خطب الجمعة

العبد

خطبة يوم الجمعة 20/1/1438 الموافق 21/10/2016

1- تشريف الله أنبياءه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بوصفه بالعبودية في أعلى المقامات حين قال عن نوح {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} وعن زكريا {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} وعن داود {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} وعن أيوب {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} وقال عن يوسف {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} وقال عن غير واحد منهم {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} وهذا المسيح عليه السلام حين أنطقه الله في المهد كان أول ما قال {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}

2- وأما محمد صلى الله علـيه وسلم فله في ذلك المقام الأسمى والمنزلة الأعلى فقال سبحانه في مقام الوحي {فأوحى إلى عبده ما أوحى} وقال {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} وقال {الحمد لله الذي أنزل على عبده} وقال {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} وفي مقام التحدي {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} وقال حين حديثه عن كفايته نبيه صلى الله علـيه وسلم وكفالته إياه {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} وفي مقام الإسراء {سبحان الذي أسرى بعبده} وفي مقام الدعوة {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدً} وفي مقام الجهاد {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} وقال صلى الله علـيه وسلم (إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله)

3- ما هي العبادة؟ وما أنواعها؟ شمولها للفرائض والنوافل

4- هل كل الناس عبدٌ لله؟ اللهم لا؛ فمن الناس من يكون عبداً للدينار والدرهم، ومنهم من هو عبدٌ هواه، ومنهم من هو عبدٌ لشهوته، ومنهم من يعبد المنصب والجاه، وقد قال النبي صلى الله علـيه وسلم (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار) وقال الله عز وجل {أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا} وقال سبحانه {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون}

5- وذل الاستعباد لم يعرف طعمه إلا من ذاق مرارته، ولم يشعر بشناعته إلا من رآه بأم عينيه؛ فهو داء يشل حركة المرء الروحية، ويقعد العامل عن العمل إن استمر في ذلك فلن يُزال الاستعباد حتى يتخلص منه المرء. وعندما أتى ذاك القبطي إلى عمر الفاروق يشتكي الظلم أدرك عمر رضي الله عنه أن الاستعباد لن يصلح الدولة الإسلامية ولن يرفع شأنها وأمجادها، بل إن في حصول ذلك مضرة عظيمة على جميع أفراد الدولة الإسلامية ومصالحهم؛ فما كان منه إلا أن قام باستئصال ذلك فعلياً ليرسخ مبدأ أن ليس لأحد حق الاستعباد وإن ملك ما ملك، وأطلق كلمته العظيمة مخاطباً عمرو بن العاص: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟»

يقول ابن القيم رحمه الله: «فاعلم أن حاجة العبد إلى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً في محبته، ولا في خوفه، ولا في رجائه، ولا في التوكل عليه، ولا في العمل له ولا في الحلف به، ولا في النذر له، ولا في الخضوع له، ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب، أعظم من حاجة الجسد إلى روحه والعين إلى نورها، بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به».

والعبودية هي روح العبد الحقيقية، فلا تُصرف إلا لله؛ لأن في صرفها لغير الله حصول مضرة وفساد «.. ومن عبد غيره وأحبه وإن حصل له نوع من اللذة والمودة، والسكون إليه، والفرح، والسرور بوجوده ففساده به ومضرته وعطبه أعظم من فساد أكل الطعام المسموم اللذيذ، الشهي، الذي هو عذب في مبدئه عذاب في نهايته»، ولن نبلغ الكمال المنشود حتى تكمل العبودية لدينا «أكمل الخلق أكملهم عبودية».

6- وللاستبعاد صور عديدة من أهمها: أولاً: الاستعباد الباطني: من الناحية القلبية: القلب أعظم ما يمتلك المرء؛ إذ إنه ملك الجوارح وسيدها المطاع وهو موجه الأوامر؛ ولذا فإن من أخطر أنواع الاستعباد أن يُستعبد قلب المرء. ومن الأمور التي يستعبد بها القلب:

أ – العشق والتعلق: وهذا من أخطر الأمراض على العبد ومن أشدها عبودية؛ فهو عدو الصحة، وشلل الدعوة، وتوقف الحزم، وتبلد العقل، وطريق الشيطان؛ فالعاشق لا تجد لذكر الله محلاً بقلبه؛ إذ إنه أصبح متعلقاً بغيره، ولا تجد لبصيرة قلبه مسلكاً؛ لأن الهوى قد غلفها بظلامه، فهو يعيش وإن رأيته حراً أسير شهوته وقيد عشقه، فتراه عبداً ذليلاً لمعشوقه، لا يكاد يقاوم لهفة نفسه عند ذكره؛ فهو مستعبد داخلياً مُذلل خارجياً.

قال ابن أبي حصينة: والعشق يجتذب النفوس إلى الردى … بالطبع واحَسَدي لمن لم يعشقِ وقال آخر: العشق مشغلة عن كل صالحة وسكرة العشق تنفي لذة الوسنِ

ب – حب الدنيا والاغترار بها: لم يدخل حبُّ الدنيا في قلب امرئ إلا سلبه لبه، وأفقده بذله للآخرة؛ فهي دار غرور وبلاء، وفتنة وشقاء، فيبدأ المرء بالتنازلات السريعة عن مبادئه وعن تقاليده حتى يبلغ ذلك دينه والعياذ بالله، وكما قيل في بعض المأثورات: «الدنيا مال من لا مال له، ودار من لا دار له، ولها يجمع من لا عقل له»، ولا يمكن لعاقل لبيب أن ينخدع بدار زوال عما قليل فانية؛ فعقله الحكيم يبصِّره بعواقب الأمور، وضميره المتيقظ يوقظه من غفلة هذه الدنيا. {إنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسير هذه الآية: «وهذا المثل من أحسن الأمثلة، وهو مطابق لحالة الدنيا؛ فإن لذَّاتها وشهواتها وجاهها ونحو ذلك يزهو لصاحبه إن زها وقتاً قصيراً؛ فإذا استكمل وتم اضمحل، وزال عن صاحبه، فأصبح صفر اليدين منها، ممتلئ القلب من همها وحزنها وحسرتها»  ولأن هذه الدنيا دار غرور، ولأنها دار التنافس الدنيوي الدنيء ذي النهاية المعروفة فقد حذرنا منها نبينا صلى الله عليه وسلم بل كانت من الأمور التي يخاف منها على أمته؛ ففي الصحيحين عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوماً، فصلى على أهل أُحُد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر، فقال: «إني فَرَطٌ لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أُعطيت مفاتيح خزائن الأرض أو مفاتيح الأرض وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها». ورحم الله الشافعي حين قال:

ومن يذق الدنيا فإني طعمتها وسيق إليَّ عذبها وعذابها

فما هي إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهن اجتذابها

فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها وإن تجتذبها نازعتك كلابها

ج – حب المال والجاه: حب المال وحب الجاه من الأمور التي تستعبد قلب المرء؛ فهي كالغشاوة التي تحجب الرؤية المبصرة، فتراه لاهثاً خلفها، مجتهداً في الحصول عليها. إن اللاهث خلف المال والجاه يعمى بصره، فيقطع الأرحام من أجل المال والجاه، ويهتك الأرحام من أجل المال والجاه، ويتعامل بالمعاملات الربوية من أجل المال والجاه. وقد روى الترمذي عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله علـيه وسلم «ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه» قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

فذمَّ النبي صلى الله عليه وسلم الحرص على المال والشرف، وهو الرياسة والسلطان، وأخبر أن ذلك يفسد الدين مثل أو فوق إفساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم، وهذا دليل على أن هذا الحرص إنما ذم؛ لأنه يفسد الدين الذي هو الإيمان والعمل والصالح؛ فكان ترك هذا الحرص لصالح العمل، وهذان هما المذكوران في قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} وهما اللذان ذكرهما الله فى سورة القصص، حيث افتتحها بأمر فرعون وذكر علوه في الأرض، وهو الرياسة والشرف والسلطان، ثم ذكر في آخرها قارون وما أوتيه من الأموال، وذكر عاقبة سلطان هذا وعاقبة مال هذا، ثم قال: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُواًّ فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً} كحال فرعون وقارون؛ فإن جمع الأموال من غير إنفاقها في مواضعها المأمور بها، وأخذها من غير وجهها هو من نوع الفساد».

ويصور لنا الشاعر حال ذلك المرء الذي أنفق عمره في تحصيل المال فيقول:

ومن ينفق الأيام في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقرُ

وقال الآخر: ولا تحسبن الفقر فقراً من الغنى ولكن فقر الدين من أعظم الفقرِ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى