فإنَّ الخِلافةَ الإسلاميَّة وجمْعَ الأمَّة تحت سُلطان واحد يَحكمُهم بشِرعة الله على منهاج النُّبوَّة، مطلبٌ عزيزٌ يرنو إليه كلُّ مسلِمٍ في هذه الحياة، وهو من أعظمِ مقاصدِ الإسلام، وأسْمى صُورِ الوحدةِ والاعتصام التي أمَر الله ورسوله بهما، قال الله تعالى: {وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وٰحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱتَّقُونِ}، وقال:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ يرضَى لكم ثلاثا ويكرهُ لكُم ثلاثًا، فيرضَى لكُم أن تعبدوهُ ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصِموا بحبلِ اللهِ جميعًا ولا تفرَّقوا…)) رواه مسلم
وقد أجمع العلماءُ على وجوب تنصيب إمامٍ واحد للمسلمين، نقل الإجماع على ذلك: الماورديُّ في (الأحكام السلطانية ص 15)، وأبو المعالي الجويني في (غياثِ الأمم ص15)، والقاضي عياض في [إكمال المعلم 6/220]، والنوويُ في [شرح صحيح مسلم 12/205]، وغيرهم كثير، ونصوصُ الإجماع كثيرة مبثوثة في مظانِّها لا حاجة لإطالة المقال بذِكرها، كما أجمعت الأمَّة على أنَّ المقصد الأسمى من الإمامة أو الخلافة هو ما توارد ذِكرُه على ألسنة العلماء وفي كتُبهم، ولخَّصه الماورديُّ رحمه الله؛ إذْ قال: (الإمامةُ موضوعةٌ لخِلافة النبوَّة في حراسة الدِّين وسياسة الدنيا، وعَقْدُها لِمَن يقوم بها في الأمَّة واجبٌ بالإجماع).
فعلى هذا يكون مقصدُ الخلافة والإمامة إقامةَ المصالحِ الدِّينية والدُّنيويَّة، وتحقيقُ هذا المقصد يُمكن أن يُقيمه حاكمٌ مسلِم في قُطر من أقطار المسلمين وليس ثمَّةَ خلافة، وله السَّمع والطاعة حينئذ على مَن كان تحت إمرته، أو داخلًا تحت حُكم ولايته، وإنْ لم تكن إمامته إمامةً عُظمى؛ يقول العلَّامة الشوكانيُّ في [السيل الجرار] (4/512): (وأمَّا بعدَ انتشار الإسلام، واتِّساع رُقعته، وتباعُد أطرافه، فمعلومٌ أنَّه قد صار في كلِّ قطر أو أقطار الولاية إلى إمامٍ أو سلطان، وفي القُطر الآخَر أو الأقطار كذلك، ولا ينفُذ لبعضهم أمرٌ ولا نهيٌ في قُطر الآخَر وأقطاره التي رجعتْ إلى ولايته؛ فلا بأس بتعدُّد الأئمَّة والسَّلاطين، ويجب الطاعةُ لكلِّ واحد منهم بعدَ البَيعة له على أهل القُطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القُطر الآخَر)، ونقل هذا الكلامَ وأيَّده العلَّامةُ صِدِّيق حسن خان في كتابه [إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة] (ص 125)؛ وجلُّ أهل العلم من شتَّى المذاهب قد أجازوا تعدُّدَ الأئمَّة إذا تعذَّر على إمامٍ واحدٍ حُكمُ كلِّ بلاد المسلمين لتباعُدها.
ومهما يكُن من خلاف في هذه المسألة، فهو غير مؤثِّر في مسألتنا، وإنَّما أجازوا هذه الحالة؛ لأنَّها حالة اضطرارٍ وعجْزٍ، و(العجز مسقطٌ للأمر والنهي وإنْ كان واجبًا في الأصل) [مجموع الفتاوى] (20/61). فهناك فرْقٌ بين حالَي الاختيار والاضطرار، ومَن لم يفرِّق بينهما، فقد جهِلَ المعقولَ والمنقول، وهذا ما حصَل لكثيرٍ من الناس، فظنَّ أنَّ الدِّين لن تقوم له قائمةٌ ما لم تقُمِ الخِلافة، ولم يفرِّق بين السَّعي إلى إقامة الخِلافة الحقيقيَّة، التي أمَر الشارع بها، وبين إعلان خِلافة وهميَّة تُرضي العواطف، ولا تحقِّق مقاصد الخِلافة في الواقِع، وهذه الظنون تُشبِه ظنَّ بعض الجهلة أنَّه لن يَنشُر العدلَ ويَرفع الظلم إلَّا المهديُّ، فأوقع الطرفين في التعلُّقِ بهذين الأمرين.
وسيكون الكلام هنا مقتصرًا على إعلان الخلافة بالطريقة التي تمَّت في حاضرنا اليوم في العراق، وذلك من ناحية الواقع التاريخي والشَّرعي.
أولًا: الواقِع التاريخي
باستعراض التاريخ الإسلاميِّ يَظهر جليًّا كثيرٌ من إعلانات الخلافة الوهميَّة، سواءً عن طريق الدَّعوات المزعومة بالمهديَّة، أو عن طريق فِرَق الخوارج الضالَّة؛ وهم أكثرُ النَّاس تلهفًا للخلافة، لكنْ بغير هُدًى ولا كتابٍ منيرٍ، ويبدو – والعِلم عند الله – أنَّ هذه سِمةٌ لهم، أمَّا أهلُ السُّنَّة والجماعة فلا يُثبتون اسم الخِلافة، أو الإمامة العظمى إلَّا لِمَن ثبتَتْ له الولاية على جُمهورهم؛ بالاختيار أو التغلُّب، في شتَّى بِقاع المسلمين، وأمَّا مَن بُويع من أهل قُطْرٍ واحد، أو تغلَّب عليه، فقد ثبتَتْ ولايتُه عليهم، دون ولايتِه على مَن لم يبايعْه أو يتغلَّب عليه، وهكذا نشأتْ مسألة تعدُّد الأئمَّة التي سبَق ذكرُها آنفًا، وليستْ هذه المقالة مسوقةً لمناقشتها جوازًا، ومنعًا.
قال وهبُ بن منبِّه رحمه الله: (ما اجتمعتِ الأمَّة على رجلٍ قطُّ من الخوارج، ولو أمكن اللهُ الخوارجَ من رأيهم، فسَدتِ الأرض… وإذًا لقام أكثرُ من عَشرة أو عشرين رجلًا ليس منهم رجلٌ إلَّا وهو يدْعو إلى نفْسه بالخِلافة) [مختصر تاريخ دمشق] (26/390).
فمِن فَعائل الخوارج:
1- أنَّ شبيبًا الخارجيَّ ادَّعى الخلافة في عهد عبد الملك، ولم ينلْها، [وفيات الأعيان] (2 / 455).
2- وفي سَنة 140 للهجرة، دُعي بالخلافة لرأس الإباضيَّة عبد الأعلى بن السَّمح المعافري، واستمرَّ أربع سنوات، ثم قتله المنصور عام 144هـ [تاريخ ابن خلدون] (4 / 241).
3- وفي طَنْجة دُعي للخِلافة لأمير الخوارج، وخاطبوه بأمير المؤمنين، ثم قتله خالدُ بن حبيب الفهريُّ. [تاريخ ابن خلدون] (6 / 145).
4- ومِن هؤلاء الملك المعز إسماعيل؛ وهو مِن أصلٍ كُردي، ادَّعى أنَّه قُرشي من بني أُميَّة، وخطَب لنفسه بالخلافة، وتلقَّب بالهادي، ثم هلَك سنة 598هـ. [مختصر تاريخ دمشق] (26/390).
5- بل ربَّما دَعا أكثرُ من واحدٍ لنفْسه بالخِلافة في وقتٍ واحد! وهذا ما حصَل في الأندلس، حتى إنَّه (كان في المائة الخامسة بالأندلس وحدها سِتَّةُ أنفُس كلُّهم يتسمَّى بالخلافة). [الوافي بالوفيات] (18/5).
ثانيًا: الجانب الشَّرعي
مِن المقرَّر لدَى العلماء أنَّ من أهمِّ الشروط التي يجب أن تتحقَّق في الخلافة الإسلاميَّة على منهاج النبوَّة -مع اشتراطِ الإسلامِ، والبلوغِ، والعقلِ، والحريَّةِ، والذُّكوريَّةِ، والعدالةِ، والقرشيَّةِ: شَرْطَي المشورة والتمكين.
أمَّا المشورة:
فهي مشورةُ أهل الحَلِّ والعَقْد والشوكة من العلماء والوجهاء، والقادة وأهل الرأي والمشورة، القادِرين على عَقْد الأمور وحَلِّها، الذين يكون الناسُ – من أهل الدِّين والدنيا – تبعًا لهم، وليس أهلُ الحَل والعَقد مجموعةً من الناس تختارهم جماعةٌ من جماعات المسلمين، جهاديَّة كانت أو غير جهاديَّة، ثم يُطلقون عليهم مسمَّى (أهل الحَل والعَقد)، ثم يُقال لهم: هل تُبايعون فلانًا خليفةً على المسلمين؟ فيقولون: نعم! فليس كلُّ من أُطلق عليهم مسمَّى أهل الحَلِّ والعَقد يكونون فِعلًا أهلَ حَلٍّ وعَقد؛ فالأسماء لا تُغيِّر من حقيقة المسمَّيات شيئًا؛ جاء في صحيح البخاريِّ عن عُمرَ رضي الله عنه أنَّه قال: ((مَن بايع رجلًا عن غير مشورةٍ من المسلمين، فلا يُبايَع هو ولا الذي بايَعَه؛ تغِرَّةَ أن يُقتلَا))، أيْ: حذرًا أن يُقتلَا.
قال الحافظ ابنُ حجر رحمه الله في [الفتح] (12/150): (فيه إشارةٌ إلى التحذير من المسارعة إلى مِثل ذلك، حيث لا يكون هناك مثلُ أبي بكر؛ لِمَا اجتمع فيه من الصِّفات المحمودة، من قِيامه في أمْر الله، ولِينِ جانبه للمسلمين، وحُسنِ خُلُقه، ومعرفتِه بالسِّياسة، وورعِه التامِّ، ممَّن لا يوجد فيه مثلُ صِفاته، لا يُؤمَنُ مِن مبايعته عن غيرِ مشورةٍ الاختلافُ الذي يَنشأ عنه الشَّرُّ).
والإمامة إنْ كانتْ إمامةً صغرى على بلد، فلكلِّ بلدٍ أهلُ حَلٍّ وعَقد وشوكة من عُلمائه ورؤسائه، وهذا – كما سبَق – يكون في حالات العجز والاضطرار، ولَأَنْ يَحكُم كلَّ قُطر حاكِمٌ مسلمٌ خيرٌ من أن يُترَك الناسُ فوضى لا سُراةَ لهم، أمَّا إنْ كانت إمامة عُظمى، وخِلافة إسلاميَّة، فلا تنعقد إلَّا بمشورة جمهور أهل الحَلِّ والعقد في جميع أقطار المعمورة؛ قال الإمام أبو يعلى في [الأحكام السلطانية] (1/23): (لا تنعقد إلَّا بجمهور أهل الحَلِّ والعَقْد)، وقرَّر ذلك شيخُ الإسلام ابن تيميَّة في [منهاج السُّنة] (1/526) – وهو يردُّ على بعضِ أهل الكلام الذين يرَوْن انعقاد الإمامة بالأربعة والثلاثة ودون ذلك -؛ إذ قال: (ليس هذا قولَ أئمَّة أهل السُّنة، وإنْ كان بعض أهل الكلام يقولون: إنَّ الإمامة تنعقِد ببيعةِ أربعة، كما قال بعضُهم: تنعقد ببيعة اثنين، وقال بعضهم: تنعقد ببيعة واحد، فليستْ هذه أقوالَ أئمَّة السُّنة، بل الإمامة عندهم تثبُت بموافقة أهل الشَّوكة عليها، ولا يَصير الرجلُ إمامًا حتى يوافقَه أهلُ الشوكة عليها، الذين يحصُل بطاعتهم له مقصودُ الإمامة؛ فإنَّ المقصودَ من الإمامة إنَّما يحصُل بالقُدرة والسُّلطان، فإذا بُويع بيعةً حصلَتْ بها القدرةُ والسُّلطان، صار إمامًا)، بل إنَّ الإمام أحمد رحمه الله نُقل عنه – في إحدى رِوايتيه – أنَّها تنعقد بالإجماع، فقال: (مَن وَلِي الخلافة، فأجمع عليه الناسُ ورَضُوا به، ومَن غلبهم بالسَّيف حتى صارَ خليفةً، وسُمِّي أميرَ المؤمنين، فَدَفْعُ الصَّدقاتِ إليه جائزٌ، بَرًّا كان أو فاجرًا)، وقال في رواية إسحاق بن منصور، وقد سُئِل عن حديث النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَن مات وليس له إمامٌ، مات مِيتةً جاهليَّة)) ما معناه؟ فقال: تَدْري ما الإمام؟ الإمامُ الذي يُجمع عليه المسلمون، كلُّهم يقول: هذا إمام؛ فهذا معناه) انظر: [منهاج السُّنة النبويَّة] (1/530).
وها هنا لفتةٌ مهمَّة، وهي التفريق بين بَيعة فِئام من الناس لرجُل منهم، وبين انعقاد الإمامة له، وجعْله خليفةً على المسلمين أجمْع، واستحقاقه للإمامة؛ قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة في [منهاج السنة النبوية] (1/531): (لو قُدِّر أنَّ عُمرَ وطائفةً معه بايعوه – يعني: أبا بكر – وامتنع سائرُ الصَّحابة عن البيعة، لم يَصِرْ إمامًا بذلك، وإنما صار إمامًا بمبايعة جمهور الصَّحابة، الذين هم أهلُ القُدرة والشوكة؛ ولهذا لم يَضُرَّ تخلُّفُ سعدِ بن عُبادة؛ لأنَّ ذلك لا يَقدَح في مقصودِ الولاية؛ فإنَّ المقصود حصولُ القُدرة والسُّلطان اللَّذين بهما تحصُل مصالحُ الإمامة، وذلك قد حصَل بموافقة الجمهور على ذلك.
فمَن قال: إنَّه يصير إمامًا بموافقة واحد أو اثنين أو أربعة، وليسوا هم ذَوي القُدرة والشوكة، فقد غلِط؛ كما أنَّ مَن ظنَّ أنَّ تخلُّفَ الواحد أو الاثنين والعَشرة يضرُّه، فقد غلِط).
وأمَّا التمكين:
فلا يصحُّ لأيِّ جِهة أن تُعلن خِلافتَها على كافَّة المسلمين، وتُنصِّب إمامًا من عندها، ثم تطلُب من جميع المسلمين في كلِّ أنحاء الأرض أن تُبايعَه خليفةً للمسلمين، وهي لم تتمكَّن بعدُ، ولا تستطيع أن تَحميَ القريب منها، فضلًا عن البعيد عنها، فهذا عبثٌ وحماقة؛ فإقامة الخلافة لا تكون بمجرَّد الادِّعاءِ والإعلان؛ فأيُّ قِيمة لإعلان ليس له حقيقةٌ في الوجود؟!
فمن تغلَّب على أحدِ أقطار المسلمين، ثم سمَّى نفسه خليفةً للمسلمين، فكأنَّما زعم أنَّه تغلَّب على جميع أقطار المسلمين، وهذا أمرٌ مخالفٌ للحسِّ والواقع، ومِن ثَمَّ مخالفٌ للشرع، بل إنَّه يدلُّ على خللٍ كبيرٍ في تصوُّرِ أحكام الإمامة، وما يلحق بها.
روَى البخاريُّ ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، أنَّه سمِع رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((إنَّما الإمامُ جُنَّة، يُقاتَل مِن ورائه، ويُتقَّى به)).
قال الحافظ النوويُّ رحمه الله: (قوله صلَّى الله عليه وسلم: ((الإمامُ جُنَّة))، أي: كالسِّتر لأنَّه يَمنع العدوَّ من أذى المسلمين، ويَمنع الناسَ بعضَهم من بعض، ويَحمي بيضةَ الإسلام، ويتَّقيه الناسُ، ويَخافون سطوتَه. ومعنى ((يُقاتَل من ورائه))، أي: يُقاتَل معه الكفَّارُ والبُغاة والخوارج، وسائرُ أهل الفساد والظلم مطلقًا)، وبمثله قال ابنُ حجرٍ في الفتح، وبقيَّة شُرَّاح الحديث.
فكيف يُبايَع رجلٌ من المسلمين إمامًا عليهم وهو لا يستطيع أن يحميهم؟! فللإمامة حقوق وواجبات؛ فمَن كان عاجزًا عن أداء ما أوجبه الله عليه تُجاه رَعيَّته، فلا يُطالبهم بأداء حقِّه عليهم.
فلا يُعدُّ الرَّجُل خليفةً على المسلمين إلَّا إذا تحقَّق له بالفعل مناطُ هذه الخلافة، من حيث القدرةُ والسُّلطان على جمهور المسلمين؛ فمَن لم يكن كذلك، فإمامتُه ليستْ عُظمى، وأحسن أحوالها أنَّها إمارة على البُقعة التي يُسيطر عليها؛ فالعِبرة بالحقائق والمعاني، لا بالأسماء والمباني.
وهنا ترِدُ أسئلةٌ عند كثيرٍ من الشَّباب:
بعضُهم يقول: نحن نُشاهِد ونَسمع ونقرأ لهؤلاء وهؤلاء، وكلٌّ يُدلي بدلْوه؛ ليثبتَ أنَّ ما عليه هو الحقُّ والصَّواب، وكلٌّ يستشهد بآياتٍ وأحاديثَ، وكلٌّ ينقُل من أقوال العلماء المتقدِّمين ما يُؤيِّد ما ذهب إليه، ثمَّ إنَّ مَن يُؤيِّد هذه الخلافةَ نجده على الثُّغور مجاهدًا مقاتلًا، ضحَّى بنفْسه من أجل هذا الدِّين، يَنكأ في العدوِّ نكأً يُفرِح به صدور المؤمنين، يكتُب تحت حَرِّ الشَّمس، وقَرِّ البَرْد، وفي المقابل نجِد مَن يُنكِرها ويردُّ على أصحابها يكتُب وهو قاعدٌ في بيته بعيدًا عن ساحات ًّالقتال، آمِن في سِربه، يكتُب وهو جالس على مقاعد وثيرة، ومِن خلْف شاشات الكمبيوتر، وتحت نعيم المكيِّفات؛ فكيف تُريدوننا نترُك كلامَ الأوَّل، ونأخذ بكلام الثاني؟!
وآخَرون يقولون: سئِمنا من كلامكم؛ فمنذ مائة عام وأنتم تُدندنون حولَ ضرورة إعادة الخِلافة الإسلاميَّة، ولم نرَ أنَّكم تفعلون شيئًا لإعادتها إلَّا الكلام؛ أمَّا هؤلاء الأبطال فقد حقَّقوا حُلمَنا الكبير، وطبَّقوها فعلًا على الواقع بدِمائهم وسلاحهم؛ فهل نترك الواقعَ المشاهَد، الذي تحدَّثتْ عنه جميعُ وسائل الإعلام، وأرَعَب دولَ الكُفر، ونأخذ بكلام المثبِّطين أمثالكم؟!
فهذه أسئلة تَنضوي تحتَها شُبهاتٌ ثلاث:
1- مؤيِّدو الخِلافة طبَّقوها واقعًا، ومخالفوهم ليس لديهم إلَّا الكلام.
2- مؤيِّدو الخِلافة من أهل الثُّغور، ومُخالفوهم من أهل الدُّثور.
3- الجميع يستشهد بآياتٍ وأحاديثَ وأقوالٍ لأهل العلم المتقدِّمين.
وهاكم تفنيدَها:
أمَّا: أنَّ مؤيِّدي الخلافة طبَّقوها واقعًا؛ فهذا سبَق الردُّ عليه، بل المقالة كلها في ردِّ هذا الأمر، وقلنا: إنَّ العِبرة بالحقائق والمعاني، لا بالأسماء والمباني؛ فإعلانُ الشَّيءِ ليس معناه فِعلَه وتطبيقَه، وفعلُه الظاهر للعِيان ليس معناه صحَّتَه؛ ((صلِّ؛ فإنَّك لم تصلٍّ))، مع أنَّه سجَد وركَع، وخفَض ورَفَع.
وأمَّا: أنَّ مؤيِّديها من أهل الثغور، ومخالفيهم من أهل الدُّثور؛ فالردُّ على ذلك من وجهين:
الأول: سبَق الكلام عنه في مقالة سابقة بعنوان (إشكالية الغلو في الجهاد المعاصر) عند الوقفة السَّابعة في الردِّ على مقولة: (إذا اختلف الناسُ، فاسألوا أهلَ الثَّغر)، يُمكن الرجوع إليها؛ فليس لأهل الثغور مزيَّةٌ على بقيَّة أهل الحَلِّ والعَقد من العلماء وغيرهم في اختيار خليفة المسلمين.
الثاني: أنَّ الواقع خلافُ ذلك؛ فجُلُّ أهل الثُّغور من المجاهدين، وكُبرى الجماعات والجَبَهات والتحالُفات والكتائب الجهاديَّة لم تُؤيِّد إعلانَ الخِلافة، ولم تُبايعْ خليفتَهم؛ فانقلَبَ الدليل عليهم.
وأمَّا: أنَّ الجميع يستشهد بآياتٍ وأحاديثَ وأقوالٍ لأهل العلم المتقدِّمين لتأييد ما ذهب إليه.
فأقول: ليست العبرةُ بمجرَّد الاستشهاد والنقول، بل العبرة بم من يُستشهَدُ؟ وما هي المنزلةُ العِلميَّة لهذا الذي يَستشهد بالآيات والأحاديث وأقوال العلماء؟ ولو نظَرْنا لمسألتنا هذه، فإنَّنا لا نجِد من العلماء الرَّبانيِّين الراسخين في العلم، المعروفين بصَلاحهم وتقواهم وبُعْدهم عن مواطن الشُّبهات – لا نجِد منهم مَن أيَّد هذه الخلافة، بل إنَّ أشهر المنظِّرين للحركات الجهاديَّة المعاصرة ومرجعياتهم العلميَّة أعْلَنوا اعتراضَهم عليها، في حين نرَى حُدثاءَ الأسنان والمجاهيل – إلَّا القليل منهم – مَن أيَّد هذه الخلافة؛ فلو استعرضتَ العالم الإسلاميَّ من شَرْقه إلى غَرْبه، ومِن شَماله إلى جَنوبه، لرأيتَ أنَّ كافَّة علمائِه وطلَّاب العلم ودُعاته، بما يُشبه الإجماعَ منهم، يُنكرون هذه الخلافةَ، ولا يرتضونها، ولا يرَون أنَّ شروط الخلافة تحقَّقت فيها؛ أفلا يكفي هذا دليلًا على بُطلانها؟!
فالعلماء الربانيُّون الراسخون في العلم هُم المعيار الدَّقيق إذا ادلهَمَّت الخطوب، وكثرت الفتن، واضطربت الأمور، واحتار الناس، وإنَّ الله تعالى لا يَجمعهم على ضلالة.
وخلاصةُ الأمر: أنَّه إنْ بايع عمومُ المسلمين في شتَّى الأقطار واحدًا منهم، فهو خليفتُهم، وتلك الولاية خِلافة، وإلَّا فهي مجرَّد إمارة من الإمارات، ووليُّ أمْر تلك البُقعة ما هو إلَّا حاكمٌ، أو أميرٌ عليهم.
ولهذا؛ فإنَّ الولايةَ التي لا تجتمع الأمةُ عليها، ليستْ ولايةً عامَّة، ولا يجوز أن تُسمَّى خلافة وإنْ أعلنها مَن أعلنها، نسأل الله أن يردَّ ضالَّ المسلمين إلى الحقِّ، وأن يَهدينا سُبُلَ السَّلام.