خطب الجمعة

القول على الله بغير علم

خطبة يوم الجمعة 21/3/1429 الموافق 28/3/2008

1ـ الأدلة على تحريم القول على الله تعالى بغير علم من القرآن الكريم:

  • )قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ(
  • ) ولاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ
  • )وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً(

2ـ من السنة المطهرة قولية وعملية ما أكثر الأدلة الناهية عن التقول على الله بغير علم:

  • كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يُسأل عن أمور فَيَكِلُ فيها العلم إلى الله تعالى، ويظل منتظراً الوحي. قال الإمام مالك «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إمامَ المسلمين وسيدَ العالمين يُسألُ عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحيُ من السماء»
  • قال النبي صلى الله عليه وسلم {المُتَشَبِّعُ بما يُعْطَ، كَلابِسِ ثَوْبَي زُورٍ} قال الإمام أبو حامد الغزالي معلقاً على الحديث: «ويدخل في هذا فتوى العالم بما لا يتحققه، وروايته الحديث الذي لا يثبته؛ إذ غرضه أن يظهر فضل نفسه؛ فهو لذلك يستنكف من أن يقول لا أدري، وهذا حرام»
  • في حديث جابر رضي الله عنه قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجرٌ في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات؛ فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أُخْبِرَ بذلك، فقال {قتلوهُ قتلهمُ الله؛ ألا سألوا إذْ لم يعلموا؟ فإنما شِفَاءُ العِيِّ السُّؤَالُ، إنَّما كان يَكْفِيهِ أن يَتَيَمَّمَ ويعصِرَ أو يعصِبَ على جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثم يَمْسَحُ عليها ويَغْسِلُ سَائِرَ جَسَدِهِ} وعدَّ صلى الله عليه وسلم الذين أفتوا الجريح بغير علم بمنزلة القتلة لأخيهم

3ـ حال الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وورعهم في الفتيا، وحذرهم من الخوض فيها مع جلالة قدرهم:

  • يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «من كان عنده علم فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل: الله أعلم؛ فإن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم ) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ(
  • يقول عبد الرحمن بن أبي ليلى {أدركت في هذا المسجد مائة وعشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منهم أحد يُسأل عن حديث أو فتيا إلا وَدَّ أن أخاه كفاه ذلك} وفي لفظ {كانت المسألة تُعرض على أحدهم فيردها إلى الآخر، ويردها الآخر إلى الآخر، حتى تعود إلى الأول}
  • قال سفيان الثوري {أدركت الفقهاء وهم يكرهون أن يجيبوا في المسائل والفتيا، حتى لا يجدوا بُدّاً من أن يفتوا}

4ـ وكذلك من جاء بعدهم من السادة الأعلام أئمة الدين الذين تلقت الأمة أقوالهم بالقبول كانوا أورع الناس عن الفتيا: رأى رجلٌ ربيعةَ بن أبي عبد الرحمن يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: استُفْتِي من لا عِلْمَ لَهُ، وظهرَ في الإسلام أمرٌ عظيمٌ. قال: ولَبعض من يُفتي ها هنا أحق بالسجن من السُّراق» ونقل الإمام ابن القيم عن بعض العلماء قولهم: فكيف لو رأى ربيعة زماننا، وإقدام من لا علم عنده على الفتيا، وتوثبه عليها، ومد باع التكلف إليها، وتسلقه بالجهل والجرأة عليها، مع قلة الخبرة، وسوء السيرة، وشؤم السريرة، وهو من بين أهل العلم منكر أو غريب، فليس لَهُ في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف نصيب.  فكيف الحال بأزماننا المتأخرة، وقد تجرأ في التقوُّل على الشرع من هَبَّ ودَبَّ بدون علم ولا ورع ولا أدب؟

5ـ ما هو السبب الحامل على القول على الله بغير علم؛ يقول الإمام ابن القيم «كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها، فلا بُدَّ أن يقول على الله تعالى غير الحق في فتواه وحكمه، في خبره وإلزامه»

6ـ من مظاهر القول على الله بغير علم في زماننا هذا:

  • التلاعب بأحكام الكتاب والسنة: فقد جاء التحذير من الذين يقرؤون القرآن، ثم يُغيّرون أحكامه وحدوده، ويتلاعبون به يميناً وشمالاً، ويَتَقَوَّلُون على الله تعالى. عن حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {إن ما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى إذا رُئيت بهجته عليه، وكان ردئاً للإسلام غيَّرَهُ إلى ما شاء الله، فانسلخ منه، ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك} ومن أمثلة التلاعب بالسنّة وكثرة الكذب في العلم في آخر الزمان، ما يدل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم {يَكُونُ في آخر الزمان أناسٌ دَجَّالُون كَذَّابُون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعُوا أنتم ولا آباؤُكُم، فإياكم وإياهُم، لا يُضلُونكُم ولا يفتنونكم} فاستشراء الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم دليل على مدى ضعف الأمانة في العلم والتقول على رسول الله بما لم يقله. ومن أمثلة التلاعب بالعلم، ما روي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فرأى واعظاً يعظ الناسَ ويخوَّفهم؛ فما كان منه إلا أن سأله: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، فقال له: هلكتَ وأهلكتَ، ثم أصدر أمره بمنعه من التحدث إلى العامة. ولأجل مواجهة المتلاعبين بالدِّينِ دأب الصحابة رضوان الله عليهم على التثبت في التحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فعن مجاهد قال: جاء بُشيرٌ العدوي إلى ابن عباس € فجعل يحدِّثُ، ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فجعل ابن عباس لا يَأْذَنُ لحديثه، ولا ينظُرُ إليه . فقال: يا ابن عباس! ما لي لا أَرَاكَ تَسْمَعُ لحديثي؟ أُحَدِّثُكَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع، فقال ابن عباس: «إنَّا كُنَّا مَرَّةً إذا سَمِعْنَا رجلاً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ابتدَرَتهُ أبصارُنا، وأصغَيْنَا إليهِ بآذَانِنَا؛ فلما رَكِبَ الناسُ الصَّعْبَ والذَّلُولَ، لَمْ نَأْخُذْ من النَّاسِ إلا مَا نَعْرِفُ»
  • التسرع في الفتيا قبل التأمل والدراسة: ومن الشواهد على التسرع في الفتيا قيام بعض طلبة العلم حدثاء الأسنان قليلي العلم ضعيفي التجربة المبتدئين المستندين على التلقي المباشر من الكتاب والسنة بإصدار الفتاوى التي هي من شأن العلماء الراسخين ويصدق على هؤلاء المتسرعين بالفتاوى قول الفقيه القاضي سحنون «أجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه»
  • اشتغال غير المختصين بمسائل العلم: تحتاج مسائل العلم الدقيقة، والقضايا الفقهية، والفتاوى النازلة إلى من أفنى عمره في دراسة العلم ومسائله من العلماء الأثبات، المشهود لهم بسعة العلم، ودقة المعرفة، وسلوك الورع، ومعرفة الواقع، ومقاصد الشريعة، وربما أحاط أصحاب العلوم التجريبية ببعض العلوم الشرعية، لكن لا يعني ذلك القدرة على البحث والاستنباط في مسائل العلم الشرعي، وبحسب أصحاب التخصص التجريبي الإبداع في تخصصاتهم، وإفادة الأمة الإسلامية التي هي أحوج ما تكون إليهم في مجالهم، وكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِقَ لَهُ، ومن أمثلة ذلك: اشتغال جمع من أصحاب التخصصات في العلوم التجريبية بساحة التخصص الشرعي، وتطاولهم على كتب السلف في العقيدة والتفسير والحديث والفقه وأصوله وغيرها، فوقعوا في مزالق خطيرة. ولا يُشَكُّ في حسن نية بعض الباحثين والدارسين، لكن لا يكفي المرءَ قراءتُه للكتب الشرعية ليصبح في عداد العلماء المتخصصين في الشريعة، بل لا بد من العكوف على سؤال العلماء، والإفادة منهم في فهم المراد من النصوص الشرعية، والإلمام بدقائق العلم الشرعي وآلته، والقدرة على النظر في الأدلة الشرعية، ومعرفة مظان الأحكام الشرعية في مصادر الشريعة، أُثِرَ عن الإمام أحمد بن حنبل في رواية ابنه عبد الله قوله: «إذا كان عند الرجل الكتب المصنفة فيها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلاف الصحابة والتابعين، فلا يجوز أن يعمل بما شاء، ويتخير فيقضي به، ويعمل به، حتى يسأل أهل العلم ما يؤخذ به، فيكون يعمل على أمر صحيح» وأحسن الإمام الشافعي إلى التنبيه على أهل العلم بضبط أصول العلم، وأدواته قبل الشروع في الفتوى ؛ إذ قال «لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله بناسخه ومنسوخه، وبمُحكمه ومتشابهه، وتأويله وترتيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به وفيما أنزل، ثم يكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناسخ والمنسوخ منه، ويعرف من الحديث ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللغة، بصيراً بالشعر، وبما يحتاج إليه للعلم والقرآن، ويستعمل مع هذا الإنصاف، وقلة الكلام، ويكون بعد هذا مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يتكلم في العلم ولا يفتي» متى أتيت الأمر من غير بابه ضللت وإن تدخل الباب تهتدِ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى