1/ من أخص صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم صفة الرحمة؛ فإن الله تعالى قد أثنى بها عليه في القرآن فقال {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} وقال {بالمؤمنين رؤوف رحيم} وقال {فبما رحمة من الله لنت لهم} وبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه الصفة قد لازمته بعناية الله منذ صغره؛ فعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أنّه قال: إنّ أبا هريرة كان حريصاً على أن يسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أشياء لا يسأله عنها غيره، فقال: يا رسول الله ما أوّلُ ما رأيت في أمر النّبوّة؟ فاستوى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالساً وقال: «لقد سألت أبا هريرة!! إنّي لفي صحراء، ابن عشر سنين وأشهر، وإذا بكلام فوق رأسي، وإذا رجل يقول لرجل: أهو هو؟ قال: نعم، فاستقبلاني بوجوه لم أرها لخلق قطّ، وأرواح لم أجدها من خلق قطّ، وثياب لم أرها على أحد قطّ، فأقبلا إليّ يمشيان حتّى أخذ كلّ واحد منهما بعضديَّ لا أجد لأحدهما مسّاً؛ فقال أحدهما لصاحبه: أضجعه. فأضجعاني بلا قصر ولا هصر. وقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره. فهوى أحدهما إلى صدري ففلقها، فيما أرى بلا دم ولا وجع، فقال له: أخرج الغلّ والحسد، فأخرج شيئاً كهيئة العلقة ثمّ نبذها فطرحها، فقال له: أدخل الرّأفة والرّحمة، فإذا مثل الّذي أخرج يشبه الفضّة، ثمّ هزّ إبهام رجلي اليمنى فقال: اغد واسلم، فرجعت بها أغدو رقّة على الصّغير ورحمة للكبير» وكان من أسمائه ما يدل على الرحمة، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسمّي لنا نفسه أسماء. فقال: «أنا محمّد، وأحمد، والمقفّي، والحاشر، ونبيّ التّوبة، ونبيّ الرّحمة» وأمرنا عليه الصلاة والسلام أن نتراحم، أن يرحم بعضنا بعضا فقال (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) وأخبرنا أنه «لا تنزع الرّحمة إلّا من شقيّ» وأن الذي لا يرحم لا يرحم، فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يرحم الله من لا يرحم النّاس»
2/ من مظاهر رحمته صلى الله عليه وسلم ما كان منه مع خلق الله جميعاً، وذلك:
- رحمته بالصغار؛ فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأخذني فيقعدني على فخذه ويقعد الحسن بن عليّ على فخذه الآخر، ثمّ يضمّهما، ثمّ يقول: «اللهمّ ارحمهما فإنّي أرحمهما» عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء أعرابيّ إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: تقبّلون الصّبيان فما نقبّلهم، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرّحمة» وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: «خرج علينا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه فصلّى، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع رفعها»
- رحمته بالميت؛ فعن عوف بن مالك الأشجعيّ رضي الله عنه قال: صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول: «اللهمّ اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسّع مدخله، واغسله بالماء والثّلج والبرد، ونقّه من الخطايا كما نقّيت الثّوب الأبيض من الدّنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنّة، وأعذه من عذاب القبر (أو من عذاب النّار)» قال: (حتّى تمنّيت أن أكون أنا ذلك الميّت)
- رحمته بمن غضب عليهم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللهمّ إنّي أتّخذ عندك عهداً لن تخلفنيه. فإنّما أنا بشر. فأيّ المؤمنين آذيته، شتمته، لعنته، جلدته، فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقرّبه بها إليك يوم القيامة»
- رحمته بالشباب؛ فعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: أتينا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظنّ أنّا اشتقنا أهلنا، وسألنا عمّن تركنا في أهلنا فأخبرناه، وكان رقيقاً رحيما، فقال: «ارجعوا إلى أهليكم فعلّموهم، ومروهم، وصلّوا كما رأيتموني أصلّي، وإذا حضرت الصّلاة فليؤذّن لكم أحدكم، ثمّ ليؤمّكم أكبركم»
- دعاؤه بالرحمة لمن عطس؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه – أو صاحبه – يرحمك الله، فإذا قال: يرحمك الله، فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم»
- بيانه سعة رحمة الله عز وجل؛ فعن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال: قدم على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم سبي فإذا امرأة من السّبي تحلب[1] ثديها تسقي إذا وجدت صبيّاً في السّبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته. فقال لنا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أترون هذه طارحة ولدها في النّار؟» قلنا: لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه. فقال: «لله أرحم بعباده من هذه بولدها» وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لمّا خلق الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش: إنّ رحمتي تغلب غضبي» وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «جعل الله الرّحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين. وأنزل في الأرض جزءً واحدا، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق. حتّى ترفع الدّابّة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه» وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذكر رجلاً فيمن كان سلف – أو قبلكم – آتاه الله مالاً وولدا، يعني أعطاه. قال: فلمّا حضر. قال لبنيه: أيّ أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب. قال: فإنّه لم يبتئر عند الله خيرا» فسّرها قتادة: لم يدّخر. «وإن يقدم على الله يعذّبه. فانظروا، فإذا متّ فأحرقوني، حتّى إذا صرت فحماً فاسحقوني. أو قال فاسهكوني – ثمّ إذا كان ريح عاصف فأذروني فيها، فأخذ مواثيقهم على ذلك وربّي. ففعلوا. فقال الله: كن، فإذا رجل قائم، ثمّ قال: أي عبدي، ما حملك على ما فعلت؟ قال: مخافتك. أو فرق منك، فما تلافاه أن رحمه الله»
3/ المثل التطبيقي من حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم في (الرحمة):
- عن أبي قتادة رضي الله عنه أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّي لأقوم في الصّلاة أريد أن أطوّل فيها. فأسمع بكاء الصّبيّ فأتجوّز في صلاتي كراهية أن أشقّ على أمّه»
- عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّه قال: قيل: يا رسول الله، ادعُ على المشركين. قال: «إنّي لم أبعث لعّانا، وإنّما بعثت رحمة»
- عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال «أرسلت ابنة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إليه: إنّ ابناً لي قبض، فأتنا. فأرسل يقرأ السّلام ويقول: «إنّ لله ما أخذ وله ما أعطى، وكلّ عنده بأجل مسمّى. فلتصبر ولتحتسب» فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينّها. فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبيّ بن كعب وزيد بن ثابت ورجال، فرفع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصّبيّ ونفسه تتقعقع قال حسبته أنّه قال: كأنّها شنّ ففاضت عيناه. فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟ فقال: «هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنّما يرحم الله من عباده الرّحماء»
- عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لولا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسّواك مع كلّ صلاة»
- عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لولا أن أشقّ على أمّتي أو على النّاس- ما تخلّفت عن سريّة، ولكن لا أجد حمولة ولا أجد ما أحملهم عليه، ويشقّ عليّ أن يتخلّفوا عنّي، ولوددت أنّي قاتلت في سبيل الله فقتلت ثمّ أحييت، ثمّ قتلت ثمّ أحييت»
- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعوده مع عبد الرّحمن بن عوف وسعد بن أبي وقّاص وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم فلمّا دخل عليه فوجده في غاشية أهله. فقال: قد قضى؟ قالوا: لا يا رسول الله. فبكى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا رأى القوم بكاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بكوا. فقال: «ألا تسمعون؟ إنّ الله لا يعذّب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذّب بهذا – وأشار إلى لسانه – أو يرحم. وإنّ الميّت يعذّب ببكاء أهله عليه» وكان عمر رضي الله عنه- يضرب فيه بالعصا، ويرمي بالحجارة ويحثي بالتّراب)
- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «دخلنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أبي سيف القين، وكان ظئراً لإبراهيم عليه السّلام. فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إبراهيم فقبّله وشمّه، ثمّ دخلنا عليه بعد ذلك – وإبراهيم يجود بنفسه – فجعلت عينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تذرفان، فقال له عبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟ فقال: «يا ابن عوف إنّها رحمة. ثمّ أتبعها بأخرى، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلّا ما يرضى ربّنا، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون»
- عن عائشة رضي الله عنها زوج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّها قالت للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: هل أتى عليك يوم كان أشدّ من يوم أحد؟ قال: «لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت. وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلّا وأنا بقرن الثّعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلّتني فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إنّ الله قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال فسلّم عليّ، ثمّ قال: يا محمّد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا»
الخطبة الثانية
التشريعات كلها رحمة، وإن بدا من ظاهر بعضها عند من لا يعلمون أن فيها ما يعد شديداً أو قاسياً، فإنه ينطلق من الرحمة، إذ لا تستقيم الأمور إلا بذلك، وإن أكثر ما ينظر إليه البعض من غير المسلمين على أن فيه قسوة وشدة الحدود كالقتل للقاتل ورجم أو جلد الزاني وقطع السارق وجلد شارب الخمر؛ لكن هذا النظر نظر أعور؛ لأنه لم ينظر إلا بعين واحدة فرأى جانباً واحداً ولم يبصر الجانب الآخر، فإذا كان قد أبصر الأثر على مَن أقيم عليه الحد لكنه لم يبصر الجانب الآخر وهو أثر الجاني على المجني عليه أو على المجتمع، ولم يبصر الجانب الذي يوفره إقامة الحد للمجتمع من الأمن والأمان والاستقرار وما ينزع من الضغائن والأحقاد بين الناس عندما يشعر كل إنسان أنه قد أُخذ له بحقه فتسكن نفسه ويهدأ باله ويتوجه إلى أعماله ليكون عنصراً فعالاً منتجاً في مجتمعه.
وقد أبان أحد الشعراء أن القسوة لا تراد لذاتها وإنما تراد لما يترتب عليها من الآثار المحمودة، وهو بذلك يعبر عن النظرة الصحيحة لحكمة العقوبة، فقال:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقس أحياناً على من يرحم
ومن خلال هذه الرحمة التي تسيطر على التشريعات الإسلامية جميعها، ينبغي أن يتحرك الدعاة بين الناس فيعلون من قيمة الرحمة في تعاملهم مع الآخرين وفي دعوتهم إلى التراحم وفي تغليب الرحمة على الغضب وتغليب التبشير على التنفير وتغليب التيسير على التعسير، ولا تكون الرحمة مجرد شعار يرفع أو مادة للتدريس فقط، بل ينبغي أن تكون مع ذلك سلوكاً أصيلاً في التصرفات مع البعيد والقريب والعدو والصديق، بل إن المسلم الحق ليجهد وينصب ويتحمل المشاق من رحمته بالناس، فما بذل النفس وإنفاق المال في الجهاد والخروج في طلب العلم وتعليمه لمن يجهله ويحتاج إليه؛ إلا أثراً من آثار الرحمة التي تغلف كيان المسلم كله.
[1] بسكون المهملة من تحلب وضم اللام وثديها بالنصب وتسقي بفتح المثناة وبقاف مكسورة وللباقين قد تحلب بفتح الحاء وتشديد اللام أي تهيأ لأن يحلب وثديها بالرفع ففي رواية الكشميهني بالإفراد وللباقين ثدياها