بنُ عَابِسٍ، حَدَّثَنَا يَزِيْدُ بنُ أَبِي زِيَادٍ، عَنِ البَهِيِّ قَالَ: دَخَلَ عَلَيْنَا ابْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: رَأَيْتُ الحَسَنَ يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَاجِدٌ، يَرْكَبُ عَلَى ظَهْرِهِ، وَيَأْتِي وَهُوَ رَاكعٌ، فَيَفْرِجُ لَهُ بَيْنَ رِجْلَيْهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الجَانبِ الآخَرِ.
  • قَالَ أَبُو بَكْرَةَ: رَأَيتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى المِنْبَرِ، وَالحَسَنُ إِلَى جَنْبِهِ، وَهُوَ يَقُوْلُ: (إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِيْنَ)
  • وحسَّن التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيْثِ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً وَهُوَ مُشتمِلٌ عَلَى شَيْءٍ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَكَشَفَ، فَإِذَا حَسَنٌ وَحُسَيْنٌ عَلَى وَرِكَيْهِ، فَقَالَ: (هَذَانِ ابْنَايَ، وَابْنَا بِنْتِي، اللَّهُمَّ إني أحبهما فأحبهما، وأحب من يحبهما)
  • عَنْ أَنَسٍ: سُئِلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ أَهْلِ بَيْتِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: (الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ)، وَكَانَ يَشَمُّهُمَا وَيَضُمُّهُمَا إِلَيْهِ.
  • عَنْ حُذَيْفَةَ، سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: (هَذَا مَلَكٌ لَمْ يَنْزِلْ قَبْلَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، استأذن ربه أن يسلِّم عليَّ ويبشرني بأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، وأن الحسن وَالحُسَيْنَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ) حسَّنه التِّرْمِذِيُّ.
  • حدَّثني عَبْدُ اللهِ بنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيْهِ قَالَ: كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخطُبُ، فَأَقْبَلَ الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا قَمِيْصَانِ أَحْمَرَانِ يَعْثُرَانِ وَيَقُوْمَانِ، فَنَزَلَ فَأَخَذَهُمَا، فَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (صَدَقَ اللهُ: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} رَأَيْتُ هَذَيْنِ، فَلَمْ أَصْبِرْ) ثُمَّ أَخَذَ فِي خُطبتِهِ.
  • عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ، وَعَلَى ظَهْرِهِ الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ، وَهُوَ يَقُوْلُ: (نِعْمَ الجَمَلُ جَمَلُكُمَا، وَنِعْمَ العِدْلاَنِ أَنْتُمَا) مسروح ليِّن.
  • عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ شَدَّادٍ، عَنْ أَبِيْهِ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو حَامِلٌ حَسَناً أَوْ حُسَيْناً، فتقدَّم فَوَضَعَهُ، ثُمَّ كبَّر فِي الصَّلاَةِ، فَسَجَدَ سجدَةً أَطَالَهَا، فَرفعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهْرِهِ، فَرَجعْتُ فِي سُجُودِي، فلمَّا قَضَى صَلاَتَهُ قَالُوا: يَا رَسُوْلَ اللهِ، إِنَّكَ أَطَلْتَ! قَالَ: (إِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي، فَكَرِهْتُ أَنْ أُعْجِلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ) قُلْتُ: أَيْنَ الفَقِيْهُ المُتَنَطِّعُ عَنْ هَذَا الفِعْلِ؟
  • أَحْمَدُ فِي “مُسْندِهِ”: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَظَرَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إلى عَلِيٍّ وَابْنَيْهِ وَفَاطِمَةَ، فَقَالَ: (أَنَا حَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَكُم، سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَكُم)
  • عن علي قال: زارنا رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَاتَ عِنْدَنَا، وَالحَسَنُ وَالحُسَيْنُ نَائِمَانِ، فَاسْتَسقَى الحَسَنُ، فَقَامَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قُرْبَةٍ وَسَقَاهُ، فَتنَاوَلَ الحُسَيْنُ لِيَشْرَبَ، فَمَنَعَهُ وَبدَأَ بِالحَسَنِ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ! كأنَّه أَحَبُّهُمَا إِلَيْكَ، قَالَ: “لاَ، وَلَكِنْ هَذَا اسْتَسقَى أَوَّلاً”، ثُمَّ قَالَ: (إِنِّيْ وَإِيَّاكِ وَهَذَيْنِ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ)، وَأَحسِبُهُ قَالَ: (وَعَلِيّاً).
  • عَنْ مُعَاِويَةَ قَالَ: رَأَيتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُصُّ لِسَانَهُ أَوْ شَفَتَهُ، يَعْنِي: الحَسَنَ، وَإِنَّهُ لَنْ يُعَذَّبَ لِسَانٌ أَوْ شَفَتَانِ مَصَّهُمَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

7- كان رضي الله عنه عابداً من العُبَّاد الكبار؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا نَدِمْتُ عَلَى شَيْءٍ فَاتَنِي فِي شَبَابِي إلَّا أنِّي لَمْ أَحُجَّ مَاشياً، وَلَقَدْ حجَّ الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ خَمْساً وَعِشْرِيْنَ حَجَّةً مَاشِياً، وَإِنَّ النَّجَائِبَ لَتُقَادُ مَعَهُ، وَلَقَدْ قَاسَمَ اللهَ مَالَهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، حَتَّى إِنَّهُ يُعطِي الخُفَّ وَيُمْسِكُ النَّعْلَ.

8- كان عاقلاً ورعاً حكيما؛ فعن عكرمة، عن ابن عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجْنَا إِلَى الجَمَلِ سِتَّ مائَةٍ، فَأَتَينَا الرَّبَذَةَ، فَقَامَ الحَسَنُ فَبَكَى، فَقَالَ عَلِيٌّ: تَكلَّمْ وَدَعْ عَنْكَ أَنْ تَحِنَّ حَنِينَ الجَارِيَةِ، قَالَ: إِنِّيْ كُنْتُ أَشَرْتُ عَلَيْكَ بِالمقَامِ، وَأَنَا أُشيْرُهُ الآنَ، إِنَّ لِلْعَرَبِ جَولَةً، وَلَوْ قَدْ رَجَعَتْ إِلَيْهَا عَوَازِبُ أَحلاَمِهَا قَدْ ضَرَبُوا إِلَيْكَ آبَاطَ الإِبِلِ حَتَّى يَسْتَخْرِجُوكَ، وَلَوْ كُنْتَ فِي مِثْلِ جُحْرِ ضَبٍّ. قال: أتراني -لا أبا لك- كُنْتُ مُنتَظراً كَمَا يَنتَظرُ الضَّبُعُ اللَّدْمَ؟.

9- أجرى الله الحكمة على لسانه؛ قِيْلَ له: إِنَّ أَبَا ذَرٍّ يَقُوْلُ: الفَقْرُ أَحبُّ إِلَيَّ مِنَ الغِنَى، وَالسُّقْمُ أَحبُّ إِلَيَّ مِنَ الصِّحَّةِ، فَقَالَ: رَحِمَ اللهُ أَبَا ذَرٍّ، أَمَّا أَنَا فَأَقُوْلُ: مَنِ اتَّكل عَلَى حُسْنِ اخْتيَارِ اللهِ لَهُ لَمْ يتمَّن شَيْئاً، وَهَذَا حَدُّ الوُقُوفِ عَلَى الرِّضَا بِمَا تصرف به القضاء.

ومن كلامه حين خَطبَ بِالكُوْفَةِ، فَقَالَ: إِنَّ الحِلْمَ زِينَةٌ، وَالوَقَارَ مُرُوءةٌ، وَالعَجَلَةَ سَفَهٌ، وَالسَّفَهَ ضَعْفٌ، وَمُجَالَسَةَ أَهْلِ الدَّنَاءةِ شَيْنٌ، وَمُخَالَطَةَ الفُسَّاقِ رِيْبَةٌ. ولما قيل له: إِنَّ الشِّيْعَةَ تَزْعُمُ أَنَّ عَلِيّاً مَبْعُوْثٌ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ، قَالَ: كَذَبُوا، وَاللهِ مَا هَؤُلاَءِ بِالشِّيْعَةِ، لَوْ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَبْعُوْثٌ مَا زوَّجنا نِسَاءهُ، وَلاَ اقْتسَمْنَا مَالَهُ.

10- جعله الله سيداً لهذه الأمة حين سعى بالصلح بينها وتنازل عن الخلافة والدنيا رغبة في حقن دماء المسلمين بعدما نشبت نار الفتنة؛ وقد تعلم الحسن رضي الله عنه مما دار في سقيفة بني ساعدة مجموعة من المبادئ منها، أن قيادة الأمة لا تقام إلا بالاختيار، وأن البيعة هي أصل من أصول الاختيار وشرعية القيادة، وأن الخلافة لا يتولاها إلا الأصلب ديناً والأكفأ إدارة، فاختيار الخليفة يكون وفق مقومات إسلامية، وشخصية، وأخلاقية، وأن الحوار الذي دار في سقيفة بني ساعدة قام على قاعدة الأمن النفسي السائد بين المسلمين حيث لا هرج ولا مرج، ولا تكذيب ولا مؤامرات ولا نقض للاتفاق، ولكن تسليم للنصوص التي تحكمهم حيث المرجعية في الحوار إلى النصوص الشرعية

فعَنْ عَمْرِو بنِ دِيْنَارٍ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ يَعلَمُ أَنَّ الحَسَنَ أَكْرَهُ النَّاسِ لِلْفِتْنَةِ، فلمَّا تُوُفِّيَ عَلِيٌّ بَعثَ إِلَى الحَسَنِ، فَأَصْلَحَ مَا بَينَهُ وَبَينَهُ سِرّاً، وَأَعْطَاهُ مُعَاوِيَةُ عَهداً إِنْ حَدَثَ بِهِ حَدَثٌ، وَالحَسَنُ حَيٌّ لَيُسَمِّيَنَّهُ، وليجعلنَّ الأَمْرَ إِلَيْهِ، فلمَّا تَوثَّقَ مِنْهُ الحَسَنُ، قَالَ ابْنُ جَعْفَرٍ: وَاللهِ إِنِّيْ لَجَالِسٌ عِنْدَ الحَسَنِ؛ إِذْ أخذت لأقوم، فَجَذَبَ بِثَوْبِي، وَقَالَ: يَا هنَاهُ اجلِسْ! فَجلَسْتُ، فَقَالَ: إِنِّيْ قَدْ رَأَيْتُ رَأْياً، وَإِنِّي أُحبُّ أَنْ تُتَابِعَنِي عَلَيْهِ! قُلْتُ: مَا هُوَ؟ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَعمَدَ إِلَى المَدِيْنَةِ فَأَنْزِلَهَا، وَأُخَلِّيَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَبَيْنَ هَذَا الحَدِيْثِ، فَقَدْ طَالتِ الفِتْنَةُ، وَسُفِكَتِ الدِّمَاءُ، وَقُطعَتِ الأَرْحَامُ وَالسُّبُلُ، وَعُطِّلَتِ الفُرُوْجُ.

قَالَ ابْنُ جَعْفَرٍ: جَزَاكَ اللهُ خَيراً عَنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، فَأَنَا مَعَكَ، فَقَالَ: ادْعُ لِي الحُسَيْنَ! فَأَتَاهُ فَقَالَ: أَيْ أَخِي! قَدْ رَأَيْتُ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَقَالَ: أُعِيذُكَ بِاللهِ أَنْ تُكذِّبَ عَلِيّاً، وَتُصَدِّقَ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ الحَسَنُ: وَاللهِ مَا أَردْتُ أَمراً قَطُّ إلَّا خَالَفْتَنِي، وَاللهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَقذِفَكَ فِي بَيْتٍ، فَأُطَيِّنَهُ عَلَيْكَ حَتَّى أَقْضِيَ أَمْرِي، فلمَّا رَأَى الحُسَيْنُ غَضَبَهُ قَالَ: أَنْتَ أَكْبَرُ وَلَدِ عَلِيٍّ، وَأَنْتَ خَلِيفَتُهُ، وَأَمْرُنَا لأَمْرِكَ تَبَعٌ، فَقَامَ الحَسَنُ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ! إِنِّيْ كُنْتُ أَكْرَهُ النَّاسِ لأَوِّلِ هَذَا الأَمْرِ، وَأَنَا أَصلَحْتُ آخِرَهُ، إِلَى أَنْ قَالَ: إِنَّ اللهَ قَدْ وَلاَّكَ يَا مُعَاوِيَةُ هَذَا الحَدِيْثَ لِخيرٍ يَعْلَمُهُ عِنْدَكَ، أَوْ لِشَرٍّ يَعْلَمُهُ فِيكَ {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} ثُمَّ نَزَلَ.

عَنْ أَبِي مُوْسَى، سَمِعَ الحَسَنَ يَقُوْلُ: اسْتَقبلَ وَاللهِ الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ مُعَاوِيَةَ بِكَتَائِبَ مِثْلِ الجِبَالِ، فَقَالَ عَمْرُو بنُ العَاصِ: إِنِّيْ لأَرَى كَتَائِبَ لاَ تُوَلِّي حَتَّى تَقتُلَ أَقرَانَهَا، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ -وَكَانَ وَاللهِ خَيْرَ رَجُلَيْنِ- أَيْ: عَمْرُو، إِنْ قَتَلَ هَؤُلاَءِ هَؤُلاَءِ، وَهَؤُلاَءِ هَؤُلاَءِ، مَنْ لِي بِأُمُوْرِ المُسْلِمِيْنَ؟ مَنْ لِي بِنِسَائِهِم؟ مَنْ لِي بِضَيْعَتِهِم؟! فَبعثَ إِلَيْهِم بِرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ؛ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ سَمُرَةَ، وَعَبْدِ اللهِ بنِ عَامِرِ بنِ كُرَيْزٍ، فَقَالَ: اذْهَبَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَاعْرِضَا عَلَيْهِ، وَقُوْلاَ لَهُ، وَاطْلُبَا إِلَيْهِ، فَأَتيَاهُ، فَقَالَ لَهُمَا الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ: إِنَّا بنُو عَبْدِ المُطَّلِبِ قَدْ أَصَبنَا مِنْ هَذَا المَالِ، وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ قَدْ عَاثَتْ فِي دِمَائِهَا، قَالاَ: فَإِنَّا نَعرِضُ عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا، وَنَطلُبُ إِلَيْكَ، وَنَسْأَلُكَ، قَالَ: فَمَنْ لِي بهذا؟ قالا: نحن لَكَ بِهِ، فَمَا سَأَلَهُمَا شَيْئاً إلَّا قَالاَ: نَحْنُ لَكَ بِهِ، فَصَالَحَهُ، قَالَ الحَسَنُ: وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ يَقُوْلُ: رَأَيتُ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُوْلُ: (إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ)، وَذَكَرَ الحَدِيْثَ.

وَعَنْ فُضَيْلِ بنِ مَرْزُوْقٍ قَالَ: أَتَى مَالِكُ بنُ ضَمْرَةَ الحَسَنَ، فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا مسخِّم وُجُوهِ المُؤْمِنِيْنَ، فَقَالَ: لاَ تَقُلْ هَذَا، وَذَكرَ كَلاَماً يَعتَذِرُ بِهِ رضيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَالَ لَهُ آخَرُ: يَا مُذِلَّ المُؤْمِنِيْنَ! فَقَالَ: لاَ، وَلَكِنْ كَرِهتُ أَنْ أَقتلَكُم عَلَى المُلْكِ.

عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ جُبَيْرِ بنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيْهِ، قُلْتُ لِلْحَسَنِ: يَقُوْلُوْنَ: إِنَّك تُرِيْدُ الخِلاَفَةَ، فَقَالَ: كَانَتْ جَمَاجِمُ العَربِ فِي يَدِي، يُسَالِمُوْنَ مَنْ سَالَمْتُ، وَيُحَاربُوْنَ مَنْ حَاربْتُ، فَتركْتُهَا للهِ، ثُمَّ أَبْتَزُّهَا بِأَتْيَاسِ الحِجَازِ.

11- لَمَّا احتُضِرَ الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ قَالَ: أَخْرِجُوا فِرَاشِي إِلَى الصَّحْنِ، فَأَخْرَجُوْهُ، فَقَالَ: اللهمَّ إِنِّيْ أَحتسِبُ نَفْسِي عِنْدَكَ، فَإِنَّهَا أَعزُّ الأَنْفُسِ عَلَيَّ

حدَّثني مُسَاوِرٌ السَّعْدِيُّ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَائِماً عَلَى مَسجدِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ مَاتَ الحَسَنُ يَبْكِي، وَيُنَادِي بِأَعلَى صَوْتِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! مَاتَ اليَوْمَ حِبّ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَابْكُوا.

قَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: عَاشَ الحَسَنُ سَبْعاً وَأَرْبَعِيْنَ سَنَةً. وكانت وفاته سنة تسع وأربعين.

12- وكان من نصحه لأخيه الحسين عند موته أن قال له: يَا أَخِي، إِنَّ أَبَاكَ لَمَّا قُبِضَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَشْرَفَ لِهَذَا الأَمْرِ، فَصَرَفَهُ اللهُ عَنْهُ، فلمَّا احْتُضِرَ أَبُو بَكْرٍ تشرَّف أَيْضاً لَهَا، فَصُرِفَتْ عَنْهُ إِلَى عُمَرَ، فَلَمَّا احتُضِرَ عُمَرُ جَعَلَهَا شُوْرَى أَبِي أَحَدُهُم، فَلَمْ يَشُكَّ أَنَّهَا لاَ تَعْدُوْهُ، فَصُرِفَتْ عَنْهُ إِلَى عُثْمَانَ، فلمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ بُوْيِعَ ثُمَّ نُوزِعَ حَتَّى جَرَّدَ السَّيْفَ وَطَلَبَهَا، فَمَا صَفَا لَهُ شَيْءٌ مِنْهَا، وَإِنِّي وَاللهِ مَا أَرَى أَنْ يَجْمَعَ اللهُ فِيْنَا أَهْلَ البَيْتِ النُّبُوَّةَ وَالخِلاَفَةَ، فَلاَ أعرفنَّ مَا اسْتَخَفَّكَ سُفَهَاءُ أَهْلِ الكُوْفَةِ، فَأَخرَجُوكَ. وَقَدْ كُنْتُ طَلَبتُ إِلَى عَائِشَةَ أَنْ أُدفَنَ فِي حُجرَتِهَا، فَقَالَتْ: نَعَمْ، وَإِنِّي لاَ أَدْرِي لعلَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهَا حَيَاءً، فَإِذَا مَا مِتُّ فاطلب ذلك إِلَيْهَا، وَمَا أظنَّ القَوْمَ إلَّا سَيَمنعُوْنَكَ، فَإِنْ فَعَلُوا فادفنِّي فِي البَقِيْعِ، فلمَّا مَاتَ قَالَتْ عَائِشَةُ: نَعَمْ، وَكرَامَةٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مَرْوَانَ، فَقَالَ: كَذَبَ وَكَذَبَتْ، وَاللهِ لاَ يُدفَنُ هُنَاكَ أَبَداً، مَنَعُوا عُثْمَانَ مِنْ دَفْنهِ فِي المَقْبُرَةِ، وَيُرِيْدُوْنَ دَفْنَ حَسَنٍ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، فَلَبِسَ الحُسَيْنُ وَمَنْ مَعَهُ السِّلاَحَ، وَاسْتَلأمَ مَرْوَانُ أَيْضاً فِي الحَديدِ، ثُمَّ قَامَ فِي إِطفَاءِ الفِتْنَةِ أَبُو هُرَيْرَةَ.

أَعَاذنَا اللهُ مِنَ الفِتَنِ، وَرَضِيَ عَنْ جَمِيْعِ الصَّحَابَةِ، فَترضَّ عَنْهُم يَا شِيْعِيُّ تُفلحْ، وَلاَ تَدْخُلْ بَيْنَهُم، فَاللهُ حَكَمٌ عَدْلٌ، يَفعلُ فِيْهِم سَابقَ عِلْمِهِ، وَرَحْمتُهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَهُوَ القَائِلُ: “إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي” {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} فَنسَألُ اللهَ أَنْ يَعفُوَ عَنَّا، وَأَنْ يُثَبِّتَنَا بالقول الثابت، آمين.

الخطبة الثانية

قد دار بين الناس كلامٌ سموه حواراً وطنياً دام شهورا عديدة، خرجوا بعد ذلك بتوصيات احتفل بها الناس واحتفوا، وإني لأسأل الله تعالى أن يجعل في تلك التوصيات شفاء لهذه الأمة من أدوائها بأن يفيئوا إلى عقولهم ويرجعوا إلى صوابهم ويعلموا بأن الدنيا عرض حاضر وأن المناصب فيها متاع زائل؛ وقد عانى هذا الشعب الصبور الشكور من تطاحن الساسة فيه وحرصهم على لعاعة الدنيا؛ فكم من حروب أشعلت!! وكم من دماء سالت!! وكم من أرواح أزهقت!! وكم من أحلاف قامت ثم زالت بسبب ماذا!؟ وكم من حزب انشطر وتشظى!! هل ثمة اختلاف فكري يوجب ذلك؟ اللهم لا، وإنما صراع وقتال على المناصب والجاه والسلطان!! من منا يكون الحاكم؟ اختلاف على تقاسم السلطة، كلٌّ يريد أن يكون هو المقدَّم الذي يشار إليه بالبنان وتتحدث عنه الصحف وأجهزة الإعلام، ولا يبالي في سبيل نيل المطلب أن يسفك الدم الحرام ويرتكب الموبقات جميعها.

ألا فليعلم المشتغلون بالسياسة الطارقون أبوابها أن الدنيا عرض زائل يأكل منه البر والفاجر، وأن الآخرة وعد صادق يحكم فيه ملك عادل يحق الحق ويبطل الباطل، وغداً سيموت الجميع حكاماً ومحكومين. إلى ديان يوم الحشر نمضي وعند الله تجتمع الخصوم

وإن هذا الشعب لم يفقد الأمل في الإصلاح ولم يقنط من رحمة الله تعالى، وهو يعاني من أزمة اقتصادية طاحنة وغلاء فاحش وترد في الخدمات وتناقص في الموارد والثمرات، من جراء حروب متطاولة خربت البلاد وأنهكت العباد وأهلكت الحرث والنسل، ومع ذلك بقي الشعب صابراً محتسبا؛ فأدركته عناية الله عز وجل فما أصيب بما أصيب به غيره من تلك الحروب الأهلية التي ثارت في محيطنا الإقليمي فقتلت وشردت الملايين من شعوب العراق وسورية والصومال وغيرها، بعدما كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بسبب تآمر الساسة وحرصهم على لعاعة الدنيا وزخرفها

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى