1- المساجد بيوت الله I ولمكانتها وفضلها ذكرها الله سبحانه في ثمان وعشرين آية من كتابه الكريم، وأضافها إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم، فقال سبحانه )وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا( ورغَّب سبحانه في بنائها وعمارتها وأخبر أن عُمَّارها المؤمنون بالله واليوم الآخر؛ قال تعالى )إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ( فالمساجد دور عبادة وذكر وتضرع وخضوع لله سبحانه، ومواضع تسبيح، وابتهال وتذلل بين يدي الله سبحانه، ورغبة فيما عنده من الأجر الكبير، ومقام تهجد وترتيل لكتاب الله وحفظ له، وغوص وراء معانيه، كما أخبر سبحانه أن تعطيل المسجد، ومنع الناس من ذكر الله فيه ظلم، قال تعالى )وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ * لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ( وجعل القرآن الكريم الدفاع عن المساجد وحمايتها مطلباً من مطالب هذا الدين يشرع لأجله القتال في سبيله، قال تعالى )وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا( قال القرطبي رحمه الله تعالى عن هذه الآية: أي لولا ما شرعه الله سبحانه وتعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء لاستولى أهل الشرك وعطَّلوا ما يبنيه أرباب الديانات من مواضع العبادات، ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة. وليس هذا بغريب فالمساجد أحب البقاع إلى الله، وهي قلعة الإيمان ومنطلق إعلان التوحيد لله سبحانه وتعالى، فهي المدرسة التي خرَّجت الجيل الأول، ولا زالت بحمد الله تخرِّج الأجيال، وهي ميدان العلم والشورى والتعارف والتآلف، إليها يرجع المسافر أول ما يصل إلى بلده شاكراً الله سلامة العودة مستفتحاً أعماله بعد العودة بالصلاة في المسجد إشعاراً بأهميته وتقديمه على المنزل تذكيراً بنعمة الله سبحانه وتوثيقاً للرابطة القوية للمسجد، ولذا تجد أن النبي e أول عمل قام به بعد هجرته من مكة إلى المدينة بناء المسجد المسمى مسجد قباء.
2ـ رتب الله I فضلاً عظيماً لمن بنى المسجد أو شارك فيه؛ فقال I )إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ( الشاهد: قوله تعالى )إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّه( وجه الدلالة: أن قوله )يعمر( دال على العمارة بالبناء، كما دل على العمارة بالعبادة؛ لأن باني المسجد يتقرب إلى الله تعالى ببنائه، فهو يعمر المسجد طاعة لله سبحانه وتعالى، ويستفاد من قوله تعالى )وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ # لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(
3ـ ثبتت أحاديث في فضل بناء المساجد، منها:
- عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول {من بنى لله مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة} وفي رواية {بنى الله له في الجنة مثله} متفق عليه
- عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {من بنى لله مسجداً صغيراً كان أو كبيراً بنى الله له بيتاً في الجنة} رواه الترمذي، وهو حديث حسن
- عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {من بنى لله مسجداً ولو مفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة} {ولو كمفحص قطاة}[1] رواه ابن أبي شيبة، وروي عن ابن عباس وعائشة مثله
- ذكر القرطبي – رحمه الله – أن ابن عباس ومجاهداً والحسن قالوا: إن هذه المساجد تضيء لأهل السماء، كما تضيء النجوم لأهل الأرض
- وكان السلف الصالح رحمهم الله إذا فتحوا بلاداً بنوا فيها المساجد، وتركوا فيها من يعلِّم الناس الخير، ويؤدي رسالة هذه المساجد، باعتبارها مركزاً إسلامياً لتفقيه المسلمين في شؤون دنياهم وأخرتهم
4- في تفسير قوله تعالى )إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله( قال الألوسي: والمراد بالعمارة ما يعم مرمة ما استرمَّ منها وقمها، وتنظيفها وتزيينها بالفرش، لا على وجه يشغل قلب المصلي عن الحضور، وتنويرها بالسرج ولو لم يكن هناك من يستضيء بها، وإدامة العبادة والذكر ودراسة العلوم الشرعية فيها ونحو ذلك، وصيانتها مما لم تُبنَ له في نظر الشارع كحديث الدنيا، ومن ذلك الغناء على مآذنها كما هو معتاد الناس اليوم لا سيما بالأبيات التي غالبها هُجْر من القول.[2]
- وفي التفسير الوسيط: والمراد بعمارة المساجد هنا: ما يشمل إقامة العبادة فيها، وإصلاح بنائها وخدمتها، ونظافتها، واحترامها، وصيانتها عن كل مالا يتناسب مع الغرض الذي بنيت من أجله.[3]
- وقال الجزائري: هؤلاء هم الجديرون بعمارة المساجد بالصلاة والذكر والتعلم للعلم الشرعي فيها زيادة على بنائها وتطهيرها وصيانتها هؤلاء جديرون بالهداية لكل كما وخير يشهد لهذا قوله تعالى )فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين( إلى ما هو الحق والصواب، وإلى سبيل النجاة من النار والفوز بالجنة.[4]
وانتصرت غزة
انتهى العدوان الإسرائيلي البغيض على قطاع غزة بعد واحدٍ وخمسين يوماً ضروساً، لم تتوقف خلالها آلة الحرب الصهيونية عن القصف من البر والبحر والجو، قتلت وجرحت خلالها الآلاف، ودمرت وخربت مئات البيوت، وأنهت عدوانها بغاراتٍ قاسية على الأبراج السكنية العالية، فسوت بعضها بالأرض، وأخرى بقيت صامدةً شامخةً عصيةً على الانهيار، رغم أن الدمار قد طال أطرافها، وهدد أساسها، وخرب بنيانها. أما وقد وضعت الحرب أوزارها، وسكتت مدافعها، وغابت طائراتها، وانسحبت الدبابات والجنود الذين كانوا يحيطون بقطاع غزة، ويهددون كاذبين من حينٍ إلى آخر، بنيتهم خوض حربٍ برية، قد ذاقوا مرارتها، وخبروا صعوبتها، وعرفوا استحالة النصر فيها، فإننا نستطيع القول، بكل ثقةٍ وثباتٍ، ويقين وتأكيدٍ، أن العدو لم ينتصر في عدوانه الذي سماه الجرف الصامد، ولم يتمكن من تحقيق أهدافه، ولا الوصول إلى غاياته، رغم أنه قتل ودمر وخرب، إلا أن شيئاً مما أعلنه لم يتحقق. أهداف العدو كانت واضحة، وهي كبيرة وعديدة، وقد أعلنت عنها الحكومة وقيادة الجيش، إذ أنهم جردوا حملتهم العدوانية على قطاع غزة، انتقاماً من المقاومة التي نفذت عملية خطف المستوطنين الثلاثة، فأرادوا تجريد المقاومة من سلاحها، لتأمين المستوطنين ومدن الغلاف، ومنع المقاومة من إطلاق الصواريخ عليها. كما أرادت تدمير الأنفاق التي استطاعت المقاومة من خلالها أن تنفذ إلى الجانب الآخر من الحدود، وتقوم بعملياتٍ عسكرية خلف خطوط النار، كبدته خسائر حقيقية، وأضرت بهيبته العسكرية، وأضعفت الروح المعنوية لدى جنوده ومستوطنيه. كما خطط العدو لاغتيال القادة، وتصفية المسؤولين العسكريين والسياسيين، وقد اعتبرهم جميعاً أهدافاً مشروعة، وأنه سيلاحقهم في كل مكان، وسيقتلهم أينما وجدهم، وأعلن بعض قادة العدو أن حياة قادة المقاومة بموازاة جنوده الأسرى أو القتلى، وأنهم سيدفعون الثمن غالياً لأسرهم الجنود، أو احتجازهم لجثتهم. كما تطلع العدو إلى زرع خلافٍ بين المقاومة والشعب، ونزع الثقة بينهما، وإنهاء حالة التلاحم العظيمة التي بدت بينهما، ودفع الشعب للانقلاب على المقاومة، وعصيان أوامرها، والثورة عليها، لتصبح المقاومة معزولة عن محيطها، ومحرومة من حاضنتها، مما يضطرها للخضوع والقبول، والتنازل والاستسلام. لم يحقق العدو شيئاً من أهدافه المعلنة والسرية، فلا سلاحاً نزع، ولا صواريخ منع، ولا أنفاقاً هدم، ولا قادةً صفى، ولا منابع جفف، ولا خلافاً زرع، ولا أسرى حرر، ولا هيبةً لجيشه استعاد، ولا شريطاً عازلاً أبقى، ولا تعهداً من المجتمع الدول حصل، وكل ما قام به أنه قتل وجرح آلاف المدنيين، ومنهم مئات النساء والأطفال والمسنين، ودمر مساكن المواطنين وخرب بيوتهم، وهذا كله لا يعد نصراً، ولا قيمة له في ميزان الحرب، لأن الانتصار في المعارك نتيجته سياسية، وثمرته وقائع جديدة على الأرض، وهو ما لم يتحقق له، وعليه قطعاً فإن العدو لم ينتصر على المقاومة الفلسطينية. أما المقاومة الفلسطينية فقد تمكنت من الصمود في وجه جيشه القاتل، وتحدَّت آلته الحربية، وأفشلت كل أهدافه، ومنعته من تحقيق شيءٍ مما كان يحلم به، ولكنها إلى جانب ذلك فقد نجحت في تحقيق وحدةٍ فلسطينيةٍ عزَّ الوصول إليها في غير هذا الظرف، وتمكنت من خوض معركةٍ عسكرية بألوية وكتائب موحدة، تنسق فيما بينها، وتتعاون على تحقيق الأهداف. واستطاعت المقاومة أن تجمع شتات الشعب، وأن توحد كلمته، وترص صفوفه، حتى غدا الشعب هو الجبهة الأقوى، والجدار الأكثر تحصيناً للمقاومة، ولم يقتصر التلاحم الشعبي على الفلسطينيين في قطاع غزة، بل شمل الفلسطينيين في كل الوطن والشتات، فوحدتهم جميعاً تحت راية المقاومة، التي اعتزوا بها وفخروا، وجعلت قوى المقاومة والسلطة الفلسطينية فريقاً واحداً، يتفقون على الهدف، ويتحدون في سبيل الوصول إليه. كما نجحت المقاومة في إثبات خيرية وأفضلية المقاومة المسلحة، وأنها الخيار الأنسب لتحقيق الأهداف، وأثبتت أن الشعب الفلسطيني قادر على خوض الحروب، والانتصار في المعارك، وأن المقاوم الفلسطيني صنديدٌ وعنيد، وقويٌ وجبار، وينجح في إنجاز المهمات، وتحقيق الأهداف، والوصول إلى الغايات، بل بينت أيضاً أن العدو الصهيوني مهزوزٌ ضعيف، وأن جيشه قد يهزم ويرد على أعقابه، ويعجز عن تحقيق أهدافه، فأعادت المقاومة للشعب الثقة بقواها الحية، وقدراتها المكينة والمخبوءة. كما تمكنت المقاومة الفلسطينية من زعزعة الثقة بين الكيان الصهيوني وحلفائه، الذين ساءهم سلوكه واعتداءه، وأغضبهم قتل الأطفال والنساء، وتدمير البيوت والمساجد والمدارس والمؤسسات والأبراج السكنية، وقد أحرجهم بأفعاله، ما دفع بعضهم للدفاع عن أنفسهم، والبراءة من جرائمه. ومن قبل نجحت المقاومة في نزع ثقة المواطن الإسرائيلي بحكومته، وعدم الاطمئنان إلى قدرة جيشه، ولا الركون إلى تطمينات وتأكيدات قادته، بل إنهم أصبحوا لا يصدقون قيادتهم العسكرية والسياسية، وباتوا يستقون الأخبار، ويعرفون الحقائق من مصادر المقاومة الفلسطينية التي لا تكذب ولا تزور. إلا أن الخلاف لم يقتصر على الشعب تجاه قيادته، بل إن المشاكل قد دبت بين أقطاب الحكومة وقيادة الجيش، كلٌ يتهم الآخر، ويدعي أنه السبب وراء الفشل والعجز، وما زالت الخلافات تتفاقم وتكبر، ومن المؤكد أن الأيام القادمة ستحمل أخبار التحقيقات والمحاكمات والمسائلات، وسيأتي دور صناديق الانتخاب التي ستحاسب وتعاقب، وستقصي وتؤدب. المقاومة في نهاية العدوان أجبرت العدو الإسرائيلي على الجلوس على طاولة المفاوضات، والعودة إلى القاهرة، والقبول بالكثير من الشروط الفلسطينية، ومنها رفع الحصار وفتح المعابر، وتسهيل تدفق الأموال والمساعدات، والمباشرة في إعادة إعمار القطاع، وغير ذلك من الشروط التي أعلنت عنها الورقة المصرية التي على أساسها تم الاتفاق على وقف إطلاق النار. ربما نخطئ كثيراً إذا قلنا أن العدو لم ينتصر، لأن الحقيقة الواضحة القاطعة تقول أنه هزم واندحر، وتراجع وانكسر، واضطر لتقديم تنازلات والتراجع عن سياسات، كما نظلم المقاومة الفلسطينية وشعبها عندما نقول بأنها لم تنكسر، لأن الحقيقة أنها انتصرت وفازت، وحققت الكثير مما كانت تحلم به وتتمنى، وأسست لما بعد هذا الانتصار، ووضعت الشروط اللازمة لانتصاراتٍ أخرى في فلسطين وعلى أي أرضٍ عربيةٍ أخرى.
من المبشرات
قال رسول الله صلى الله عليه وسـلم “لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك، قالوا: وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس” رواه عبد الله بن الإمام أحمد في المسند
[1] مفحص القطاة: هو الموضع الذي تفحص التراب عنه: أي تكشفه وتنحيه لتبيض فيه. انظر: مختار الصحاح ص492، وأساس البلاغة ص701
[2] روح المعاني 7/181
[3] الوسيط 1/1906
[4] أيسر التفاسير 2/66