1/ لقد انسلخ عام كامل من أعمارنا.. انسلخ بثوانيه ودقائقه وساعاته وأيامه.. فماذا قدمنا فيه من أعمال صالحة ندَّخرها ليوم {تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد}؟! ماذا قدمنا فيه كأفراد وكشعوب، ليوم {كألف سنة مما تعدون}؟!
إن الجواب على هذا السؤال مخجل ومخجل جداً، ولكن لابد من الاعتراف بالأمر الواقع، فالواحد منا يخرج من بيته في الصباح الباكر، ويمضي سحابة يومه في عمل قلما تنتفع به الدعوة الإسلامية، ويعود إلى بيته آخر النهار وقد أضناه التعب فيتناول طعام الغداء مع أهله ويرتاح قليلاً ثم يمضي بقية اليوم وأول الليل في رعاية شؤون البيت والولد، ثم ينام، ثم يعود في الصباح إلى عمله وهكذا.. إنها – والحق يقال – حياة كالتي وصفها الحطيئة في هجائه للزبرقان بن بدر:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ ولا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ. وأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ. ولَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إذَا جَاءَ أَجَلُهَا واللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: » إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك « رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن علمه ما فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه) والسائل جلّ وعلا يعرف خفايا أمورنا، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ولا خَمْسَةٍ إلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ ولا أَدْنَى مِن ذَلِكَ ولا أَكْثَرَ إلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
2/ ثلاثة أحداث مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في أقل من أربعة أشهر، كادت تعصف بهم وبالدعوة الإسلامية، وكانت في نظر المرجفين ومحدودي الرؤية، أحداثاً مؤذنة بنهاية دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وانتصار معسكر قريش، على معسكر الإيمان.
مات أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ثم ماتت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا كان أثر وفاتهما؟
قال ابن اسحاق: ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد، فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب، بهلاك خديجة، وكانت له معيناً في دعوته إلى الإسلام. وبهُلك عمه أبي طالب، وكان له عضداً وحرزاً في أمره، ومَنَعَة وناصراً على قومه، فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه تراباً!! وقال ابن كثير: وعندي أن غالب ما روي من طرحهم سلا الجزور بين كتفيه وهو يصلي…، وكذلك ما أخبر به عبد الله بن عمرو بن العاص من خنقهم له عليه السلام خنقاً شديد حتى حال دونه أبو بكر الصديق، وكذلك عزم أبي جهل لعنه الله على أن يطأ على عنقه وهو يصلي فحيل بينه وبين ذلك، مما أشبه ذلك، كان بعد وفاة أبي طالب. نعم لقد فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم عضده وحاميه من قريش، فاجترأت عليه، وزادت في إيذائه؛ حتى روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب).
وفقد صلى الله عليه وسلم أول من آمن به أعني من النساء، وسلوته وملاذه، وأم أولاده خديجة رضي الله عنها. روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: لقد آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني الله ولدها وحرمني ولد غيرها.
إنها أحداث تهز الكيان البشري، وتزلزل الأرض من تحت أقدام الضعفاء، أما من قوي إيمانه بالله ويقينه بوعده ونصره، فلا تزيده هذه الأحداث إلا تصميماً وعزماً على مواصلة الطريق.
3/ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة بعد أن أحس أنها لم تعد بيئة صالحة للدعوة خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام وإلى أن يكونوا أنصاره وحماته؛ وكان ذلك بعد وفاة خديجة بقليل فماذا كان جوابهم؟ لقد قابلوا الرسول صلى الله عليه وسلم أسوأ مقابلة، وردوا عليه أقبح ردٍ، وعاملوه بما لم تعامله به قريش. لقد رفضوا الداعي صلى الله عليه وسلم والدعوة، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه، وفراق دينه، حتى إنه لم يدخل مكة إلا بجوار المطعم بن عدي.
4/ إذاً ما العمل؟ ذهب السند الداخلي؛ الذي كان يمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالراحة والطمأنينة، والمشاركة والمواساة، وهلك المدافع أمام قومه، الذي كان يوفر له مساحة يتحرك فيها لدعوة الناس وإبلاغ رسالة الله. وسُدَ أقرب منفذ للدعوة يمكن أن تنتقل إليه، وتنطلق منه… هل تنتهي الدعوة؟ هل يقف الداعية؟ هل كانت هذه الأحداث إيذاناً بانتصار الكفر؟ لا وكلا. بل كانت علامة قرب انتصار الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته، وفتح أبواب أكبر، وآفاق أوسع {فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا} قد ضاقت مكة بالدعوة، ورفضت الطائف استقبالها، وأخذت بعض القبائل التي تأتي في الموسم تساوم عليها.
5/ لقد ضاقت الأرض، ففتحت السماء، لم تتأخر البشارة بهذا النصر كثيراً ففي ذي القعدة من السنة العاشرة، يسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، فيؤم هناك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم يعرج به إلى السموات السبع. يقول المباركفوري في بيان هذه البشارة: الإسراء إنما وقع إلى بيت المقدس لأن اليهود سيعزلون عن منصب قيادة الأمة الإنسانية لما ارتكبوا من الجرائم التي لم يبق معها مجال لبقائهم على هذا المنصب، وأن الله سينقل هذا المنصب فعلاً إلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ويجمع له مركزي الدعوة الإبراهيمية كليهما.
ولكن كيف تنتقل هذه القيادة، والرسول يطوف في جبال مكة مطروداً بين الناس؟ هذا السؤال يكشف الغطاء عن حقيقة أخرى، وهي أن طوراً من هذه الدعوة الإسلامية قد أوشك إلى النهاية والتمام وسيبدأ طور آخر يختلف عن الأول في مجراه، ولذلك نرى بعض الآيات تشتمل على إنذار سافر ووعيد شديد إلى المشركين {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها، ففسقوا فيها فحق عليها القول، فدمرناها تدميراْ}
ثم لم يتأخر النصر الموعود، فبعد ثلاث سنوات فقط، من تلك الأحداث المحزنة؛ التي بلغت قمتها بالمؤامرة الدنيئة لاغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك ولد الفجر وظهرت تباشير النصر، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة ليؤسس هناك دولة الإسلام، ويعلن انتصار الإيمان، وهزيمة الكفر، {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}. إن أحداث عام الحزن بما فيها من ألم ومرارة، تغرس في قلوب الأتباع روح التفاؤل والإيمان، والتطلع إلى غدٍ مشرق، وقطع العلائق بالخلائق، والالتجاء إلى رب الأرض والسماء، والاعتماد عليه وحده.
6/ {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} ورغم كل المؤامرات المتوالية التي يحبكها أعداء الإسلام ضد الدعوة والدعاة في كثير من البلدان والإساءة إليهم بالاتهامات الباطلة من دعوى الإرهاب والتطرف بمناسبة وبغير مناسبة، محاولة منهم لإجهاض الدعوة والإساءة للدعاة، وهيهات أن ينجحوا مادام الدعاة مستمسكين بالوحيين وسائرين على سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم وليثقوا كل الثقة بنصر الله الذي لا يتأخر عن عباده الصالحين والخسارة والخزي لأعداء الدين، فإلى الأمام بعزم لا يلين {اصبروا وصابروا ورابطوا}
الخطبة الثانية
عباد الله: إن إخواناً لنا قد ابتلاهم الله تعالى {بالسنين ونقصٍ من الثمرات} {ابتلاهم الله بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات} تهدمت بيوتهم، وذهبت أموالهم، وجرفت السيول زروعهم، وصاروا بلا مأوى ولا مال، يعانون حرارة الشمس بالنهار، وبرودة الطقس بالليل، قد عضهم الجوع بنابه، ينتظرون إخوانهم المسلمين وما يجودون به، فالله الله فيهم لا تضيعوهم ولا تخذلوهم، ابذلوا لهم ما تستطيعون؛ فإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب، ومن نفَّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة {والله لا يضيع أجر المحسنين} وفروا المأوى لمن لا مأوى له، وابذلوا الطعام لمن احتاج إليه؛ فخير الإسلام إطعام الطعام وأن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف، وما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفا، وما نقصت صدقة من مال، ومن تصدق بعدل تمرة من كسب طيب؛ فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم}
والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه: يشهد لهذا قوله عليه الصلاة والسلام “أحب العمل إلى الله سرور تدخله على مسلم، تطرد عنه جوعاً، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، ولأن أمشي في حاجة أخي المسلم أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهرا”