خطب الجمعة

الفقر وآثاره

خطبة يوم الجمعة 17/6/1429 الموافق 20/6/2008

1 – في مجال العقيدة والدين: وهو المجال الذي توجه إليه الأسهم المسمومة والضربات القاتلة ويراد به الشر أولاً وأخيراً. والفقر مدعاة للشك؛ إذ إنه يكون مدعاة للشك في حكمة التنظيم الإلهي للكون، والارتياب في عدالة التوزيع الرباني للرزق، فيصبح لسان حال صاحب هذا التصور:

كم عالم عالم أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقـاً

هذا الذي ترك الألباب حائرة وصيّر العالِم النِّحرير زنديقاً

الفقر والعقيدة الجبرية: وقد يرضى بعضٌ باعتناق النظرة الجبرية إلى الأمور وهي نظرة تتعارض مع عقيدة القرآن والسنة؛ فهو يُقنع نفسه بأن الفقر وإن كان شراً وبلاءاً فهو أمرٌ قد قضاه الله في السماء ولا يجدي معه الطب والدواء؛ فقد أراد الله أن يفضل بعض الناس على بعض في الرزق ليبلوهم، وأنه تعالى يبسط الرزق لمن يشاء، ولا رادَّ لقضائه ولا معقب لحكمه، وغير ذلك من كلام حق يُراد به باطل، ويروَّج مترافقاً مع سياسات الإفقار ومخططات التجويع ليقنع الناس بالرضا والصبر ولا ينبسوا ببنت شفة ولا تنفرج أفواههم عن لفظة اعتراض، ولسان حالهم يقول:

الرزق كالغيث بين الناس منقسم            هذا غريق وهذا يشتهي المطرا

أو كما قال آخر: يسعى القوي فلا ينال بسعيه حظاً ويحظى عاجز ومهين

ونظرة الجبرية هذه ينكرها الإسلام؛ لأنها تمثل عائقاً منيعاً أمام أي محاولة لإصلاح الأوضاع الفاسدة وتعديل الموازين الجائرة وإقامة العدالة المرجوة والتكافل الاجتماعي باعتبارها مبادئ إسلامية رئيسة.

الإسلام فرض على الأغنياء في أموالهم حقاً معلوماً للسائل والمحروم، ولما احتج الجاحدون منهم بمشيئة الله وقدرته ردّ عليهم زعمهم ورماهم بصفة الضلال المبين، قال تعالى {وإذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إنْ أَنتُمْ إلاَّ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} إنهم في ضلال مبين؛ لأنهم لو عقلوا لعلموا أن الله قد أراد أن يرزق الناس بعضهم من بعض، وأن يتعاونوا على رد قدر الله من الفقر بقدر الله من التكافل وحسن توزيع الثروات وإيجاد فرص العمل وأسباب الرزق.

قد يسأل سائل: إذاً ما المقصود بحثِّ النصوص القرآنية والحديثية على الرضا والقناعة بما قسم الله؟  والجواب: إن المقصود ليس هو ما يُراد ترويجه وإشاعته بين الناس من فهم خاطئ حول الرضا والقناعة من خلال ترضية الفقراء بالعيش الدون والحياة الهون ولا القعود عن السعي إلى الكسب الحلال والغنى والحياة الطيبة والعيش الرغيد، ولا المقصود كذلك ترك الأغنياء في غيهم سادرين يلهون، ويعبثون ويترفون ويسرفون، ولا ذم المال إطلاقاً؛ إذ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل الله الغنى تماماً كما كان يسأله التقى {اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى} وقد روى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قد دعا لخادمه أنس قائلاً {اللهم أكثر ماله} وأثنى على مال أبي بكر فقال في الحديث الذي حسنه السيوطي {ما نفعني مالٌ قط ما نفعني مالُ أبي بكر} وقال {ونعم صاحب المسلم هو} {فنعم المعونة هو} وقال كذلك في الصحيح نفسه من حديث يسار بن عبيد {لا بأس بالغنى لمن اتقى} بل وكان يستعيذ بالله من الجوع {اللهم إني أعوذ بك من الجوع}

فالقناعة التي حث عليها الإسلام تعني ألا يُفرِط الإنسان المسلم في سعيه للغنى وأن يُجمِل في طلب الرزق ليتمكن من إقامة التوازن في حياته ويتجنب الإفراط والغلو، ويتوجه طموحه إلى القيم الأرفع والرزق الأبقى {ورِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأَبْقَى} {والآخِرَةُ خَيْرٌ وأَبْقَى}

 كما أن القناعة المطلوبة في الإسلام تعني الرضى بتفاضل الناس في أعطيات الأرزاق تماماً مثل بقية المواهب والملكات، فلا ينبغي أن يكون أكبر همِّ المسلم النظر إلى ما أوتيه الآخرون نظرة حسد وبغضاء وطمع، وعليه في حدود ما قدّر له أن يكون نشاطه وطموحه {ولا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}.

  كما تعني الرضا بما رزق الله في حالات العسر وضيق الرزق والأزمات الطارئة التي تحل بالأمم وتعم الناس بسبب الكوارث وقلة الموارد الطبيعية وعدم القدرة على الهجرة أو تغيير الواقع.

 الفقر واتهام الله: إذ من طبيعة الإنسان بدون تزكية الأديان أنه: {إذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} الفقر والكفر متلازمان: قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه بين الفقر والكفر فقال {اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر} وقال في الحديث الذي أخرجه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب والطبراني في الأوسط وضعَّف العراقي سنده {كاد الفقر أن يكون كفراً} وأوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحاجة والطمع في المال تدفع المرء إلى بيع دينه، كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة {يبيع أحدهم دينه بعرضٍ من الدنيا قليل}

وواضح اقتران بيع الدين بالكفر والعياذ بالله وابتغاء العرض القليل من الدنيا بالحاجة إليها والطمع فيها.

 ومن أقوال السلف:

– إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر: خذني معك.

– أكفر الناس ذو فاقة لا صبر له، وقلَّ في الناس الصابر.

  الاختلالات الحادثة في كل مجالات الحياة هي في الأصل اختلال في الإيمان والدين: ففي مجال الأخلاق والسلوك مثلاً: فعل ما يخالف أخلاق الإسلام يضعف الإيمان بل ويرفعه؛ ففي الحديث المتفق عليه {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيه أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن} وفي رواية للبخاري {ولا يَقتُل وهو مؤمن} وفي رواية لمسلم {ولا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن؛ فإياكم وإياكم} ومن نافلة القول أن الأخلاق السيئة الوارد ذكرها في الأحاديث السابقة من زنى، وسرقة، وقتل، وغلول، وشرب خمر يكون الفقر والحاجة من أشد دوافعها وأكثرها، وهي ذات تأثير في رفع الإيمان وانعدامه.

خلاصة: الفقر سبب للشك في الله، واتهامه، واعتناق العقيدة الجبرية المنحرفة، ويتلازم معه الكفر، وكل آثاره الأخرى توهن الدين وتضعف الإيمان.

2 – في مجال الأخلاق والسلوك: الفقر والفاحشة: تعد الحاجة والفقر من الأسباب الرئيسة التي تقف وراء الرذائل والفواحش؛ إذ يكون الفقر في حال غياب الإيمان أو ضعفه أقوى من مراقبة الله والخوف منه والاستجابة لنداء الضمير، لذا قيل: (صوت المعدة أقوى من صوت الضمير).

  ودلالة الاقتران بين الفقر والفاحشة واضحة في النصوص الحديثية الصحيحة الآتية: الحديث المتفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {قال رجل: لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تُصدِّق الليلة على سارق!! فقال: اللهم لك الحمد على سارق!! لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على زانية!! فقال: اللهم لك الحمد على زانية!! لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على غني!! فقال: اللهم لك الحمد على سارق وزانية وغني؛ فأُتي فقيل له: أمَّا صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما صدقتك على زانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما صدقتك على غني فلعله أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله}

نستطيع أن نفهم من الحديث السالف أن حصول السارق على المال وكذا الزانية قد يكون سبباً قوياً (فلعله، فلعلها) في رجوعهما عن غيهما والعودة إلى الأصل وهو العفاف (يستعف، تستعف) وأن السبب في فاحشتهما بعد ضعف الإيمان وغيابه هو الحاجة إلى المال.

  وفي الحديث المتفق عليه من رواية ابن عمر رضي الله عنهما عن الثلاثة الذين آواهم المبيت أو ألجأهم المطر إلى الغار، فسقطت الصخرة وسدت عليهم باب الغار، فأشار بعضهم على بعض بالتوسل إلى الله بصالح الأعمال لينجوا من الموت والهلكة، فقال أحدهم {اللهم كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إليَّ فأردتها عن نفسها (راودتها) فامتنعتْ مني حتى ألمت بها سنةٌ من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلِّي بيني وبين نفسها، ففعلت ؛ حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أُحِلُّ لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرَّجتُ من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليَّ…

ما الذي جعل المرأة العفيفة توافق على أن تخلي بينها وبين نفسها لابن عمها؟! إنها الحاجة والفقر: (ألمت بها سنة من السنين)، وهذا هو الشاهد!! ثم ما الذي حفظها وابن عمها من الفاحشة؟! إنه الإيمان وتقوى الله الذي نادت به ابن عمها: (اتق الله).

  الواقع يتحدث: في اعترافات الواقعين في مستنقعات الرذيلة والفاحشة وفي مذكراتهم ما يدل على أن الفقر والحاجة إلى المال كان سبباً في سقوطهم، ومآسي الأسر في ضياع شرفها وفي امتهان أولادها للسرقة والدعارة بسبب الفقر قصصٌ تُدمي القلوب وُتحزِن النفوس وتُعظم العقاب على كل راع ومسؤول لم يؤدِ حق رعايته، وكم من امرأة شريفة قد ألجأتها الفاقة إلى العمل خارج بيتها فكان الذئاب في انتظارها! الفقر وأخذ المال الحرام: من الأخلاق الذميمة التي حاربها الإسلام وجعلها من الكبائر: السرقة، الرشوة، الغلول، وغيرها مما تؤكل بها أموال الناس بالباطل وتجعل الكسب حراماً حراماً؛ هذه الأخلاق لا ترتكب غالباً إلا في حالة الحاجة والفقر وعدم كفاية الدخل في سد الحاجات الأساسية؛ فأنت تجد ذا النزاهة والأمانة إن لم يستطع المقاومة ولم يكن له زاد من الإيمان يثبته، تجده يضطر بفعل الضغوط الأسرية والحياتية وقلة ذات اليد إلى أن يغمس يده في رجس المال الحرام والعياذ بالله، وفي الحديث: (خذوا العطاء ما دام عطاء، فإذا صار رشوة على الدين فلا تأخذوه ولستم بتاركيه، تمنعكم الحاجة والفقر) لذا كان من هدي الخليفة عمر بن عبد العزيز أن سدَّ على عماله وموظفيه كل نافذة أو ثغرة لأخذ المال الحرام، وبدأ برفع أجورهم ليحقق لهم الكفاية ويغنيهم عن الخيانة ويسد بذلك الذريعة إلى الحرام.

 الفقر والذلة: والذلة لغير الله خلق سيئ يجعل المرء عبداً للناس يخافهم ويذعن لما يملونه عليه حتى لو كان في ذلك معصية لله، لذلك تعوَّذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفقر والذلة وقرن بينهما: (اللهم إني أعوذ بك من القلة والذلة).

 الفقر وصفات النفاق: الفقر يدفع إلى طلب الدَّيْن، وعدم القدرة على السداد والأداء يجعل الإنسان يكذب ويخلف وهي من صفات النفاق. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري: “إن الرجل إذا غرم استدان حدث فكذب، ووعد فأخلف”

 الفقر وضياع أخلاق حميدة: يُجبِر الفقر الناس على التخلي عن كثير من الأخلاق الحميدة، مثل:

 – الكرم للضيوف والأصحاب.

 – الصدقة والتكافل الاجتماعي.

 – صلة الأرحام.

 – الحب والتواد بين الناس.

 – التعفف والحياء.

  كما يدعو إلى الاضطرار إلى التسوُّل وما يجره ذلك من أضرار.

 الفقر وسفك الدماء: الفقر يؤدي إلى الجزع على الدنيا، والخوف على فوات نصيبه منها، مما يدفع إلى الصراع من أجلها والامتثال لسفاسفها وسفك الدماء وعدم السماح والصفح؛ لأن الجميع يرون أنهم في حاجة إليها، ويرونها مسألة حياة أو موت، كما أن آثار الفقر السابقة تؤدي إلى سفك الدماء وإزهاق الأرواح وارتفاع معدلات الجريمة.

 3 – أثر الفقر على العلم والفكر: طلب العلم ونشره وتوفير مؤسساته ومتطلباته يحتاج إلى الدعم المادي، وفقدان المال يؤدي إلى عدم توفر الإمكانات المعينة على طلب العلم ونشره، فيجهل الناس، ويضيع العلم.

 ويؤدي اضطرار الناس إلى العمل كباراً وصغاراً إلى العزوف عن طلب العلم وتتفشى الأمية؛ فيظهر ذلك في تأخر الأمة علمياً وثقافياً؛ لأنهم قد شُغِلوا بطلب الرزق عن كسب العلم والثقافة والفكر، وحتى إنْ طلب أبناء الأمة العلم في ظل مؤسسات لا توفر أبسط الإمكانات والظروف المناسبة فإن طلبهم للعلم وتلقيهم له يكون ضعيفاً لا يغني من جهل ولا يُبصر من عمى ويؤدي إلى تسربهم.

 كما أن التفكير والقدرة على الابتكار ونفع الأمة يعوقه كثيراً ما يلاقيه أصحابه من عنت في مجال الحياة المعيشية وتوفير القدر الأدنى من الحاجات الأولية لأنفسهم. روي عن الإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب الإمام أبي حنيفة: أن الجارية أخبرته يوماً في مجلسه أن الدقيق قد نفد، فقال لها: (لقد أضعتِ من رأسي أربعين مسألة من مسائل الفقه). ويروى عن الإمام أبي حنيفة قوله: لا تستشر من ليس في بيته دقيق؛ لأنه مشتت الفكر مشغول البال فلا يكون حكمه سديداً. وفي الحديث الصحيح: (لا يقضي القاضي وهو غضبان). وقد قاس عليها الفقهاء: (لا يقضي القاضي وهو جوعان، أو عطشان؛ لأنها انفعالات تؤثر على حكمه). يقول القائل:

إذا قلَّ مال المرء قلَّ بهاؤه وضاقت عليه أرضه وسماؤه

وأصبح لا يدري وإن كان دارياً قدامه خير له أم وراؤه

وقد قيل: أعطني خبزاً أعطك شعباً مثقفاً.

وقديماً رأى الشاعر أن المُلْك يقوم على العلم والمال وأن كلاً منهما يحتاج الآخر:

بالعلم والمال يبني الناس مُلكهم لم يُبنَ مُلك على جهل وإقلال

4- أثر الفقر على الأسرة: الأسرة نواة المجتمع، وبها يكثر أو يقل المجتمع، ويقوى ويضعف، ويصلح أو يفسد.

وأثر الفقر على الأسرة يظهر ظلاله السيئة على تكوينها واستمرارها: أثره على تكوينها: فالفقر مانع رئيس من موانع الزواج؛ لأن من متطلباته المالية: المهر، النفقة، تجهيز المنزل.

لذا حث القرآن من لا يجدون القدرة على الزواج على الاستعفاف حتى يرزقهم الله من فضله؛ ولعل المقصود في ذلك: القدرة المالية لارتباط ذلك بقوله تعالى: {يُغْنِيَهُمُ}، يقول تعالى: {ولْيَسْتَعْفِفِ الَذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} وفي الحديث المتفق عليه من رواية عبد الله بن مسعود: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)

الفقر سببٌ قوي لدى الكثير من الآباء والأمهات للأسف لرفض الشباب المتقدمين لخطبة بناتهم؛ إذ إنهم لا يرغبون إلا في الموسرين، وهو داء قديم عرض له القرآن وأمر الآباء والأمهات بخلافه، قال تعالى: {وأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ والصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وإمَائِكُمْ إن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ}

لكن الكثير من الآباء والأمهات لا يُصغون لنداء القرآن؛ لذا انتشرت العنوسة بين النساء، وسُهِّل طريق الحرام للسالكين، وحدثت الفتنة والفساد الذي توعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفسادٌ عريض)

أثره على استمرارها: والفقر معوِّقٌ قوي عن استمرار الأسرة بعد تكوينها؛ إذ إنه يكون سبباً في طلاق المرأة من زوجها؛ إذ يجيز الشارع أن يطلق القاضي المرأة من زوجها لإعساره وفقره وعجزه عن النفقة عليها.

والفقر سبب رئيس لمعظم الخصومات الدائمة بين الرجل وزوجته حول النفقات ومتطلبات المعيشة وكيفية توفيرها والتعامل معها، ويكون الفقر وراء انعدام السكينة وضياع المودة والرحمة.

بل إن سياسات الإفقار تدفع بالنساء والأطفال إلى العمل، فيخرج الجميع إلى الحياة والمغالبة لأجل البحث عن أسباب العيش ويُقوض بنيان الأسرة.

إن استمرار الأسرة أيضاً يعني التناسل والإنجاب، والحد من النسل يعني توقف استمرار الأسرة، والأعداء يروّجون لذلك ويتحججون بالفقر وانخفاض الثروات الغذائية مقابل الانفجار السكاني، وهم للأسف يجدون من يستمع إليهم ويقتل أولاده كأولئك الذين خاطبهم الله قائلاً: {ولا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وإيَّاهُمْ}، الإملاق: الفقر، {ولا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإيَّاكُمْ إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبيراً}

والآيات واضحة في أن من سبب قتل الأولاد الفقر أو خوف الفقر؛ فهو عقبة أمام استمرار الأسرة.

وفي الحديث المتفق عليه: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ قال: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك)، قال: ثم أي؟ قال: (أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك)

ولا يخاف الأب أو الأم أن يطعم ولده معه إلا في حالة شح الطعام وندرته بسبب الفقر والحاجة، لذا يضطر لقتله والعياذ بالله ليرتكب ذنباً من أعظم الذنوب بعد الشرك.

كما أن انشغال الآباء والأمهات بطلب العيش وتوفير الحد الأدنى من مقومات الحياة يؤثر سلباً في الاهتمام بتربية الأولاد والعناية بهم.

 5 – أثر الفقر على الصحة: في الصحة العامة: يؤثر الفقر على الصحة العامة للفرد والأسرة والمجتمع؛ إذ بسببه لا يمكن توفير أساسيات للمحافظة على الصحة العامة، ومنها: – الغذاء المناسب الواقي والمدافع من الأمراض وسوء التغذية.

  – الوقاية اللازمة من خلال النظافة في المنزل والشارع ومنع انتقال العدوى.

  – العلاج المناسب لإعانة الجسم على استرداد حالته الصحية السوية (سواء كان استشارة طبية، أو فحصاً مختبرياً، أو أدوية…

 – المؤسسات العلاجية المناسبة: المختبرات، المستشفيات، المراكز المتخصصة.

 – مؤسسات إعداد الكوادر الطبية: إعداد الأطباء وتأهيلهم، وتدريب الكوادر الطبية المساعدة.

 في الصحة النفسية: إذ بسبب الفقر يعاني الناس أفراداً وأسراً وجماعات من الضجر والتبرم والقلق وعدم الأمان والخوف من المستقبل والشعور بالحرمان، والإحساس بالدون والحسد والكراهية والسخط مما يسبب ضغوطاً على النفسيات؛ فتحدث خللاً وارتباكاً يؤدي إلى ما هو أعظم وأسوأ: من التفكير بالانتقام، والتطرف في الأفكار والتعامل، بل والجنون وفقدان الاتزان العقلي عافانا الله جميعاً.

6 – أثر الفقر على الاقتصاد والسياسة: رغم أن السياسة والاقتصاد هما سببان رئيسان للفقر والجوع إما بسبب الفساد المالي والإداري والسياسات المتبعة، أو الإذعان لما تمليه على ولاة الأمور الحكوماتُ الخفية للصهيونية ممثلة في المؤسسات الاقتصادية الدولية.

 لكن الفقر نتيجة تؤثر أيضاً في السبب، ومن ذلك:

– قلة الإنتاج وانهيار الاقتصاد وزيادة العجز وضعف الإيراد، والكساد التجاري، والركود الاقتصادي.

– انعدام الثقة والحب بين الحاكم والمحكومين.

– ارتفاع تكاليف الخدمات العامة الأساسية.

– زيادة المماحكات السياسية وتبادل التهم.

– الظلم الجلي في توزيع الثروات.

– زيادة البطالة وما تؤدي إليه من أضرار اقتصادية واجتماعية.

– الشعور العام بالسخط وعدم الانتماء إلى الأمة والوطن.

– الحد من دور الدولة، وهذا يعني بقاء القرار السياسي والاقتصادي في يد من يقدِّم المال ويتحكم في الاقتصاد ويدير وجهة تطوره وملامحه.

– تصفية المدخرات السابقة وتسييلها من قِبَل الطبقات الوسطى والاستعانة بها في مواجهة النفقات المعيشية المتزايدة لتتحول بذلك إلى الطبقة الفقيرة.

– ازدياد هجرة العقول والأيدي العاملة المحلية.

– تغيير هيكل الإنتاج من إنتاج متين يعتمد على القطاعات الاستراتيجية كالزراعة والصناعة إلى هيكل إنتاجي يرتبط بالعالم الخارجي كالسياحة والاستيراد وغيرها.

تعريف أخير: مشروعات الصناديق الاجتماعية ذات الموارد الهزيلة: لا تخرج عن كونها ديكوراً يلحق ببرامج الإفقار والهلاك لإعطائها مسحة من السمة الإنسانية على وجهها الشيطاني القبيح، أما الزيادات الطفيفة التي تضاف إلى الأجور فإنها لا تجدي شيئاً ولا تشكل سوى رذاذ طفيف في مواجهة لهيب الأسعار وإعصار التكاليف الحياتية.

باختصار: تلكم كانت صنوف العذابات التي يُريد المتآمرون أن تسوم أمتنا وشعوبنا، وأن تتجرعها غصصاً ولا تسيغها ويأتيها الهلاك من كل مكان، وأن تُطحن برحى سياسات الإفقار فلا تبقى فيها باقية من إيمان وقوة أو أثر من خلق وإرادة، ومن ثم تسير في درب سننهم حذو القذة بالقذة رافعة راية التبعية والاستسلام ورامية بعقيدتها ودينها وتميزها وخيريتها خلف جدران النسيان. نعوذ بالله من ذلك ونسأله العفو والعافية وأن يكفيها شر الأشرار وكيد الأعداء والفجار وشر طوارق الليل والنهار.

ثالثة الأثافي: قد أسلفت أن جرائم سياسات الإفقار لا يمكن أن تُنَفَّذ في صورتها المطلوبة إلا في ظل ضعف الإيمان وانعدامه، لذا لا بد من أن تترافق مخططات التجويع جنباً إلى جنب مع مخططات الإلهاء والصد عن سبيل الله، ونشر الإباحية والخنوع، ودعم مشاريع إشاعة الرذيلة والفسق والفجور، وذلك من خلال:

– قيام وزارات الإعلام والثقافة، والسياحة في كثير من البلدان بدورها الشيطاني في الإلهاء والتغريب والتعتيم على الشعوب وصرف أنظارها عمَّا يحاك لها وما يدبر ضدها في الخفاء.

– شغل الناس وخاصة الطبقة المثقفة التي يُنتظَر منها قيادة الشعوب في المقاومة وفضح المخططات في خلافات حزبية وتباينات سياسية فكرية ثقافية تعشي أعينها عن إدراك المؤامرات التي تستهدف الدين والعقل والعرض والمال والحياة.

– محاصرة التيار الإسلامي والعمل على تجفيف منابعه وتكسير أجنحته، ووضع الفجوات الواسعة والعميقة بينه وبين جمهور الناس عن طريق تشويه سمعة دعاته أو إبعاده بشتى الوسائل عن مراكز القرار أو الخطاب والبلاغ والإنذار حتى لا يؤدي دوره في إيقاظ الأمة وقيادتها في المواجهة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى