خطبة عيد الأضحى المبارك عام 1429
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، الحمد لله الذي بعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، وحجة على العباد أجمعين، بعثه بدين الهدى والرحمة؛ فأنقذ الله به من الهلكة، وهدى به من الضلالة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، خصَّنا بخير كتاب أنزل، وأكرمنا بخير نبي أرسل، وأتم علينا النعمة بأعظم دين شُرع، دين الإسلام {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، ولا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} {ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم}
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به عليكم من هذا الدين القويم الذي رضيه لنفسه واختاره على الدين كله، احمدوا الله على أن عافاكم في أبدانكم، وأمَّنكم في دياركم وأوطانكم، احمدوا الله على نعمة الأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، احمدوا الله على نعمة المال والأهل والمعافاة {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} {وما بكم من نعمة فمن الله}
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا
عباد الله: إن يومكم هذا هو يوم الحج الأكبر، وهو عيد الأضحى، وهو يوم النحر، هو يوم الحج الأكبر؛ لأن الحجاج يؤدون فيه معظم مناسك الحج يرمون الجمرة الكبرى، ويذبحون الهدايا، ويحلقون رؤوسهم، ويطوفون بالبيت، ويسعون بين الصفا والمروة، وهو عيد الأضحى ويوم النحر لأن الناس يضحون فيه وينحرون هداياهم، (وما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة دم وإن للمضحي بكل شعرة حسنة) وهذه الأضاحي سنة أبيكم إبراهيم ونبيكم محمد عليهما السلام، وإنها لسنة مؤكدة يكره لمن قدر عليها أن يتركها وإن ذبحها لأفضل من الصدقة بثمنها لما فيها من إحياء السنة والأجر العظيم ومحبة الله لها؛ فَضَحُّوا أيها المسلمون عن أنفسكم وأهليكم؛ متقربين بذلك إلى ربكم متبعين لسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم حيث ضحى عنه وعن أهل بيته، ومن كان منكم لا يجد الأضحية فقد ضحى عنه النبي صلى الله عليه وسلم جزاه الله عن أمته خيراً، وإذا كان منكم أحد يريد أن يتبرع بالأضحية عن والديه فلا يحرم نفسه وذريته وأهله منها، وفضل الله واسع.
وتجزي الشاة عن واحد والبدنة والبقرة عن سبعة فلا يشترك شخصان في شاة واحدة، ولا أكثر من سبعة في بدنة أو بقرة ولكن للإنسان أن يشرك في أضحيته من شاء سواء كانت شاة أم سبع بدنة أو سبع بقرة، واعلموا إن للأضحية شروطاً ثلاثة:
الأول: أن تبلغ السن المعتبر شرعاً وهو خمس سنين في الإبل وسنتان في البقر وسنة كاملة في المعز ونصف سنة في الضأن
الشرط الثاني: أن تكون سليمة من العيوب التي تمنع الإجزاء وهي أربعة عيوب: العرجاء البين ظلعها وهي التي لا تعانق الصحيحة في الممشاء، والمريضة البين مرضها وهي التي ظهرت آثار المرض عليها ومنها الجرب، والعوراء البين عورها وهي بأن تكون عينها العوراء ناتئة أو غائرة، أما إذا كانت لا تبصر بها ولكن عورها غير بين فإنها تجزئ مع الكراهة، الرابع: العجفاء وهي الطويلة التي لا مخ فيها، فأما عيب الأذن والقرن فإنه لا يمنع من الإجزاء ولكنه يكره، وكذلك الهثماء التي سقطت أسنانها أو بعضها فإنها تجزئ مع الكراهة، وكلما كانت الأضحية أكمل في ذاتها وصفاتها فهي أفضل
الشرط الثالث: وقت الذبح ـ إخوة الإسلام ـ فيكون من بعد صلاة العيد وينتهي بغروب الشمس من اليوم الثالث بعد العيد فأيام الذبح أربعة: يوم العيد وثلاثة أيام بعده، والذبح في النهار أفضل ويجوز في الليل، ويتولى المضحي الذبح بنفسه ومن كان لا يحسن فليحضر ذبحها فإن ذلك أفضل، ويجوز له أن يوكل غيره بالذبح، ويسمي ـ وجوباً ـ يقول وهو يحرك يده بالذبح: بسم الله والله أكبر اللهم هذا منك ولك اللهم هذا عن فلان أو فلانة، ومن لم يقل بسم الله على الذبيحة ـ عامداً ـ فذبيحته ميتة نجسة حرام أكلها لقوله تعالى {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} وقول النبي صلى الله عليه وسلم (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل) واذبحوا برفق، وحدوا السكين، ولا تحدوها وهي تنظر، ولا تذبحوها وأختها تنظر إليها، وأمِرّوا بالسكين بقوة وسرعة، وأضجعوها على جنبها الأيسر أو الأيمن على حسب ما تيسر لكم، ولا تسلخوها أو تكسروا رقبتها قبل أن تموت، أما الجزار فلا يأخذ منها شيئاً لقول علي رضي الله عنه قال (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أعطي الجزار منها شيئاً وقال نحن نعطيه من عندنا) فلا تعطوه شيئاً منها وأعطوه أجره من عندكم
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين. الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون. لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين} صدق الله العظيم
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد
أيها المسلمون: أذكركم ونفسي بتلك الشعيرة العظيمة.. الصلوات الخمس.. لا حظ في الإسلام لمن تركها.. من تركها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.. الله أكبر الله أكبر.. عباد الله:
أنفقوا أموالكم على من أوجب الله الإنفاق عليهم من الأهل والأقارب فإنكم مسئولون عن ذلك وإن الإنفاق عليهم من الإحسان ومن صلة الأرحام
إن نبيكم صلى الله عليه وسلم وقف في مثل هذا اليوم في جماهير المسلمين بمنى يخطبهم ويعلن تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم تحريماً مؤبداً إلى يوم القيامة، ولقد صارت الأموال منتهكة عند كثير من المسلمين، وصارت الأعراض منتهكة؛ فاحذروا أيها المسلمون من تعدي حدود الله في النفوس والأموال والأعراض وأدوا الحقوق قبل أن تؤخذ يوم القيامة من أعمالكم
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، واعلموا رحمكم الله إن هذه الأيام الثلاثة المقبلة هي أيام التشريق التي لا يجوز صيامها كما لا يجوز صيام يوم العيد، وهي التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل) فأكثروا فيها من ذكر الله بالتكبير والتهليل والتحميد في أدبار الصلوات وفي جميع الأوقات.
الله أكبر ليست كلمة تقال، وليست مجرد شعار يرفع، إنما (الله أكبر) معناها يا أخي المسلم: أن تكون الدنيا كلها في عينك صغيرة في جنب الله عز وجل، إذا عرض عليك المال، أو عرض عليك الجاه، أو عرضت عليك الدنيا مجتمعة، لتتنازل عن دينك، استمسكت بدينك وقلت: الله أكبر، الله أكبر من المال والثروة، الله أكبر من الجاه والمنصب، الله أكبر من المتع والشهوات، والله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا.
أعيادنا أعياد ربانية، ليس يوم العيد عندنا يوم كاس ومعصية، ولا يوم انفلات للشهوات، أو جري وراء الملذات، إن أعيادنا تبدأ بالتكبير، تبدأ بالصلاة، أعيادنا أعياد ربانية، أعياد موصولة بالله تبارك وتعالى، وهي كذلك أعياد إنسانية؛ لأن المعاني الإنسانية تتجلى فيها أعظم التجلي، لا يريد الإسلام للمسلم أن يفرح بالعيد وحده، فليس منا من أكل وحده، وليس من عاش لنفسه، في عيد الفطر شرع الإسلام زكاة الفطر، وفي عيد الأضحى شرع الأضحية ليوسع الإنسان على أهله وعياله وعلى جيرانه وأحبائه وعلى فقراء المسلمين
هذا هو الإسلام، ليس من الإسلام أن تأكل وحدك، أن تجمع على مائدتك من الأطعمة أطيبها، ومن الأشربة أعذبها، وأن تلبس من الثياب أحسنها، وبجوارك أخ لك أو قريب لك أو جار لك، لا يجد ما يمسك الرمق، يئن من الجوع أنين الملسوع، برئ من ذلك محمد صلى الله عليه وسلم فقال (ليس منا من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم)
إن مآسي المسلمين أيها الناس كثيرة، إخوانكم في فلسطين محاصرون، ومن الطعام محرومون، وقد عضهم الجوع بنابه، ويتآمر عليهم القريب والبعيد، إخوانكم في العراق وأفغانستان والصومال تنزف دماؤهم، وتتصدع وحدتهم، وتتفرق كلمتهم، لكن الذي يعزينا ويملأ قلوبنا بالثقة، وأفئدتنا بالأمل والرجاء، هو هذه الصحوة الإسلامية التي نراها في كل مكان، صحوة أبناء الإسلام، وخاصة الشباب، هؤلاء الذين نهضوا بعد ركود، وتحركوا بعد جمود، واستيقظوا بعد رقود، وعرفوا أن الإسلام حق؛ فاستمسكوا بالعروة الوثقى لا انفصام لها، تمسكوا بالإسلام عقيدة وشريعة، وأخلاقاً وحضارة، عملاً به، وعملاً له، ودعوة إليه، وجهاداً في سبيله، انظروا أيها المسلمون إلى موسم الحج، كان الناس قديماً يختمون حياتهم بالحج، إذا اقترب الإنسان من القبر قال: الحج هو تمام الأمر وختام العمر، الآن معظم الذين يزحمون مواسم الحج والعمرة من الشباب
أيها المسلمون: ضَحُّوا تقبل الله ضحاياكم، أخلصوا لله النية، كلوا منها وتصدَّقوا وادَّخروا، وسِّعوا على أهلكم وعيالكم، واعلموا أن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر، أيام صلة وإحسان وبر، اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلا، عظموا شعائر الله، وقفوا عند حدوده، ولا تنتهكوا حرمات الله، اجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور، أكثروا من فعل الخيرات {واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى}