خطب الجمعة

تداعي الأمم

خطبة يوم الجمعة 4/5/1437 الموافق 12/2/2016

1- في رمضان من السنة الثانية من الهجرة بلغ رسول الله صلى الله علـيه وسلم خبر عودة قافلة لقريش من تجارة لها في بلاد الشام؛ فانتدب أصحابه رضي الله عنهم للخروج إليها لعلها تكون نفلاً من الله لهم، وكان من أمر الله ما كان حيث نصر الله الإسلام وأهله وخذل الشرك وأهله؛ وامتن على عباده بذلك فقال {واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات} وفي السنة الخامسة من الهجرة تجمع الكفرة الفجرة من قريش والأحابيش وبني فزارة وبني تميم، مع معاونة اليهود لهم وكان الحال كما قال ربنا جل جلالـه {إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا} وأخذ النبي صلى الله علـيه وسلم وأصحابه بالأسباب المادية من تهيئة الجيش وحفر الخندق وإعداد ما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل، ثم جاء النصر من الله من حيث لم يحتسبوا فقال جل من قائل {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا}

2- وما أشبه الليلة بالبارحة؛ فقد تجمع أعداء الله من كل حدب وصوب في تجمعات سياسية وتحالفات عسكرية ودعاية عالمية تتفق جميعها على هدف واحد: هو القضاء على المد الإسلامي المتصاعد في جميع أرجاء الأرض، وذلك تحت مسمى القضاء على الأصولية والتطرف والإرهاب.. ساءهم أن ينتشر الإسلام وتعلو رايته في المشارق والمغارب، ساءهم أن يدخل الناس في دين الله أفواجا، ساءهم أن يفيء المسلمون إلى ربهم وينادوا بتحكيم شريعتهم، ساءهم أن تثور الشعوب المسلمة على الحكام الخونة عملاء الصليب واليهود، إن هؤلاء يتفقون على هدف واحد وإن اختلفت مللهم ومناهجهم ومصالحهم… يتفقون على ذلك الهدف وإن اختلفت نظرتهم وخططهم في الاستئصال والاجتثاث أو التذويب والاحتواء والمسخ. فتجد حربا تشن ضد المسلمين في بورما ويباد مسلمو الروهينجا من قبل البوذيين الوثنيين تحت سمع العالم وبصره ولا بواكي لهم، ويتسلط على المسلمين في إريتريا حاكم فاجر ظالم صليبي ماكر يسوم المسلمين سوء العذاب ولا بواكي لهم، وكذلك يفعل بالمسلمين الأوجور في التركستان الشرقية على يد الصينيين الملاحدة، ومثله يفعل بالمسلمين في فلسطين على يد اليهود الذين غضب الله عليهم ولعنهم، وأما أعداء الله الرافضة فإن لهم اليد الطولى في هذا المكر الكبار في زماننا حيث يبيدون أهل السنة في إيران والعراق وسوريا تحت سمع العالم وبصره، بل ويُعقد الحلف غير المقدس بين الصليبية العالمية والرافضة، مستعيدين سيرة ابن العلقمي ونصير الكفر الطوسي وغيرهم من خونة الرافضة وغداريهم، وعدو الله حاكم روسيا لا يبالي بأن يضحك ممن صدقوه بأنه قادم إلى بلاد الشام من أجل حرب الإرهاب؛ فيصب حممه ونيرانه على المسلمين في حلب، لا ينجو منها طفل رضيع ولا شيخ كبير ولا امرأة عجوز، ولا يسلم من نيرانه مشفى ولا ملجأ ولا متجر، وحق للقائل أن يقول:

إني تذكرت والذكرى مؤرقة مجداً تليداً بأيدينا أضعناه

ويح العروبة كان الكون مسرحها فأصبحت تتوارى في زواياه

أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه

كم صرفتنا يد كنا نصرفها وبات يحكمنا شعب ملكناه

كنا أسوداً ملوك الأرض ترهبنا والآن أصبح فأر الدار نخشاه

يا من رأى عمر تكسوه بردته والزيت ادم له والكوخ مأواه

يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من بأسه وملوك الروم تخشاه

استرشد الغرب بالماضي فأرشده ونحن كان لنا ماض نسيناه

إنا مشينا وراء الغرب نقتبس من ضيائه فأصابتنا شظاياه

بالله سل خلف بحر الروم عن عرب بالأمس كانوا هنا ما بالهم تاهوا

وانزل دمشق وخاطب صخر مسجدها عمن بناه لعل الصخر ينعاه

وطف ببغداد وابحث في مقابرها عل امرءاً من بني العباس تلقاه

أين الرشيد وقد طاف الغمام به فحين جاوز بغداد تحداه

هذي معالم خرس كل واحدة منهن قامت خطيباً فاغراً فاه

الله يشهد ما قلبت سيرتهم يوماً وأخطأ دمع العين مجراه

3- إن المؤمن الواثق بربه، العالم بدينه، الواعي بسننه، يرى في الغيوم غيثاً صيباً، ويسمع في صراخ المخاض صيحات الوليد، ويدرك أنه ما أتى فجر إلا بعدما اشتدت الظلمة. وهذا ما علَّمنا إياه قرآننا الذي يخشون فهمه وتدبره:

  • فيوسف عليه الصلاة والسلام بدأ التمكين له عندما كان يباع ويشترى، وحيداً شريداً ضعيفاً؛ {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ. وَقَالَ الَذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}
  • ولوط عليه الصلاة والسلام جاءته النجاة عندما كان قومه يتأهبون للتخلص منه بسبب طهره، {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ. فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الغَابِرِينَ}
  • وأصحاب موسى عليه الصلاة والسلام بدأ التمكين لهم وهم في أشد حالات الاستضعاف يُذبحُ أبناؤهم وتُسْتَحْيَا نساؤهم، وكان فرعون في أعلى حالات الجبروت والإفساد {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ. وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ}

هكذا نتعلم من كتاب ربنا أن أقصى نقطة استضعاف هي أول نقطة تمكين بشرط أن تكون حالة الفئة المستضعفة في أعلى نقطة إخلاص وارتباط بالله ولجوء إليه، وبعد ذلك تظهر الأسباب التي ينبغي على الطائفة المؤمنة السعي إليها واستغلالها…

وهذا ما وعاه المؤمنون من أصحاب طالوت بعد سنوات التيه الذي كان بسبب ذنوب ومعاصي وتمرد بني إسرائيل على أوامر الله {قَالَ الَذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُم بِإذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ}

وفي ضوء هذا نستطيع أن ننظر نظرة مختلفة إلى الأحداث الجارية بعد أن نعيها ونعي مراميها، ونستطيع أيضاً إدراك أن لكل منا دوراً في الذب عن دين الله: للعالم والجاهل، والكبير والصغير، والقوي والضعيف، والغني والفقير.

لقد ساعدت الهجمة الأممية الشرسة المتواصلة وما صاحبها من بغض وضغينة ظاهرين على العالم الإسلامي على القيام بدور الصدمات الكهربية اللازمة لإفاقة هذا العالم من غيبوبته الطويلة، فأخذ يتململ من سباته، رغم الجهود الإعلامية الحثيثة لتخفيف أثر هذه الصدمات، أو مصاحبتها بمسكنات للألم، أو إفراغ أثرها في مجرى تغييب الأمة عن رسالتها الحقة.

فالوحشية الصربية والمؤامرة الدولية الماكرة المصاحبة لها نبهتنا أنه ما زال لنا عرق ينبض في قلب أوروبا، والاجتياح الروسي لأرض الشيشان وما أعقبة من دك همجي ذكّر المسلمين من أهلها الذين ولدوا في عنفوان الحقبة الماركسية الطاغية بأن لهم أصولاً إسلامية وتاريخاً إسلاميّاً ينبغي الاعتزاز به والعودة إليه ومحاربة أعدائه، وهدم المساجد في الهند أرانا أن لهذه المساجد حماة يذودون عنها بأجسادهم النحيلة العارية.

4- إن من السذاجة أن ننتظر من أعدائنا أن يحنوا علينا ويرفقوا بنا، وأن مكرهم وتحالفهم وتكالبهم لا يقلق المؤمن الواعي {وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ}   ولكن الذي يقلق حقّاً هو تردي حالنا؛ بالانقطاع عن الله والغثائية، وتمكن حب الدنيا والوهن من قلوبنا، وتفشي السلبية والعجز بيننا، وسيطرة الإحباط واليأس على نفوسنا؛ فالضعف الداخلي هو أول خطوات الانهيار.

وإذا كانت قوى الكفر تملك مقدرات البطش العسكري، والهيمنة السياسية، والتقدم التقني، والتأثير الإعلامي، فإنها تحمل أيضاً عوامل ضعف وتحلل في مجتمعاتها، وهي لا تملك إرادتنا وعزيمتنا على التغيير والإصلاح، ولا تملك قدر الله وإرادته النافذة في ملكه وملكوته.

ولكن هل نستحق نصره؟ {وَعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هم الفاسقون}

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى