الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون. هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون. وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له يحق الحق بكلماته ولو كره المجرمون. وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا وعظيمنا وقدوتنا محمداً رسول الله الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير والبشير النذير، أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين عزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون. أما بعد.
1- فشر ما تبتلى به أمة من الأمم أن تعمد إلى كتاب الله المنزل على نبيها فتحرِّفه لفظاً أو معنى؛ لفظاً بالزيادة فيه أو النقص منه أو التقديم أو التأخير، وهذا الذي نعاه الله على طائفة من أهل الكتاب حين قال سبحانه {فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم} وقال تعالى {وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون} وقد توعد الله هذا الصنف بالويل حين قال {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون} ومنهم من يحرف معاني الكتاب المنزل فيصرف الألفاظ عن المعاني التي أرادها الله تعالى إلى معانٍ مغايرة ومفاهيم مباينة، وهذا الذي ذكره الله تعالى مراراً عن أهل الكتاب فقال سبحانه {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} وقال سبحانه {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وقال سبحانه {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
2- وها هنا في سورة البقرة قوله تعالى {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم} هَذَا اسْتِفْهَامٌ فِيهِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ، كَأَنَّهُ أَيْأَسَهُمْ مِنْ إِيمَانِ هَذِهِ الْفِرْقَةِ مِنَ الْيَهُودِ، أَيْ إِنْ كَفَرُوا فَلَهُمْ سَابِقَةٌ فِي ذَلِكَ. وَالْخِطَابُ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانَ لَهُمْ حِرْصٌ عَلَى إِسْلَامِ الْيَهُودِ لِلْحِلْفِ وَالْجِوَارِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ. {وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه} هُمْ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ التَّوْرَاةَ فَيَجْعَلُونَ الْحَرَامَ حَلَالًا وَالْحَلَالَ حَرَامًا اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ.{مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} أَيْ عَرَفُوهُ وَعَلِمُوهُ. وَهَذَا تَوْبِيخٌ لَهُمْ، أَيْ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ قَدْ سَلَفَتْ لِآبَائِهِمْ أَفَاعِيلُ سُوءٍ وَعِنَادٍ، فَهَؤُلَاءِ عَلَى ذَلِكَ السَّنَنِ، فَكَيْفَ تَطْمَعُونَ فِي إِيمَانِهِمْ!. وَدَلَّ هَذَا الْكَلَامُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْعَالِمَ بِالْحَقِّ الْمُعَانِدِ فِيهِ بَعِيدٌ مِنَ الرُّشْدِ، لِأَنَّهُ عَلِمَ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَلَمْ ينهه ذلك عن عناده.
4- قد كان هؤلاء اليهود أصحاب دعاوى باطلة وأماني عاطلة وافتراء كاذب يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير؛ فلقد زعموا أن لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة بحكم ما لهم من المكانة الخاصة عند الله! فلقن الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم قولهم هذا: «قُلْ: أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ؟ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟» .. وكانوا إذا دعوا إلى الإسلام «قالُوا: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا، وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ» .. فلقن الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يفضح دعواهم أنهم يؤمنون بما أنزل إليهم: «قُلْ: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ؟ وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ؟ وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا. قالُوا: سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ. قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ!» ..
وكانوا يدَّعون أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس. فلقن الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتحداهم بدعوتهم إلى المباهلة أي أن يجتمع الفريقان: هم والمسلمون، ثم يدعون الله أن يميت الكاذب: «قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .. وقرر أنهم لن يتمنوه أبداً- وهذا ما حدث. فقد نكصوا عن المباهلة لعلمهم أنهم كاذبون فيما يدعون!
5- إن الله تعالى لا يحب لنا معشر المؤمنين أن نقع فيما وقعت فيه يهود؛ فلا يجوز لنا أن نحرِّف كتاب الله تعالى بل علينا حفظ نصوصه وإقامة حروفه وأن نتلوه حق تلاوته ونرتله ترتيلا، وأن نقتدي برسول الله صلى الله عليه وسـلم الذي أنزل الله عليه {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه؛ فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه} وواجب علينا كذلك أن نحذر من تحريف معانيه، ومن التحريف الذي وقعت فيه طوائف من الأمة:
- ما كان من الخوارج كلاب النار حين عمدوا إلى آيات نزلت في الكافرين فجعلوها في المؤمنين، واستباحوا بذلك دماء معصومة وولغوا فيها فطغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد
- ما كان من الروافض الضالين حين عمدوا إلى آيات تأولوها على غير ما نزلت؛ فزعموا أن الشجرة الملعونة في القرآن هي أم المؤمنين عائشة، وأن البحرين هما الحسن والحسين، إلى غير ذلك من الأباطيل
- ما كان من طوائف الغلاة المعاصرين حين كفَّروا عموم المسلمين استدلالاً بعمومات لا تسلم من معارض
- ما كان من قوم انحرفوا عن الجادة فجعلوا كل أمر بالمعروف ونهي عن المنكر وكل نصيحة للحاكم خروجاً يستوجب الوعيد
- ما كان من آخرين استجابوا لضغط الواقع فولغوا في علاقات مشبوهة مع اليهود والنصارى أتاحت لهم حضور مؤتمرات سموها مؤتمرات الحوار، نطقوا فيها بالباطل وشهدوا بالزور حين زعموا الإيمان لأهل الكتاب الذين وصمهم الله بالكفر