مما ابتلى به كثير من المسلمين الفرح والعجلة بنقل الأخبار ونشرها في المجالس وجعلها محور الحديث بين القاعدين ثم لا تسل بعد ذلك عن الزيادات والحواشي والشروح والدخول في المقاصد والنيات التي لا يعلمها إلا الله تعالى
ولما فشا نقل الكلام ومرض نقل الأخبار في صفوف أكثر المسلمين بتنا نسمع كلاماً ينقل تثور له ضغائن النفوس وتتمزق له أواصر الأخوة والمحبة ومن قدر على العفو لم يقدر على حفظ المودة من المنغصات أو تصدع جدرانها فيا أخيَ..
احرص على حفظ القلوب من الأذى فرجوعها بعد التنـافر يعسر
إن النفوس إذا تنافر ودّها مثل الزجاجة كسرها لا يجبر
لقد بات الحال بفريق من المسلمين أن صار تصديقهم للقيل والقال فيما يشاع وينشر أكبر من تسليمهم في الأمر لله ورسوله، ولو أنهم قالوا للناقل الساعي الذي جاء يتملق ويتشدق ويتفيهق به لو قالوا له: من أين لك هذا؟ ما مصدر الخبر؟ لأسقط في يد هذا الناقل، وترى كثيراً من الناس يعتمد في نقله على الشائعات والمنشورات أو الاستنتاج والقول باللوازم، وبعضهم إذا سئل من أين لك هذا؟ وما مصدر كلامك وأصل نقلك؟ قال: أخبرني فلان عن فلان عن فلان ثم لم تلبث أن ترى سنداً يروي فيه كذاب عن مدلس عن صاحب هذي عن سيء حفظ عن صدوق يخطئ كثيراً.. فلا يبلغك إلاّ وقد أصابته زيادة وحذف واضطراب وخلل وتأويل وشرح وحاشية وتعليق. ثم يتناقله السرعان من الناس وما أرسلوا على الناس حافظين ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به من الكف عن القيل والقال لكان خيراً لهم وأقوم وأشد تثبيتاً..
وحسبك أن الكذب دلالة على ضعف الدين ودليل على خبث الطباع، يقول الله عز وجل {إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون}..
وروى الإمام أحمد في مسنده عن ابن أبي مليكة أن عائشة رضي الله عنها قالت “ما كان خلق أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب، ولقد كان الرجل يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذبة فما يزال في نفسه صلى الله عليه وسلم حتى يعلم أنه قد أحدث منها توبة”، وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال وقال صلى الله عليه وسلم “عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً “.
وحسبكم يا عباد الله أن الكذب من علامات النفاق، قال صلى الله عليه وسلم: “آية المنافق ثلاثة إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان”
وينبغي للعاقل ألا يتأثر بكثرة الكذب حوله، فلا يدع الصدق لأنهم يكذبون ولا يدع الأمانة لأنهم يخونون، ولا يدع الوفاء لأنهم يغدرون ولا يدع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنهم يسكتون ويتجاوزون..
ومن أشهر طرق الكذب ما يفعله بعض الكاذبين من رمي الكلمات التي يطلقها الكاذبون غير جريئين على رمي المكذوب عليه صراحة ولكن يلجئون إلى إثارات الشبهات والشكوك على هذا المكذوب عليه حتى تجتمع من الأصول والحوادث المتوافقة ما يجعلون السامع به ينطق بالكذب. الذي هابوا هم من النطق به صراحة وكيف نكذب على المسلمين، ونحن قد حرمت علينا الشريعة الكذب على أعدائنا من ذوي المذاهب الضالة والملل المنحرفة ولو كان عدواً إلاّ ما استثني بالدليل من الكذب حال الحرب والمعركة. أما الكذب والافتراء حتى على ذوي الأهواء والمذاهب الضالة فإنه لا يجوز فما بالك بمن يشاركوننا في الإيمان والطاعة والإصلاح..
ومن أنواع الكذب الذي يسري على كثير من المسلمين: ذكر بعض الحقائق وإخفاء بعضها الآخر، فترى الكذوب يسمعك من الرواية فصولاً لا تدع للسامع مجالاً ينجو فيه من تغيُّر رأيه في المكذوب عليه ولو أن السامع أسمع الواقعة كلها لانقلب مؤيداً أو نصيراً ومعيناً وللكاذب عدواً..
ولكن يا عباد الله إذا زالت القلوب عن الحق إلى الهوى فلا تسل عن المهلكة {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله}..
روى الإمام أحمد وأبو داود بسند صحيح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال “من خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومن قال في مؤمن ما ليس منه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال، وليس بخارج “..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم * لولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم، يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين، ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم}…
إذا دار الحديث في مجالسنا عن القيل والقال وأعراض الرجال، فلنعلم:
أولاً: أننا لا نتكلم في معروف ولا نجمع حسنات وإنما نتكلم في منكر ونسدي إلى المتحدَّث عنهم حسناتنا ونكسب زيادة على ذلك آثاماً وسيئات.
الأمر الثاني: أننا لم نُرسل على الناس حافظين نحصي عليهم أعمالهم وأقوالهم.
الأمر الثالث: أن واجبنا إذا جلسنا مجلساً سمعنا في القيل والقال أن نقول للمتحدث بكل جرأة: كفَّ لسانك عن هذا.. أعطنا آية من كتاب الله وحديثاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تجعل صحف أعمالنا نلقى فيها يوم القيامة فرية وشائعة ونميمة.
الأمر الرابع: يجب على من تكلم في عرض مسلم في مجلسه أن يذب عن عرضه فمن ذب عن عرض أخيه ذبّ الله عن عرضه النار يوم القيامة، حتى ولو تكلم المتكلمون في مجلسه عن رجل أنت تخالفه في منهج أو اسلوب أو طريقة أو حتى تكرهه كرهاً شخصياً.. فخلافك هذا وكرهك لا يبيح لك السكوت عن نصرته أو إسقاط حقه الواجب عليك.
الأمر الخامس: أن من واجبنا إذا علمنا أن شخصاً لا هم له إلاّ القيل والقال والسعي بالشائعة والكلام علينا أن نطرده من مجالسنا وألا يبقى معنا حتى لا نكون مثله.. إلا أن يخوض في حديث غيره من الأحاديث الطيبات.
من أنواع الكذب
1- الكذب على الله عز وجل؛ قال تعالى {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون. متاع قليل ولهم عذاب أليم} {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون}
2- الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسـلم؛ قال صلى الله عليه وسـلم “إن كذباً عليَّ ليس ككذب على أحدكم؛ فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار”
3- ان يتشبع الإنسان بما لم يعط؛ فكثير من الناس قد يدعي مالاً أو جاهاً أو علماً ليس عنده، ولا وجود له في واقعه، في حديث أسماء بنت الصديق رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسـلم قال «الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» رواه الشيخان
4- وكما يكون الصّدق والكذب في الأقوال يكونان في الأفعال. فقد يفعل الإنسان فعلا يوهم به حدوث شيء لم يحدث، أو يعبّر به عن وجود شيء غير موجود، وذلك على سبيل المخادعة بالفعل مثلما تكون المخادعة بالقول، وربّما يكون الكذب في الأفعال أشدّ خطرا وأقوى تأثيرا من الكذب في الأقوال. ومن أمثلة ذلك ما حكاه الله لنا من أقوال وأفعال إخوة يوسف عليه السّلام إذ جاءوا أباهم عشاء يبكون بكاء كاذبا، وقالوا كذبا {يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} وجاءوا على قميص يوسف بدم كذب. فجمعوا بين كذب القول وكذب الفعل
5- الكذب في الرؤيا، وهذا في الناس كثير يفعله بعضهم تزلفاً لمسئول أو كبير، ويفعله آخرون بزعم الأمر بمعروف أو النهي عن منكر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسـلم فيما رواه ابن عمر رضي الله عنهما «من أفرى الفرى أن يري عينه ما لم تر» وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من تحلّم بحلم لم يره كلّف أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرّون منه صبّ في أذنه الآنك يوم القيامة، ومن صوّر صورة عذّب وكلّف أن ينفخ فيها وليس بنافخ»
6- الكذب في المزاح؛ عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنّة لمن ترك المراء وإن كان محقّا، وببيت في وسط الجنّة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وببيت في أعلى الجنّة لمن حسن خلقه»
7- الكذب في البيع؛ فعن حكيم بن حزام- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا- أو قال: حتّى يتفرّقا؛ فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما»
8- كذب الحاكم – من ملك أو رئيس أو وزير أو وال أو أمير – على الرعية؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة ولا يزكّيهم (قال أبو معاوية: ولا ينظر إليهم) ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذّاب، وعائل مستكبر»
9- الكذب في الإخبار عن ثمن السلعة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم: رجل حلف على سلعة لقد أعطي بها أكثر ممّا أعطي وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال رجل مسلم، ورجل منع فضل مائه. فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك» وعن أبي ذرّ رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم» قال فقرأها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (ثلاث مرار). قال أبو ذرّ: خابوا وخسروا. من هم يا رسول الله؟ قال:” المسبل والمنّان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب»
10- نقل الحديث على أي وجه كان؛ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كفى بالمرء كذبا أن يحدّث بكلّ ما سمع»
دواعي الكذب وأسبابه
وقد ذكر الماورديّ من هذه الدّواعي أو الأسباب:
1- اجتلاب النّفع واستدفاع الضّرّ، فيرى الكذّاب أنّ الكذب أسلم وأغنم، فيرخّص لنفسه فيه اغترارا بالخدع، واستشفافا للطّمع.
2- أن يؤثر أن يكون حديثه مستعذبا، وكلامه مستظرفا، فلا يجد صدقا يعذب ولا حديثا يستظرف، فيستحلي الكذب الّذي ليست غرائزه معوزة، ولا طرائفه معجزة.
3- أن يقصد بالكذب التّشفّي من عدوّه فيسمه بقبائح يخترعها عليه، ويصفه بفضائح ينسبها إليه.
4- أن تكون دواعي الكذب قد ترادفت عليه حتّى ألفها، فصار الكذب له عادة، ونفسه إليه منقادة.
5- حبّ التّرؤّس، وذلك أنّ الكاذب يرى له فضلا على المخبر بما أعلمه، فهو يتشبّه بالعالم الفاضل في ذلك.
الرخصة في الكذب
قال النّوويّ: اعلم أنّ الكذب يجوز- وإن كان أصله محرّما- يجوز في بعض الأحوال بشروط مختصرها: أنّ الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكلّ مقصود محمود يمكن تحصيله بغير الكذب يحرم الكذب فيه، وإن لم يكن تحصيله إلّا بالكذب، ثمّ إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحا كان الكذب مباحا، وإن كان واجبا كان الكذب واجبا. فإذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتله، أو أخذ ماله، وأخفى ماله، وسئل إنسان عنه وجب الكذب بإخفائه. وكذا الوديعة … إلى أن قال والأحوط في هذا كلّه أن يورّي. ومعنى التّورية: أن يقصد بعبارته مقصودا صحيحا ليس هو كاذبا بالنّسبة إليه، وإن كان كاذبا في ظاهر اللّفظ، وبالنّسبة إلى ما يفهمه المخاطب، ولو ترك التّورية وأطلق عبارة الكذب فليس بحرام في هذا المجال.
واختر صديقك واصطفيه تفاخرا … إنّ القرين إلى المقارن ينسب
ودع الكذوب ولا يكن لك صاحبا … إنّ الكذوب لبئس خلّا يصحب