فإن الله تعالى لا يريد لهذه الأمة أن تكون أمة جدل تشغل نفسها بالكلام وتفريع المسائل والترف العلمي، وتضعف عن العمل وتفتر همتها عن الجهاد، فما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسـلم أنه زعيم لبيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً؛ ونهانا صلى الله عليه وسـلم عن قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال، لأنه يريد لهذه الأمة أن تكون عاملة بأوامر الله منتهية عن زواجره ساعية بالصلاح في الأرض، همها هداية الناس إلى سواء السبيل، ولذلك يستنكر ربنا سبحانه تشبه بعض المسلمين بقوم موسى في تعنتهم وسؤالهم البراهين والخوارق، وإعناتهم لرسولهم عليه السلام كلما أمرهم بأمر أو أبلغهم بتكليف، محذراً من النهاية التي صار إليها بنو إسرائيل وهي الضلال {ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل} وكانت أسئلة بني إسرائيل في طلب الخوارق وسؤال المعجزات {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} {لن نصبر على طعام واحد} {ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطاناً مبينا}
يقول سبحانه {أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل؟} كان كفار قريش مشابهين لليهود حين قالوا للنبي صلى الله عليه وسـلم {لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا. أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا. أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلا} قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة، عن كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء قبل كونها، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} أي: وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبين لكم، ولا تسألوا عن الشيء قبل كونه؛ فلعله أن يحرَّم من أجل تلك المسألة. ولهذا جاء في الصحيح: “إن أعظم المسلمين جُرْمًا من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته”. ولما سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلاً فإن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكتَ سكتَ على مثل ذلك؛ فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها. ثم أنزل الله حكم الملاعنة. ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال وفي صحيح مسلم: “ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه”. وهذا إنما قاله بعد ما أخبرهم أن الله كتب عليهم الحج. فقال رجل: أكُل عام يا رسول الله؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا. ثم قال، عليه السلام: “لا ولو قلت: نعم لوجَبَتْ، ولو وَجَبَتْ لما استطعتم”. ثم قال: “ذروني ما تركتكم” الحديث. وهكذا قال أنس بن مالك: نُهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع. وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا أبو كُرَيب، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن أبي سنان، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب، قال: إن كان ليأتي علَيَّ السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فأتهيب منه، وإن كنا لنتمنى الأعراب. وقال البزار: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا ابن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ما رأيت قوماً خيراً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثنْتَي عشرة مسألة، كلها في القرآن: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} و {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} يعني: هذا وأشباهه.
قال رجل: يا رسول الله، لو كانت كَفَّاراتنا كَفَّارات بني إسرائيل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “اللهم لا نبغيها -ثلاثًا- ما أعطاكم الله خَيْر مما أعطى بني إسرائيل، كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدُهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفَّارتها، فإن كفرها كانت له خزْيًا في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزيًا في الآخرة. فما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل”. قال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا}، وقال: “الصلوات الخمس من الجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن”. وقال: “من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كتبت سيئة واحدة، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة، وإن عملها كتبت له عشر أمثالها، ولا يهلك على الله إلا هالك”. فأنزل الله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ}
آداب المستفتي
- السؤال عما ينفع، وفي ذلك غضب النبي r على من سأله: من أبي؟ وعقوبة عمر لمن سأل عن المتشابه، وطرد مالك لمن سأل عن الاستواء ومن ذلك:
- قال المروزي قال أبو عبد الله: سألني رجل مرة عن يأجوج ومأجوج أمسلمون هم؟ فقلت له: أحكمت العلم حتى تسأل عن ذا؟
- وقال حنبل سمعت أبا عبد الله وسأله ابن الشافعي الذي ولي قضاء حلب قال له: يا أبا عبد الله ذراري المشركين أو المسلمين لا أدري أيهما سأل عنه؟ فصاح به أبو عبد الله وقال له: هذه مسائل أهل الزيغ مالك ولهذه المسائل؟ فسكت وانصرف ولم يعد إلى أبي عبد الله بعد ذلك حتى خرج.
- ونقل أحمد بن أصرم عن أحمد أنه سئل عن مسألة في اللعان؟ فقال: سل رحمك الله عما ابتليت به.
- قال مهنا: وسألت أحمد عن المريض في شهر رمضان يضعف عن الصوم قال: يفطر. قلت: يأكل؟ قال: نعم. قلت: ويجامع امرأته؟ قال: لا أدري. فأعدت عليه، فحوَّل وجهه عني
- وقال أحمد بن حيان القطيعي: دخلت على أبي عبد الله فقلت: أتوضأ بماء النورة؟ فقال: ما أحب ذلك, فقلت: أتوضأ بماء الباقلا؟ قال: ما أحب ذلك. قال: ثم قمت فتعلق بثوبي وقال: أيش تقول إذا دخلت المسجد؟ فسكت فقال: أيش تقول إذا خرجت من المسجد؟ فسكت فقال: اذهب فتعلم هذا.
- وروى أحمد من رواية ليث عن طاوس عن ابن عمر قال: لا تسألوا عما لم يكن؛ فإني سمعت عمر ينهى أن يسأل عما لم يكن. وروى أيضا بإسناد حسن عن ابن عباس قال: ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله r ما سألوا إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن وما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم.
- وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة مرفوعا {كان ينهى عن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال وفي لفظ إن الله كره لكم ذلك} متفق عليه.
- وفيهما عن سعد مرفوعا قال {أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته}. قال في شرح مسلم قال الخطابي وغيره: هذا الحديث فيمن سأل تكلفاً أو تعنتاً عما لا حاجة به إليه؛ فأما من سأل لضرورة بأن وقعت له مسألة فسأل عنها؛ فلا إثم عليه ولا يحنث لقوله تعالى:{فاسألوا أهل الذكر}
- وقال عكرمة قال لي ابن عباس انطلق فأفت الناس فمن سألك عما يعنيه فأفته, ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته فإنك تطرح عن نفسك ثلثي مؤنة الناس. ورواه الحاكم في تاريخه وفيه انطلق فأفت الناس وأنا لك عون قال قلت لو أن هذا الناس مثلهم مرتين لأفتيتهم.
2 . أن يستفتي قلبه؛ بمعنى أن يتقي الله ويراقبه في استفتائه ولا يجعل من الفتوى ذريعة إلى أمر يعلم من قرارة نفسه أنه غير جائز شرعاً وفي الحديث {إنكم تختصمون إلي..}
- أن يتبين الفتوى بكل قيودها وشروطها فلا يخطف الجواب خطفاً قبل أن يتأمل أوائله وأواخره
- أن يسأل من كان موثوقاً في دينه وعلمه ولا ينتقي من المذاهب أشهاها إلى نفسه وأطيبها عنده
- أن يتخير الوقت المناسب للسؤال ولا يستعجل المفتي في الجواب بل يصبر ويتريث
- أن يبتعد عن الخوض في المعضلات الفرضية التي لم تقع ولا يشغل بها الناس
- قال الحسن البصري: شرار عباد الله ينتقون شرار المسائل يعمون بها عباد الله
- وقال مالك قال رجل للشعبي إني خبأت لك مسائل, فقال: أخبئها لإبليس حتى تلقاه فتسأله عنها
- وقال مالك: قال بعضهم: ما تعلمت العلم إلا لنفسي؛ ما تعلمته ليحتاج إلي الناس
- وذكر ابن عبد البر أن صاحب الروم كتب إلى معاوية يسأله عن أفضل الكلام وما هو؟ والثاني والثالث والرابع، وكتب إليه يسأله عن أكرم الخلق على الله U وعن أكرم الإماء على الله، وعن أربعة من الخلق لم يركضوا في رحم! وعن قبر سار بصاحبه! وعن المجرة وعن القوس، وعن مكان طلعت فيه الشمس لم تطلع فيه قبل ذلك ولا بعده. فلما قرأ معاوية الكتاب قال: أخزاه الله وما علمي بما ها هنا؟ قيل: اكتب إلى ابن عباس. فكتب إليه يسأله عن ذلك فكتب إليه ابن عباس: أفضل الكلام لا إله إلا الله كلمة الإخلاص لا عمل إلا بها, والتي تليها سبحان الله وبحمده صلاة الخلق. والتي تليها الحمد لله كلمة الشكر, والتي تليها الله أكبر فاتحة الصلوات والركوع والسجود, وأكرم الخلق على الله آدم u. وأكرم الإماء على الله مريم عليها السلام, وأما الأربعة الذين لم يركضوا في رحم فآدم وحواء والكبش الذي فدي به إسماعيل وعصا موسى حيث ألقاها فصارت ثعبانا مبينا, وأما القبر الذي سار بصاحبه فهو الحوت الذي التقم يونس, وأما المجرة فباب السماء, وأما القوس فإنها أمان لأهل الأرض من الغرق بعد نوح, وأما المكان الذي طلعت فيه الشمس ولم تطلع فيه قبله ولا بعده فالمكان الذي انفجر من البحر لبني إسرائيل مع موسى عليه السلام فلما قدم عليه الكتاب أرسله إلى ملك الروم فقال: لقد علمت أن معاوية لم يكن له بهذا علم وما أصاب هذا إلا رجل من أهل بيت النبوة. كذا ذكر ابن عبد البر هذا الأثر, وبعضه صحيح وبعضه باطل وما ذكره في آدم ومريم فبعضه الله به وبغيره أعلم.
- وبعث ملك الروم إلى معاوية بقارورة فقال ابعث لي فيها من كل شيء فبعث إلى ابن عباس فقال: تملأ ماء!! فلما ورد به على ملك الروم قال له أخوه: ما أهداه!! فقيل لابن عباس: كيف اخترت ذلك؟ قال: لقوله تعالى )وجعلنا من الماء كل شيء حي( والله أعلم.
- وفي الصحيحين أن عبد الله بن مسعود سأله رجل كيف تقرأ هذا الحرف ألفا أم ياء من ماء غير آسن أو ياسن؟ فقال عبد الله: وكل القرآن قد أحصيت غير هذا الحرف؟ قال: إني لأقرأ المفصل في ركعة فقال: هذاً كهذ الشعر إن قوماً يقرءون القرآن لا يتجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع وقال في شرح مسلم هذا محمول على أنه فهم منه أنه غير مسترشد في سؤاله, إذ لو كان مسترشدا لوجب جوابه وهذا ليس بجواب.
- وفي البخاري عن يوسف بن ماهك أن رجلاً عراقياً قال لعائشة: أي الكفن خير؟ قالت: ويحك وما يضرك؟ قال: يا أم المؤمنين أريني مصحفك, قالت: لم؟ قال: لعلي أؤلف القرآن عليه فإنه يقرأ غير مؤلف, قالت:وما يضرك أية آية قرأت قبل؟ إلى أن قال: فأخرجت له المصحف فأملت عليه آي السور.
- أن يحذر من أن يكون غرضه من السؤال التعالم أو إظهار عجز المفتي أو اختبار معلوماته
- أن يتجنب إضجار المفتي بكثرة الإلحاح والتفريع والإيرادات وقول: إن فلاناً خالف قوله قولك