1/ فإن شهر رمضان شهر عظيم افترض الله عليكم صيامه، وسنَّ لكم رسول الله صلى الله عليه وسـلم قيامه؛ فمن صامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، وهو شهر الصبر والصبر جزاؤه الجنة، وهو شهر تضاعف فيه الحسنات، وتكفر السيئات، وتقال العثرات، وتقبل الدعوات، شهر الأجر فيه مضاعف؛ روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك” فهذا الحديث الشريف يدل على جملة فضائل ومزايا للصيام من بين سائر الأعمال منها:
- أن مضاعفته تختلف عن مضاعفة الأعمال الأخرى، فمضاعفة الصيام لا تنحصر بعدد، بينما الأعمال الأخرى تضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
- أن الإخلاص في الصيام أكثر منه في غيره من الأعمال لقوله: “ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي”
- أن الله اختص الصيام لنفسه من بين سائر الأعمال، وهو الذي يتولى جزاء الصائم لقوله: “الصوم لي وأنا أجزي به”
- حصول الفرح للصائم في الدنيا والآخرة، فرح عند فطره بما أباح الله له، وفرح الآخرة بما أعد الله له من الثواب العظيم، وهذا من الفرح المحمود لأنه فرح بطاعة الله كما قال تعالى: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا}
- ما يتركه الصيام من آثار محبوبة عند الله وهي تغير رائحة فم الصائم بسبب الصيام، وهي آثار نشأت عن الطاعة فصارت محبوبة عند الله تعالى “ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك”
ومن فضائل هذا الشهر المبارك ما روي أن النافلة تعدل فيه أجر الفريضة، والفريضة تعدل فيه أجر سبعين فريضة، ومن فطر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجر ذلك الصائم من غير أن ينقص من أجره شيء، وكل هذه خيرات وبركات ونفحات تحل على المسلمين بحلول هذا الشهر المبارك،
ومن فضائل الصيام: أن الله اختص الصائمين بباب من أبواب الجنة لا يدخل منه غيرهم إكراماً لهم كما في الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال أين الصائمون؟ فيقومون فيدخلون فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد”
ومن فضائل الصيام: أنه يقي صاحبه مما يؤذيه من الآثام ويحميه من الشهوات الضارة، ومن عذاب النار، كما ورد في الأحاديث أن الصيام جُنَّة ـ بضم الجيم والنون المشددة المفتوحة ـ أي ستر حصين من هذه الأخطار.
ومن فضائل الصيام: أن دعاء الصائم مستجاب فقد أخرج ابن ماجة والحاكم عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: “إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد” وقد قال الله تعالى في أثناء آيات الصيام: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} ليرغب الصائم بكثرة الدعاء.
ومن فضائله: أنه يجعل كل أعمال الصائم عبادة كما روى أبو داود الطيالسي والبيهقي عن ابن عمر مرفوعا: “صمت الصائم تسبيح، ونومه عبادة، ودعاؤه مستجاب، وعمله مضاعف”
ومن فضائل الصيام: أنه جزء من الصبر، فقد أخرج أحمد والترمذي وابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال: “الصيام نصف الصبر” وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن الصابرين يوفون أجورهم بغير حساب.
2/ فينبغي للمسلم أن يستقبل هذا الشهر بالفرح والغبطة والسرور ويحمد الله على بلوغه ويسأله الإعانة على صيامه وتقديم الأعمال الصالحة فيه، إنه شهر عظيم، وموسم كريم، ووافد مبارك على الأمة الإسلامية، نسأل الله أن يمنحنا من بركاته ونفحاته. فالموفق من عباد الله من اغتنمه في طاعة الله، والخاسر من جعله كسائر سنته، وما كان له منه إلا الجوع والعطش؛ كحال الأشقياء الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، فلا يستفيدون من مرور مواسم الخير ولا يعرفون لها حرمة، ولا يقدرون لها قيمة، كثير من الناس لا يعرفون هذا الشهر إلا أنه شهر لتنويع المآكل والمشارب، فيبالغون في إعطاء نفوسهم ما تشتهي، ويكثرون من شراء الكماليات من الأطعمة والأشربة، ومعلوم أن الإكثار من المآكل والمشارب يكسِّل عن الطاعة، والمطلوب من المسلم أن يقلِّل من الطعام والشراب حتى ينشط للطاعة، وبعض من الناس لا يعرف شهر رمضان إلا أنه شهر النوم في النهار والسهر في الليل على ما لا فائدة فيه أو ما فيه مضرة، فيسهر معظم ليله أو كله ثم ينام النهار حتى عن الصلوات المفروضة فلا يصلي مع الجماعة ولا في أوقات الصلاة، وفئة من الناس تجلس على مائدة الإفطار تترك صلاة المغرب مع الجماعة، هذه الفئات من الناس لا تعرف لشهر رمضان قيمة، ولا تتورع عن انتهاك حرمته بالسهر الحرام، وترك الواجبات، وفعل المحرمات، وإلى جانب هؤلاء جماعة لا يعرفون شهر رمضان إلا أنه موسم للتجارة، وعرض السلع وطلب الدنيا العاجلة، فينشطون على البيع والشراء فيلازمون الأسواق ويهجرون المساجد، وإن ذهبوا إلى المساجد فهم على عجل ومضض لا يستقرون فيها، لأن قرة أعينهم في الأسواق، وصنف آخر من الناس لا يعرف شهر رمضان إلا أنه وقت للتسول في المساجد والشوارع فيمضي معظم أوقاته بين ذهاب وإياب وتجوال هنا وهناك وانتقال من بلد إلى بلد لجمع المال عن طريق السؤال، وإظهار نفسه بمظهر المحتاج وهو غني، وبمظهر المصاب في جسمه وهو سليم، يجحد نعمة الله عليه بالغنى والصحة، ويأخذ المال بغير حقه، ويضيع وقته الغالي فيما هو مضرة عليه فما بقي لرمضان من مزية عند هؤلاء
3/ إن رسول الله صلى الله عليه وسـلم قد أمَّن على دعاء بادر به أمين الوحي جبريل عليه السلام؛ فعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقى المِنبرَ فَقال: (آمينَ آمينَ آمينَ) قِيل لَه: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كُنتَ تَصنَعُ هَذا؟ فَقَالَ: (قَال لِي جِبريلُ: رَغمَ أنفُ عَبدٍ أَدرك أَبويهِ أَو أَحدَهُما لَمْ يُدخِلهُ الجَنةَ. قُلتُ آمينَ. ثُم قَال: رَغمَ أَنفُ عَبدٍ دَخلَ عَليه رمضانَ لَم يُغفرَ لَه. فَقلتُ: آمينَ. ثُم قَال: رَغم أَنفُ امرئٍ ذُكرتَ عِندهُ فَلم يُصلِ عَليك. فَقلتُ: آمين) رواه البخاري في الأدب المفرد
قال الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله تعالى: ومن عجب أن جبريل عليه السلام وهو ملك الوحي والرحمة يقول عن مسلم أدرك شهر رمضان ولم يغفر له باعده الله في النار ولكن ينتفي العجب إذا تأملنا فضائل رمضان وتعرفنا خصائصه فوجدناه شهر الرحمة والمغفرة وأن وسائل المغفرة والرحمة من الطاعة والقربة متوفرة، ودواعيها ميسرة والأعوان عليها كثيرون. وفي الوقت نفسه عوامل الشر محدودة ومردة الشياطين مصفَّدة ورحمة الله تعالى منزلة، ولله فيه عتقاء من النار في كل ليلة. وأبواب الجنة مفتَّحة كلها وأبواب النيران مغلقة كلها. فمن لم تنله الرحمة مع كل ذلك فمتى تناله إذن؟ ومن لم يكن أهلاً للمغفرة في هذا الشهر ففي أي وقت سيكون أهلاً لها، كمن حضر موسم ربح فخفق ولم يربح فمتى يحصل على الربح. ومن خاض البحر ولم يطهر، فما الذي سيطهره؟ وهكذا فمن لم ينل المغفرة في رمضان بالتوبة والإقلاع والعودة إلى الله والالتجاء وعمل الطاعات والدعاء فمتى ينالها وإذا حرم ليلة فيه خير من ألف شهر فماذا يرجى بعدها
4/ أيها المسلمون عباد الله: إن الاستعداد للصوم الحقيقي يكون بترك المحرمات والمنكرات؛ فالصيام الذي هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، كل المسلمين يشتركون فيه، لكن الصيام الحقيقي الذي يجب أن نعد أنفسنا له، ونوطن قلوبنا عليه: هو أن نطهر قلوبنا وأن نزكيها وأن تكون هذه القلوب بعيدة عما حرم الله تبارك وتعالى؛ فإذا كان الشرك والرياء والنفاق وما أشبهها كبائر ومصائب في الفطر، في شعبان أو رجب؛ فهي في رمضان أعظم، وأعظم! فلنستقبل هذا الموسم بقلوب خالية من ذلك، وإذا كان الغش والغل والحقد والحسد للمسلمين والشحناء والبغضاء والعداوات بين الإخوان والأرحام والزملاء والجيران حراماً في سائر العام وهي كذلك؛ فهي في رمضان أشد حرمة. فيجب أن ننتهز هذه الفرصة لنترك هذه المحرمات التي تشغل قلوبنا وتأكل حسناتنا؛ فإذا كان النظر إلى المرأة الأجنبية محرماً في سائر العام، فكيف يستحله الصائم في الليل أو في النهار؟ وإذا كان قبيحاً أن تجعل موسم الطاعة كغيره في الطاعة، فكيف إذا جعلنا موسم الطاعة موسماً للمعصية؟! إن ذلك لأقبح القبح!! فإذا لم يصم القلب عن الشهوات المحرمة، ولم تصم الأذن عن سماع الحرام، وأكثر المسلمين لا تصوم آذانهم لا في رمضان ولا في غيره، وكيف تصوم الأذن ومزمار الشيطان: (المعازف والموسيقى) لا يكاد يخلو منها بيت، ولا سيارة؟! وهل صامت عيوننا؟! وكيف تصوم، والإنسان لا يكاد يفطر إلا ويمتد بصره إلى تلك المناظر المحرمة؟! بل ولربما امتدت السهرات إلى وقت السحر أو طلوع الفجر!! ثم بعد ذلك يكون الموت ويكون الخذلان!!
5/ أيها المسلمون: ها هو شهر رمضان قد مضى ربعه في لمح البصر، وعما قريب سيمضي كله، وما تدري أيها المسلم هل تدركه مرة أخرى أم يفرق الموت بينك وبينه؟ فالبدار البدار، والعمل العمل، بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، واغتنموا اللحظة الحاضرة والعمل الميسور