خطب الجمعة

الغِش

خطبة يوم الجمعة 16/7/1430 الموافق 10/7/2009

  1. المتأمل في أحوال الناس يجد أن الغش صار شريعة غالبة وخلقاً سائداً في التعامل فيما بينهم؛ بل صار والعياذ بالله محمدة عند بعضهم حتى إنهم ليمدحون الرجل بأنه شيطان وأنه مخادع؛ ولعل هذا الزمان هو الذي عناه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه حين قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة، وحدثنا عن رفعها، فقال “ينام الرجل النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوكت، ثم ينام النومة، فتقبض، فيبقى فيها أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط، فتراه منتبرا، وليس فيه شيء، ويصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة، فيقال: إن في بنى فلان رجلاً أميناً” ويقال للرجل: ما أعقله، وما أظرفه، وما أجلده، وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان} قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: والوكت: أثر الشَّيْء الْيَسِير، وَمِنْه: بسر موكت بِكَسْر الْكَاف: إِذا بدا فِيهِ شَيْء من الإرطاب. والمجل: أثر الْعَمَل فِي الْكَفّ، يُقَال: مجلت يَده ومجلت، لُغَتَانِ. وَقَوله: فتراه منتبرا: أَي منتفطاً، يَعْنِي ارْتِفَاع الْجلد وَلَا شَيْء تَحْتَهُ. وقد قال عليه الصلاة والسلام “إن بين يدي الساعة سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب ويكذب الصادق، ويخون الأمين ويؤتمن الخائن، ويتحدث الرويبضة” الرجل التافه يتحدث في أمر العامة.
  2. للغش أنواع كثيرة منها:
  • الغش في الدين بأن يقول الإنسان على الله ما لا يعلم ويتكلف ما لا يحسن، ويفتري على الله الكذب، ومن ذلك أيضاً رد النصوص الثابتة بمحض العقول العاجزة تحت دعوى النقد وإعمال العقل، وقد علم كل منصف أن للعقل حدوداً لا يتعداها، وأن الدين قد يأتي بما يعجز العقل عن إدراك كنهه
  • الغش في ادعاء سمت أهل الدين وتصنع الوقار، والتصدر قبل التأهل والتزبب قبل التحصرم، فكم من صديق في قباء وكم من زنديق في خباء، وكم من متصدر للفتيا وهو غير أهل لها ومدع للعلم وهو خلو عنه {والمتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور}
  • ومن الغش المراءة بالأعمال حين يعمد بعض الناس إلى الحديث عما عمل أو عما لم يعمل؛ فإن بعض الناس يراءي بما عمل، وبعضهم عياذاً بالله يرائي بما لم يعمل؛ مرادهم من ذلك أن يجدوا لهم في قلوب الناس منزلة؛ ظناً منهم أن الله تعالى لا يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، {يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية} وقد قال سبحانه {أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه} وعن معاذ قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: “الغزو غزوان، فأما من غزا ابتغاء وجه الله تعالى، وأطاع الإمام وأنفق الكريمة، وياسر الشريك، واجتنب الفساد في الأرض، فإن نومه ونبهه أجر كله، وأما من عزا فخراً ورياءً وسمعة، وعصى الإمام، وأفسد في الأرض فإنه لن يرجع بالكاف”.
  • ومن الغش حمل السلاح على المسلمين واستباحة دمائهم، في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثلاث لا يغل عليهم قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين….”
  • الغش في النصح، ويراد به عدم الإخلاص في النصح، ومرجعه سواد القلب؛ فالمؤمنون نصحة بررة، والمنافقون غششة فجرة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال {يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة} الحديث وفيه: فما بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت. قال: فانصرفت عنه، فلما وليت دعاني وقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي على أحد من المسلمين غشاً، ولا أحسده على خير أعطاه الله إياه. فقال عبد الله: فهذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {المؤمن غر كريم، والفاجر خب لئيم}
  • الغش للرعية، وهو ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم في قوله {أيما راع غش رعيته فهو في النار} عن معقل بن يسار المزني رضي الله عنه في مرضه الذي مات فيه قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول {ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة}
  • من التدليس على الناس والغش لهم مدح وتهنئة وتزكية من لا يستحق ذلك؛ فلربما يموت فاسق أو فاجر ملأ الأرض ظلماً أو فسقاً فيقال أو يكتب عنه شعراً ونثراً بأنه الشهيد والمجاهد وغير ذلك من الألقاب والتزكية التي لا تجوز شرعاً
  • الغش في البيوع وغيرها من المعاملات، وقد قال الله تعالى )ويل للمطففين + الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون + وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون( وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على صُبْرَة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً. فقال {ما هذا يا صاحب الطعام؟} قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال {أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غش فليس مني} وعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تتلقى السلع قبل بلوغها الأسواق. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع رجلاً بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه وهو على غير ذلك، ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا لدنيا إن أعطاه منها وفى، وإن لم يعطه منها لم يف} وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {لا يتلقى الركبان، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لباد، ولا تصروا الإبل والغنم؛ فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين، بعد أن يحلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر}

وقد حرَّم الإسلام كل ما يوصل حيلة الغش وإنجاحها؛ فحرَّم بيع المجهول, والحلف على قيمة السلعة, أو اختلاس شيء منها قد لا يراه المشتري, أو قيام شخص بالزيادة في قيمة سلعة وهو لا يريد شراءها متواطئًا مع البائع لرفع سعرها, وكذا ما يفعله أصحاب المواشي من غش المشتري بأن الشاة أو الناقة أو البقرة تحلب كثيرًا فلا يحلبها مدة من الزمن؛ ليذهب بها إلى السوق ممتلئة الضروع فيظنّ المشتري أنها دائمًا كذلك فيشتريها, فيقع في الغش, ومن الغش أيضًا ما يقع في زمننا الحاضر بالنسبة للسيارات؛ حيث يعمد بعضهم إلى إيقاف عدَّاد السرعة مدَّة من الزمن, فإذا جاء المشتري أصلح العداد وأراه أن السيارة نظيفة لم تسر كثيرًا لقلة استعمالها, وكذا ما يفعل بعض المستأجرين للسيارات؛ حيث يعمدون إلى إيقاف العداد لئلّا يتجاوز الكيلو مترات المتَّفق عليها لزيادة الأجرة, وغير ذلك من صور الغش التي لا يعلمها إلّا الله تعالى, والتي لا يمكن أن تزول إلّا بوجود المراقبة الذاتية لله تعالى, واستشعار الخوف منه عز وجل, والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

  • من الغش الحاصل في العلاقات الزوجية أن يكتم أحد الزوجين ما يعاني من مرض مؤثر يثبت للأخر حق الفسخ؛ أو أن يكتم الأهل ذلك من برص أو جنون أو جذام أو عنة أو جب أو خصاء أو قرن أو عفل أو فتق
  • الغش للزوجة والعيال بأن يطعمهم حراماً؛ فتكون المكاسب مما حرم الله عز وجل كالقمار والربا والرشوة والتدليس والاحتكار وبيع المحرمات كالخمر والخنزير والميتة والأصنام، وأكل أموال الناس بالباطل، والتحايل على المحرمات، وقد قيل: (من عاش بالحيلة مات بالحيرة)
  • الغش في الشهادة؛ حيث يبيح الواحد لنفسه أن يشهد بالزور وأن ينطق بالفجور غير عابئ بأن هذه الشهادة قد يكتب الله بها سخطه إلى يوم يلقاه؛ عن أبي بكرة t قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال {ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟} الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور. وكان متكئاً فجلس؛ فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.
  • الغش في الهيئة والشكل؛ سواء كان للإيحاء بغير حقيقة الباطن، أو للظهور بغير حقيقة الواقع؛ فعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة}
  • الخيانة والتماس فرصها؛ كما في حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ذات يوم في خطبته {ألا إن ربي قد أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا، كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم. وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء. تقرؤه نائماً ويقظان. وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً؛ فقلت: يا رب إذاً يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة. قال: استخرجهم كما استخرجوك. واغزهم نغزك. وأنفق فسينفق عليك. وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله. وقابل بمن أطاعك من عصاك. قال: وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق. ورجل رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم. وعفيف متعفف ذو عيال. قال: وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له، الذين هم فيكم تبعاً لا يتبعون أهلاً ولا مالا. والخائن الذي لا يخفى له طمع. وإن دق إلا خاله، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا هو يخادعك عن أهلك ومالك. وذكر البخل أو الكذب والشنظير الفحاش
  • ومن الغش لأمة محمد صلى الله عليه وسـلم إنفاق المال في غير وجهه؛ كصنيع بعض الأغنياء حين يعمدون إلى الإنفاق بغير حساب على مسابقات الكرة وشراء اللاعبين والمدربين؛ وإذا ما دعوا للنفقة في بناء مسجد أو كفالة يتيم أو إغاثة ملهوف أو إعانة محتاج تلكئوا والتمسوا الأعذار بأنهم قد أخرجوا الزكاة المفروضة، وما علم هؤلاء أن الله تعالى قد استخلفهم في الدنيا لينظر كيف يعملون، وأن المال مال الله وإنما أنت مستخلف أيها الإنسان في هذا المال ولست مالكاً له على الحقيقة
  • في العلاقات الاجتماعية بين النساء؛ عن أسماء رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن لي ضرة؛ فهل عليَّ جناح أن أتشبع من مال زوجي بما لم يعطني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور} وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال {لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له}
  • من الغش أن يري الإنسان عينيه ما لم تريا؛ فذلك من أفرى الفرى وأعظم الكذب؛ خاصة إذا رتب على ذلك أحكاماً ومطالبات للناس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى