الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا، وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون، وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له يحق الحق بكلماته ولو كره المجرمون، وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا وعظيمنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه؛ أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه الذين عزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون، أما بعد.
أيها المسلمون عباد الله: فإنكم في يوم عظيم من أيام الله؛ لكم فيه من الأجر والثواب ما لا يقدره إلا الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من غسل يوم الجمعة واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فأنصت، كان له بكل خطوة يخطوها أجر صيام سنة وقيامها وذلك على الله يسير” فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا؛ ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ” رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه
أيها المسلمون: قد جمعكم الله في هذه البلاد بعد أن خرجتم إليها مهاجرين، وقد اختلفت نياتكم، وتباينت مقاصدكم، وتفاوت سعيكم؛ {منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة} فمنكم من خرج يلتمس علماً نافعاً، ومنكم من خرج يسعى على رزق حلال بعدما ضاقت به السبل في بلاده، ومنكم من جاء يطلب عيشاً كريما لا يحني فيه رأسا ولا يمد فيه يداً، ولا يلجأ فيه إلى سبل ملتوية، وقد قال الشافعي رحمه الله:
تغرَّب عن الأوطان في طلب العلا وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفريج هم واكتساب معيشة وعلـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم وآداب وصحبة ماجد
فإن قيل في الأســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــفار ذل وغربة وقطع فيافي وارتكاب الشدائد
فموت الفتى خير له مــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن حياته بدار هوان بين واش وحاسد
أيها المسلمون عباد الله: أنتم في هذه البلاد لا تمثِّلون أنفسكم، ولا بلادكم التي منها جئتم، بل تمثِّلون الدين الذي تعتنقون، والنبي الذي تحبون، والكتاب الذي تقرؤون، والأمة التي إليها تنتمون، أنتم في هذه البلاد مسلمون، فإياكم وما يشين سمعتكم، أو يدنس أعراضكم، أو يسود وجوهكم، أو يسيء إلى مجموعكم، حذار حذار أن يؤتى الإسلام من قبلك أيها المسلم، بأن تكون سبباً في أن يقال: المسلمون كاذبون، أو المسلمون خونة، أو المسلمون آكلو حرام، قبل أن تمارس فعلاً أو تدمن سلوكا تذكر أيها المسلم أنك قد تكون باباً لهداية الناس وولوجهم في دين الله أفواجا، أو قد تكون سبباً لفتنة الناس وصدهم عن سبيل الله.
يا مسلم: استعن بالله ولا تعجز، لتكن ثقتكم بالله عظيمة ورجاؤكم فيه كبيرا، {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} قال الربيع بن خثيم رحمه الله تعالى: إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه، ومن آمن بها هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجاه، ومن دعاه أجاب له، وتصديق ذلك في القرآن {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} {إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم} {ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم} {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب}
كن ذا خلق طيب وسمت حسن، واعلم بأن المؤمن يبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم، وأنه ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وأن أقرب الناس مجلساً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاسنهم أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون، وأن أبعد الناس مجلساً منه الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون.
يا مسلم: إن الله تعالى لما أثنى على أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم أثنى عليهم بمكارم أخلاقهم ومحاسن عاداتهم؛ فقال عن نوح عليه السلام {إنه كان عبداً شكورا} وقال عن إدريس عليه السلام {إنه كان صديقاً نبيا} وقال عن أيوب عليه السلام {إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب} وقال عن يحيى عليه السلام {وبراً بوالديه ولم يكن جباراً عصيا} وقال عن إبراهيم عليه السلام {إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين شاكراً لأنعمه} وقال عن إسماعيل عليه السلام {إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا} وقال عن يوسف عليه السلام {إنه من عبادنا المخلصين} وقال عن عيسى عليه السلام {وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقيا}
وأما محمد صلى الله عليه وسلم فقد جمع الله فيه من مكارم الأخلاق ما تفرق في غيره من النبيين حتى استحق ثناء الله عليه بقوله {وإنك لعلى خلق عظيم} وبقوله {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} وبقوله {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} وبقوله {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} وكان عليه الصلاة والسلام أطيب الناس وأرحم الناس وأعف الناس وأزهد الناس وأشجع الناس وأحلم الناس وأرق الناس قلباً وأكثرهم تواضعاً وأبعدهم عن الكبر
فإذا سخوت بلغت بالجود المدى وفعلت ما لا تفعل الأنواء
وإذا عفوت فقادراً ومقدراً لا يستهين بعفوك العظماء
وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء
وإذا غضبت فإنما هي غضبة في الحق لا ضغن ولا شحناء
وإذا خطبت فللمنابر هزة تعرو الندي وللقلوب بكاء
صلى عليك الله ما صحب الدجا حاد وما حنت بالفلا وجناء
أيها الناس: إن واجباً على المسلم أن يرحم الله خلق الله جميعاً، من الإنس وغيرهم؛ وأولى الناس بالرحمة منه أهل بيته؛ فيشبعهم ويكسوهم ويسكنهم، ويقودهم إلى الجنة ويعرفهم سبلها وأبوابها؛ بل يرحم الحيوان البهيم؛ ففي الصحيحين يحكي النبي صلى الله عليه وسلم خبر الرجل الذي سقى كلباً فشكر الله له فغفر له، وخبر البغي من بغايا بني إسرائيل التي سقت كلباً فغفر لها به، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما خبر المرأة التي دخلت النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض