1/ شرع الله الشرائع، وأرسل الرسل لبيانها، وأوضح سبيل النجاة، وحذر من كل مهلكة توبق بالعبد، ووضع لهذه الشرائع حدودا، وأمر بتعظيم حرماته، ولا سبيل للمسلم ينجو به من المهالك حتى يعظم حرمات الله، وهذه الخصلة أعني تعظيم الحرمات هي مما يحتاجه المسلم في هذه الأيام التي فتحت الدنيا على الناس من كل جهة، وأصبح المسلم -مع كثرة الملهيات، والإغراق في المباحات، ومعانقة المشتبهات- يتذمر من كثرة المحرمات، فكلما أراد أن يواقع شيئا قيل له هذا حرام، فأصبحت مطالبة لما ذكرنا من الأسباب كلها في المحرمات، ولهذا وجب على المسلم أن يتقي الله فيعظم حرمات الله حتى يسير على الصراط المستقيم.
2/ التعظيم هو التفخيم والتبجيل، والحرمات هي ما لا يحل انتهاكه، والمقصود بتعظيم حرمات الله: هو معرفة ما حرم الله، وتعظيم انتهاكه في النفس قبل مواقعته؛ ليحذر العبد منه، وذلك بتعظيم الله؛ لأنه هو صاحب النهي فتعظيم حرمات الله من تعظيم الله، والعكس بالعكس. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: تعظيم الحرمات اجتناب المعاصي والمحارم، بحيث يكون ارتكابها عظيما في نفسك.
3/ إن تعظيم الحرمات يعود بالخير على المسلم من كل جهة قال جل وعلا {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} وتعظم حرمات الله وشعائره دال على تقوى القلوب قال الله {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}
4/ إن حدود الله هي محارمه، ولقد حذر الله جل وعلا من تعدي حدوده، وأمر بالوقوف عليها؛ كما قال سبحانه {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} وقال {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} وأخبر سبحانه أن متعدِّ الحدودِ ظالمٌ لنفسه بتعريضها لعذاب الله فقال {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} وهدد -سبحانه- متعدي الحدود بالنار فقال {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من انتهاك حرمات الله أشد التحذير؛ فعن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضًا، فيجعلها الله -عز وجل- هباء منثوراً)، قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا، جلهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم؟!، قال: (أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) وفي حديث النواس بن سمعان -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران، فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع، يقول: أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تتفرجوا، وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد يفتح شيئاً من تلك الأبواب، قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجْه، والصراط الإسلام، والسوران حدود الله –تعالى-، والأبواب المفتحة محارم الله -تعالى-، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله -عز وجل-، والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم) ففي هذا المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسلام هو الصراط المستقيم الذي أمر الله بالاستقامة عليه، ونهى عن مجاوزة حدوده، وإن من ارتكب شيئاً من المحرمات فقد تعدى حدوده”.
وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها). ومن المصيبة أن يقع الإنسان في الحرام ثم يجاهر به الناس ويعلمهم بما صنع، زيادة في الفحشاء والمنكر، وهذا من شر الخلق عياذا بالله؛ فعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه)؛ فمن استخف بما حرم الله عليه فالله أشد عقوبة له وأشد تنكيلاً، بل إن انتهاك حرمات الله والتساهل في ذلك سبب رئيس في ذل الأمة وهوانها على الله وعلى خلقه؛ فعن جبير بن نفير قال: “لما فتحت قبرص فرق بين أهلها فبكى بعضهم إلى بعض، ورأيت أبا الدرداء جالسا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام؟ قال: ويحك يا جبير ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره بينا هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى”، وقال يحيي بن معاذ الرازي: “عجبت من ذي عقل يقول في دعائه: اللهم لا تشمت بي الأعداء ثم هو يشمت بنفسه كل عدو له، قيل: وكيف ذلك؟ قال: يعصي الله فيُشمت به في القيامة”. وقال ذو النون: “من خان الله في السر هتك ستره في العلانية”.
5/ فإن البعض من الناس يفهم أن حرمات الله بعض منهياته، والأمر أعم من ذلك؛ لأن الحرمات “هي جمع حرمة، وهي ما يجب احترامه وحفظه من الحقوق، والأشخاص، والأزمنة، والأماكن”، وبهذا يتبين لك -أيها المسلم- أن حرمات الله جميع ما حرم الله تجاوزه من حقوق الخالق، وحقوق المخلوقين من أشخاص، وأزمنة، وأمكنة، وما أشبه ذلك.
- إن الله تعالى عظم حرمة كتابه، وجعله كلاماً {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}؛ فمن امتهن القرآن أو استهزأ بشيء من فإنه على خطر عظيم؛ يقول القاضي عياض رحمه الله: “من استخف بالقرآن، أو المصحف، أو بشيء منه، أو سبهما، أو جحده، أو حرفا منه، أو آية، أو كذب به، أو بشيء منه، أو كذب بشيء مما صرح به فيه من حكم، أو خبر، أو أثبت ما نفاه، أو نفى ما أثبته على علم منه بذلك، أو شك في شيء من ذلك؛ فهو كافر عند أهل العلم بإجماع”.
- كما أن الله حرم انتهاك حرمة بعض الأشخاص، وفي مقدمتهم: أنبياء الله ورسله الكرام؛ ثم أصحابهم وآلهم، وأعظم الآل والأصحاب أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فمن تعرض لواحد منهم بالسب تصريحاً أو تلميحاً؛ فإن يكون بذلك على شفا حفرة من النار، فقد أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دم امرأة كانت تسبه، وتقع فيه؛ فعن ابن عباس رضي الله عنه أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر، قال: فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي -صلى الله عليه وسلم- وتشتمه، فأخذ المغول فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل فلطخت ما هناك بالدم، فلما أصبح ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فجمع الناس، فقال: (أنشد الله رجلا فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام)، قال: فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل حتى قعد بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله أنا صاحبها؛ كانت تشتمك، وتقع فيك، فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأت عليها حتى قتلتها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: (ألا اشهدوا أن دمها هدر).
- وقد حرم الله التعدي على كل نفس معصومة الدم والمال؛ فعن عبد الله بن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: (ألا أي شهر تعلمونه أعظم حرمة)، قالوا: ألا شهرنا هذا، قال: (ألا أي بلد تعلمونه أعظم حرمة)، قالوا: ألا بلدنا هذا، قال: (ألا أي يوم تعلمونه أعظم حرمة)، قالوا: ألا يومنا هذا، قال: (فإن الله تبارك وتعالى قد حرم عليكم دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم إلا بحقها، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا؛ ألا هل بلغت) ثلاثاً، كل ذلك يجيبونه ألا نعم، قال: (ويحكم أو ويلكم لا تَرجعُنَّ بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)
- ومن حرمات الله في الأمكنة التي حرم الله انتهاكها: بلد الله الحرام مكة-شرفها الله وحماها-، فإن الله قد توعد من ينوي فيها الإلحاد بأن يذقه عذاباً أليماً؛ قال تعالى: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}؛ قال عمر رضي الله عنه: “يا أهل مكة: اتقوا الله في حرمكم هذا، أتدرون من كان ساكن حرمكم هذا من قبلكم؟ كان فيه بنو فلان فأحلوا حرمته فهلكوا، و بنو فلان فأحلوا حرمته فهلكوا، حتى عده إن شاء الله، ثم قال: “والله لأن أعمل عشر خطايا بغيره أحب إلي من أن أعمل واحدة بمكة”، وقال عبدالله بن مسعود: “ما من عبد يهم بخطيئة فلم يعملها فتكتب عليه ولو هم بقتل الإنسان عند البيت وهو بعدن أبين أذاقه الله من عذاب أليم”، وقرأ: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم}. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرام، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه).
6/ لعل سائلا يسأل: كيف السبيل إلى تعظيم حرمات الله وتعظيم قدر الله؟
فأقول: إن الجواب سهلٌ بينٌ وهو أن نتعرف على الله بمعرفة أسمائه وصفاته، ثم نقرأ في سير السلف، وكيف كانوا يعظمون الحرمات، فبهذا ينير قلب المسلم ويستبصر الطريق؛ فما أكثر المتخبطين على جنباته؛ أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
إن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مليئة بالدروس التي يستفاد منها كيفيةَ تعظيمِ النبي صلى الله عليه وسلم لحرمات الله وكذلك صحابته الكرام ومن بعدهم بإحسان.
- أخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة قالت: إن قريشا أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح فقالوا: من يكلم فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامةُ بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فيها أسامة بن زيد فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أتشفع في حد من حدود الله عز وجل؟) فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله. فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال) أما بعد فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها.
- أخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة قالت: والله ما انتقم رسول الله لنفسه في شيء يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله فينتقم لله.
6/ كلما قوي إيمان العبد كلما كان لحرمات الله أشدَّ تعظيما؛ قال أنس بن مالك رضي الله عنه (إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر، وإنا كنا لنعدها على زمن رسول الله من الموبقات)
وقال ابن عباس رضي الله عنهما (يا صاحب الذنب: لا تأمن فتنة الذنب وسوء عاقبة الذنب، ولَمَا يَتبعُ الذنب أعظم من الذنب إذا عَمِلته، قلةُ حيائك ممن على اليمين وعلى الشمال وأنت على الذنب أعظم من الذنب، وضحكك وأنت لم تدر ما الله صانع بك أعظم من الذنب، وفرحك بالذنب إذا ظفرت به أعظم من الذنب، وحزنك على الذنب إذا فاتك أعظم من الذنب، وخوفك من الريح إذا حركت ستر بابك وأنت على الذنب ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب.. ويحك أتدري ما كان ذنب أيوب -عليه السلام- فابتلاه بالبلاء في جسده، استغاث به مسكين على ظالم يدرؤه عنه فلم يغثه ولم ينه الظالم عن ظلمه فابتلاه الله)
وقال الفضيل بن عياض: “بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله”