خطب الجمعة

شبهات حول السنة

خطبة يوم الجمعة 29/2/1437 الموافق 11/12/2015

1- من شبهات المنكرين للسنة:

أَوَلاً: قول الله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} يدل على أن الكتاب قد حوى كل شيء آخر كَالسُنَّةِ، وإلا كان الكتاب مفرطاً فيه، ولما كان تبياناً لكل شيء، فيلزم الخلف في خبره تعالى وهو محال.

ثَانِياً: قول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} يدل على أن الله تَكَفَّلَ بحفظ القرآن دُونَ السُنَّةِ، ولو كانت دليلاً وَحُجَّةً كالقرآن لَتَكَفَّلَ بحفظها.

ثَالِثاً: لَوْ كَانَتْ السُنَّةُ حُجَّةً لأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابَتِهَا، وَلَعَمِلَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ مِنْ بَعْدُ عَلَى جَمْعِهَا وَتَدْوِينِهَا، لما في ذلك من صيانتها من العبث والتبديل والخطأ والنسيان، وفي صيانتها من ذلك وصولها للمسلمين مقطوعاً بصحتها فإن ظَنِّيَّ الثبوت لا يصح الاحتجاج به، وقد قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وقال: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ}

رَابِعاً: قد وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما يدل على عَدَمِ حُجِيَّةِ السُنَّةِ من ذلك «إِنَّ الْحَدِيثَ سَيَفْشُو عَنِّي، فَمَا أَتَاكُمْ عَنِّي يُوَافِقُ الْقُرْآنَ فَهُوَ عَنِّي، وَمَا أَتَاكُمْ عَنِّي يُخَالِفُ الْقُرْآنَ فَلَيْسَ مِنِّي» فإذا كان ما روي مِنَ السُنَّةِ قد أثبت حُكْماً شَرْعِيّاً جَدِيداً كان ذلك غير موافق للقرآن، وإن لم يثبت حُكْماً جَدِيداً كانت لمحض التأكيد وَالحُجَّةُ هو القرآن فقط. ومن ذلك: «إِذَا حُدِّثْتُمْ عَنِّي حَدِيثاً تَعْرِفُونَهُ، وَلاَ تُنْكِرُونَهُ، قُلْتُهُ أَوْ لَمْ أَقُلْهُ، فَصَدِّقُوا بِهِ، فَإِنِّي أَقُولُ مَا يُعْرَفُ، وَلاَ يُنْكَرُ، وَإِذَا حُدِّثْتُمْ عَنِّي حَدِيثاً تُنْكِرُونَهُ وَلاَ تَعْرِفُونَهُ، قُلْتُهُ أَوْ لَمْ أَقُلْهُ، فَلاَ تُصَدِّقُوا بِهِ، فَإِنِّي لاَ أَقُولُ مَا يُنْكَرُ، وَلاَ يُعْرَفُ» حيث أفاد هذا الحديث وجوب عرض ما ينسب إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المعروف عند المُسْلِمِينَ من حكم الكتاب الكريم فلا تكون السُنَّةُ حُجَّةً.

ومن ذلك: «إِنِّي لاَ أُحِلُّ إِلاَّ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَلاَ أُحَرِّمُ إِلاَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ» وفي رواية «لاَ يُمْسِكَنَّ النَّاسُ عَلَىَّ بشيء، فَإِنِّي لاَ أُحِلُّ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَلاَ أُحَرِّمُ إِلاَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ».

2- الجواب عن هذه الشبهات:

أولاً: إن القرآن الكريم قد حوى أصول الدين وقواعد الأحكام العامة، ونصَّ على بعضها بصراحة، وترك بيان بعضها الآخر لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما دام الله قد أرسل رسوله لِيُبَيِّنَ للناس أحكام دينهم، وأوجب عليهم اتباعه، كان بيانه للأحكام بياناً للقرآن، ومن هنا كانت أحكام الشريعة من كتاب وَسُنَّةٍ وما يلحق بهما ويتفرع عنهما من إجماع وقياس أحكاماً من كتاب الله تعالى، إما نصاً وإما دلالةً، فلا منافاة بين حُجِّيَّةِ السُنَّةِ وبين أن القرآن جاء تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ قال الشافعي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: «فَلَيْسَتْ تَنْزِلُ بِأَحَدٍ مِنْ دِينِ اللهِ نَازِلَةٌ إِلاَّ وَفِي كِتَابِ اللهِ الدَّلِيلُ عَلَى سَبِيِلِ الهُدَى فِيهَا قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} وقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} والبيان اسم جامع لمعاني مجتمعة الأصول مُتَشَعِّبَةَ الفُرُوعِ، فَجِمَاعُ ما أبان الله لخلقه في كتابه مِمَّا تعبدهم به لما مضى من حكمه – جَلَّ ثَنَاؤُهُ – من وجوه.

1 – فمنها ما أبانه لخلقه نصاً مثل جمل فرائضه في أن عليهم صلاة وزكاة وَصَوماً وَحَجًاً، وأنه حَرَّمَ الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وَنَصِّ الزنا والخمر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وَبَيَّنَ لهم كيف فرض الوضوء مع غير ذلك مِمَّا تبين نَصًّا.

2 – ومنها ما أحكم فرضه بكتابه وبيَّن كيف هو على لسان نبيه مثل عدد الصلاة والزكاة ووقتها وغير ذلك من فرائضه التي أنزل من كتابه.

3 – ومنها ما سَنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا ليس لله فيه نص حكم، وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والانتهاء إلى حكمه، فمن قبل عن رسول الله، فبفرض الله قبل.

4 – ومنها ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد كما ابتلى طاعتهم في غيره مِمَّا فرض عليهم.

ثم قال: فكل من قبل عن الله فرائضه في كتابه قبل عن رسول الله سننه بفرض الله طاعة رسوله على خلقه، وأن ينتهوا إلى حكمه، ومن قبل عن رسول الله فعن الله قبل، لما افترض الله من طاعته، فيجمع القبول لما في كتاب الله ولسُنَّة رسول الله القبول لكل واحد منهما عن اللَه، وإن تفرقت فروع الأسباب التي قبلت بها عنهما»

ثانياً: إن ما وعد الله من حفظ الذكر لا يقتصر على القرآن وحده، بل المراد به شرع الله ودينه الذي بعث به رسوله، وهو أعم من أن يكون قرآناً أو سُنَّةً، ويدل على ذلك قول الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}. أي أهل العلم بدين الله وشريعته، ولا شك أن الله كما حفظ كتابه حفظ سُنَّتَهُ، بما هَيَّأَ لها من أئمة العلم يحفظونها ويتناقلونها ويتدارسونها ويميِّزون صحيحها من دخيلها، وقد أفنوا في ذلك أعمارهم وبذلوا من الجهود ما قدمنا الحديث عنه في الفصل الثالث من الباب الأول، وبذلك أصبحت سُنَّةُ الرسول مدرسة محفوظة مُدَوَّنَةً في مصادرها لم يذهب منها شيء.

قد نص العلماء، وفي مقدمتهم الشافعي – رَحِمَهُ اللهُ – على أن السُنَنَ موجودة عند عامة أهل العلم، وإن كان بعضهم أجمع من بعض، ولكن إذا جمع علمهم أتى عليها كلها، وإذا فرق علم كل واحد منهم ذهب عليه الشيء منها، ثم كان ما ذهب عليه منها موجودًا عند غيره، ولا شك أننا نقطع بهذه النتيجة فنحن لا نشك في أنه لم يضِع من سُنَّةِ رسول الله في الصلاة والزكاة والحج والصيام والمعاملات والفرائض شيء قطعًا، وأن كل ما كان عليه رسول الله أو قاله مجموع مُدَوَّنٌ وإن اختلفت طرقه وتباينت مراتبه، قال ابن حزم: «وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالشَّرِيِعَةِ فِي أَنَّ كُلَّ وَحْيٍ نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَهُوَ ذِكْرٌ مُنَزَّلٌ، فَالوَحْيُ كُلُّهُ مَحْفُوظٌ بِحِفْظِ اللهِ تَعَالَى لَهُ بِيَقِينٍ، وَكُلُّ مَا تَكَفَّلَ اللهُ بِحِفْظِهِ فَمَضْمُونٌ أَنْ لاَ يُضِيعَ مِنْهُ وَأَلاَّ يُحَرَّفَ مِنْهُ شَيْءٌ أَبَدًا تَحْرِيفًا لاَ يَأْتِي البَيَانُ بِبُطْلاَنِهِ» ثم رد ابن حزم على من زعم أن المراد بالذكر في الآية القرآن وحده، فقال: «هَذِهِ دَعْوَى كَاذِبَةٌ مُجَرَّدَةٌ عَنْ البُرْهَانِ وَتَخْصِيصٌ لِلْذِّكْرِ بِلاَ دَلِيلٍ … وَالذِّكُرُ اسْمٌ وَاقِعٌ عَلَىَ كُلِّ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ وَحْيٌ يُبَيِّنُ بِهَا القُرْآنَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} فَصَحَّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ مَأْمُورٌ بِبَيَانِ القُرْآنَ لِلْنَّاسِ، وَفِي القُرْآنِ مُجْمَلٌ كَثِيرٌ كَالَصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالحَجِّ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لاَ نَعْلَمُ مَا أَلْزَمَنَا اللهُ تَعَالَى فِيهِ بِلَفْظِهِ، لَكِنْ بِبَيَانِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِذَا كَانَ بَيَانُهُ – عَلَيْهِ السَلاَمُ – لِذَلِكَ المُجْمَلِ غَيْرَ مَحْفُوظٍ وَلاَ مَضْمُونٌ سَلاَمَتُهُ مِمَّا لَيْسَ مِنْهُ، فَقَدْ بَطَلَ الاِنْتِفَاعِ بِنَصِّ القُرْآنِ، فَبَطَلَتْ أَكْثَرُ الشَّرَائِعِ المُفْتَرَضَةِ عَلَيْنَا فِيهِ، فَإِذَا لَمْ نَدْرِ صَحِيْحَ مُرَادِ اللهِ تَعَالَى مِنْهَا» .

ثالثاً: إن عدم أمر النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكتابتها ونهيه عن ذلك كما ورد في بعض الأحاديث الصحيحة، لا يدل على عدم حُجِيَّتِهَا، بل لما قدمناه – عند البحث على كتابة السُنَّةِ – من أن المصلحة حينئذ كانت تقتضي بتضافر كُتَّابِ الصحابة – نَظَرًا لِقِلَّتِهِمْ – على كتابة القرآن وتدوينه، وبتضافر المُسْلِمِينَ على حِفْظِ كتاب الله خشية من الضياع واختلاط شيء به، وقد حققنا أن ما ورد من النهي إنما كان عن كتابة الحديث وتدوينه رسمياً كالقرآن، أما أن يكتب الكاتب لنفسه فقد ثبت وقوعه في عهد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وليست الحُجِّيَّةُ مقصورة على الكتابة حتى يُقَالَ: لو كانت حُجِّيَّةُ السُنَّةِ مقصودة للنبي لأمر بكتابتها، فإن الحُجِّيَّةَ تثبت بأشياء كثيرة: منها التواتر، ومنها نقل العُدُول الثقات، ومنها الكتابة، والقرآن نفسه لم يكن جَمْعُهُ في عهد أبي بكر بِنَاءً على الرقاع المكتوبة فحسب، بل لم يكتفوا بالكتابة حتى تواتر حفظ الصحابة لكل آية منه، وليس النقل عن طريق الحفظ بأقل صحة وضبطاً من الكتابة، خصوصاً من قوم كالعرب عرفوا بقوة الحافظة، وأتوا من ذلك بالعجائب، فقد كان الرجل منهم يحفظ القصيدة كلها من مَرَّةٍ واحدة، كما ثبت عن ابن عباس أنه حفظ قصيدة لعمر بن أبي ربيعة في جلسة واحدة ومنهم من يحفظ ما يُلْقَى من الحديث في المجلس الواحد لا يخرم منه حَرْفًا، وقد حكى ابن عساكر عن الزُّهْرِيِّ أَنَّ عبد الله أرسل كتاباً إلى أهل المدينة يلُومُهُم فيه على موقفهم من فتنة ابن الزبير، وكان في طومارين (الطومار: الصحيفة) فتلي على الناس في المسجد. فأراد سعيد أن يعلم ما فيه، فسأل تلاميذه عن ذلك فأجابوه بما لا يشفي غليله، حتى قال له الزُّهْرِي: «أَتُرِيدُ أَنْ تَعْرِفَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ كُلَّ مَا فِيهِ؟» قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: «فَقَرَأَهُ حَتَّى جَاءَ عَلَيْهِ كُلِّهِ لَمْ يَخْرِمْ مِنْهُ حَرْفًا»، ومثل ذلك يؤثر عن الشافعي وغيره، فاعتمادهم على ذاكرتهم كان أساساً لما ينقلونه من حديث رسول اللهِ ويتدارسونه، ونحن نعلم أن الاعتماد على الذاكرة يسعف الطالب أكثر من الاعتماد على الكتاب، ومن هنا كره من ذكرهم صاحب الشبهة كتابة العلم حتى لا تضعف فيهم هذه المَلَكَةِ العجيبة ولاَ يَتَّكِلَ على الكتاب، قال الحافظ ابن عبد البر بعد أن ذكر رأي بعض الصحابة والتَّابِعِينَ في كراهية كتابة العلم: «مَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ فِي هَذَا البَابِ فَإِنَّمَا ذَهَبَ فِي ذَلِكَ مَذْهَبَ العَرَبِ؛ لأَنَّهُمْ كَانُوا مُطْبُوعِينَ عَلَى الحِفْظِ مَخْصُوصِينَ، بِذَلِكَ وَالَّذِينَ كَرِهُوا الْكِتَابَ كَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ شِهَابٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَهُمْ وَجُبِلَ جِبِلَّتَهُمْ، كَانُوا قَدْ طُبِعُوا عَلَى الحِفْظِ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَجْتَزِئُ بِالسَّمْعَةِ، أَلاَ تَرَى مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: “إِنِّي لأَمُرُّ بِالبَقِيعِ فَأَسُدُّ [آذَانِي] مَخَافَةَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الخَنَا، فَوَاللَّهِ مَا دَخَلَ أُذُنِي شَيْءٌ قَطُّ فَنَسِيتُهُ”، وَجَاءَ عَنِ الشَّعْبِيِّ نَحْوَهُ، وَهَؤُلاَءِ كُلُّهُمْ عَرَبٌ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “نَحْنُ أُمَّةٌ أُمَيَّةٌ لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسِبُ” وَهَذَا مَشْهُورٌ أَنَّ العَرَبَ قَدْ خُصَّتْ بِالْحِفْظِ»

وإذا أضيف إلى ما سبق عامل الورع من أن يكون أحدهم قد دَوَّنَ في كتابه من الحديث ما قد يجوز فيه الوهم والخطأ، أدركت ما ذكر عن أبي بكر من أنه أحرق صحيفة الأحاديث، هذا إن صحت عنه تلك الحادثة، وإلا فقد قال عنها الذَّهَبِيُّ: «إِنَّهَا لاَ تَصِحُّ»، وهو الحق الذي تطمئن إليه النفس.

وأما تحرُّز بعضهم من التحديث، فذلك من شدة الاحتياط في الدين أن يذكروا عن رسوله ما قد يخطئون فيه كما صرح بذلك الزبير، أما من كان قَوِيَّ الذاكرة فقد حَدَّثَ بلا حرج كابن عباس وابن مسعود وأبي هريرة، ألاَ ترى زيد بن ثابت وهو الذي لم يرض أنْ يكتب عنه الحديث يقول تعليلاً لذلك: «أَتَدْرُونَ لَعَلَّ كُلَّ شَيْءٍ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ لَيْسَ كَمَا حَدَّثْتُكُمْ»، فامتناع بعضهم عن الكتابة أو الرواية ليس إلاَّ من قبيل الاحتياط والتوقّي في الدين، على أنَّ الأخبار عن كتابة الصحابة والتَّابِعِينَ للحديث متواترة تواتراً معنوياً لا مجال لطالب الحق أن ينكرها أو يَتَشَكَّكَ فيها، وإذا أردت مزيد الاطلاع على الآثار في ذلك فارجع إلى ما كتبه ابن عبد البر في “جامع بيان العلم”  وارجع إلى ما كتبه الخطيب في كتابه “تقييد العلم”.

أما القول بأن السُنَّةَ قد تأخر تدوينها فزالت الثقة بضبطها وأصبحت مجالاً للظن والظن لا يجوز في دين الله. فهذا قول من لم يقف على جهود العلماء في مكافحة التحريف والوضع، وإذا كانت السُنَّةُ قد نُقِلَتْ بالضبط والحفظ غالباً والكتابة أحياناً، من عصر الصحابة إلى نهاية القرن الأول حيث دَوَّنَ الزُّهْرِيُّ السُنَّةَ بأمر عمر بن عبد العزيز، كانت سلسلة الحفظ والصيانة متصلة لَمْ يَتَطَرَّقْ إليها الانقطاع فلا يصح أن يتطرق إليها الشك، أما ما دُسَّ عَلَى السُنَّةِ مِنْ كَذِبٍ فقد تَصَدَّى له العلماء وَبَيَّنُوهُ بما لا يترك مجالاً للشك، حتى إنَّ النفس لَتَطْمَئِنُّ إلى السُنَّةِ إِلَى حَدٍّ يكاد يصل إلى درجة اليقين، ومع هذا فنحن لا نقول: إن أحاديث الآحاد التي هي أكثر أحاديث السُنَّةِ أحاديث مقطوع بها تفيد العلم – مع أن بعض العلماء قد قاله – بل نقول: إنها تفيد الظن، ولا ينازع في إفادتها الظن إلا مكابر، وحسبنا هذا لتكون حُجَّةً يعتمد عليها.

وأما الدعوى بأن الظن في أحكام الدين غير جائز، فذلك فيما يتعلق بأصول الدين التي يكفر من جحدها أو شك فيها، كوحدانية الله وصدق رسوله ونسبة القرآن إلى رب العالمين، وكذلك في أركان الإسلام كالصلاة والزكاة وغيرهما مِمَّا علم من الدين بالضرورة، وليس كذلك بالنسبة إلى الفروع، إذ لا مانع أن تثبت عن طريق الظن، بل لا يستطيع هذا المخالف أن يَدَّعِي أنَّ أحكام الدين كلها تثبت عن طريق مقطوع به، فالأحكام التي أخذت من القرآن نفسه وهي مقطوع بها، قليلة بالنسبة لما أخدْت عن طريق الاجتهاد من نصوص القرآن، فإن في القرآن: العَامُّ وَالخَاصُّ، وَالمُطْلَقُ وَالمُقَيَّدُ، وَالمُجْمَلُ وَالمُبَيَّنُ، وكل ذلك يجعل القطع في فهم نصوصها بعيد المنال، وهذا أمر مُسَلَّمٌ به في علم الأصول، ويحسن أن نذكرك بما ألزم به الشافعي مُنكِرَ حُجِيَّةَ السُنَّةِ في عصره من العمل بالشهادة، وهي طريق ظَنِّيٌّ في ثبوت الحكم، لاحتمال كذب الشاهد: وخطئه، فهل يبقى بعد ذلك مجال للقول بِأنَّ الظَنَّ لا يصلح طريقاً لإثبات الأحكام؟

رابعاً: وهي ما ذكره من الأحاديث فإليك الجواب تفصيلياً:

أما الحديث الأول: «إنَّ الحَدِيثَ سَيَفْشُو عَنِّي … الخ» فقد قال فيه البيهقي: «رَوَاهُ خَالِدُ بْنُ أَبِي كَرِيمَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَالِدُ مَجْهُولٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ لَيْسَ بِصَحَابِيٍّ فَالحَدِيْثُ مُنْقَطِعٌ»، وقال الشافعي «مَا رَوَى هَذَا أحدٌ يَثْبُتُ حَدِيثُهُ فِي شَيْءٍ صَغُرَ وَلاَ كَبُرَ، فيُقَالَ لَنَا: قدْ ثَبَّتُّمْ حَدِيثَ مَنْ رَوَى هَذَا فِي شَيْءٍ، وَهَذِهِ أَيْضًا رِوايةٌ مُنْقَطِعةٌ عَنْ رَجُلٍ مَجْهُولٍ، وَنَحْنُ لاَ نَقْبَلُ مِثْلَ هَذِهِ الرِّوايَةِ فِي شَيْءٍ»  وقال ابن حزم في الحُسين بن عبد الله أحد رُوَاةِ هذا الحديث من بعض الطرق: «الحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللهِ سَاقِطٌ مُتَّهَمٌ بِالزَّنْدَقَةِ». وقال البيهقي أيضاً: «وَالحَدِيثُ الذِي رُوِيَ فِي عَرْضِ الحَدِيثِ عَلَى القُرْآنِ بَاطِلٌ لاَ يَصِحُّ، وَهُوَ يَنْعَكِسُ عَلَى نَفْسِهِ بِالبُطْلاَنِ فَلَيْسَ فِي القُرْآنِ دَلاَلَةً عَلَى عَرْضِ الحَدِيثِ عَلَى القُرْآنِ»

هذا ما قاله أهل العلم في الحديث، ولي هُنَا وقفة قصيرة، لئن كان رَدُّ الحديث من جهة السند كما ذكر أهل العلم بالحديث فلا كلام لنا فيه، ويجب أنْ نُسَلِّمَ لهم مَا قَالُوهُ، مع ملاحظة أنهم لم يَتَّفِقُوا على وضعه بل بعضهم يصفه بالضعف فقط كما رأيت من الشافعي والبيهقي، ولئن كان رَدُّهُ من جهة المتن فهذا الحديث قد رُوِيَ بألفاظ مختلفة، ففي أكثر الروايات «فَمَا وَافَقَ فَاقْبلُوهُ وَمَا خَالَفَ أَوْ لَمْ يُوَافِقْ فرُدُّوهُ» وهذا النص ليس فيه ما يقتضي الحكم بالضعف فضلاً عن أَنْ يقول فيه عبد الرحمن بن مهدي: «إِنَّهُ مِنْ وَضْعِ الخَوَارِجِ وَالزَّنَادِقَةِ» ذلك أن من المتفق عليه بين العلماء – وقد ذكرنا ذلك من قبل – أن من علائم وضع الحديث أن يكون مخالفاً للكتاب وَالسُنَّةُ القطعية .. فإذا جاءنا حديث بحكم «يخالف أو لا يوافق» ما في كتاب الله من أحكام ولا مجال للتأويل، حكمنا بوضعه باتفاق. وهل قال الحديث الذي نحن بصدده أكثر من هذا؟ نعم، لو كان نص الحديث كما في بعض الروايات «فَمَا وَجَدْتُمُوهُ فُي كِتَابِ اللهِ فَاقْبَلُوهُ وَمَا لَمْ تَجِدُوهُ فُي كِتَابِ اللهِ فرُدًّوهُ» لزم القول ببطلانه، لأنَّ من الأحاديث مَا أَثْبَتَتْ أَحْكَاماً ليست في كتاب الله باتفاق أهل العلم وهي صحيحة مقبولة معمول بها.

وقصارى القول أَنَّ أهل العلم مُجْمِعُونَ على أنَّ السُنَّةَ الصحيحة لا تخالف كتاب الله، فما جاء في بعض الأحاديث من أحكام تخالفه فهي مردودة باتفاق، قال ابن حزم: «لَيْسَ فِي الحَدِيثِ الذِي صَحَّ شَيْءٌ يُخَالِفُ القُرْآنَ». وقال مُحَمَّدٌ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسَرَّةَ: «الحَدِيثُ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ: فَحَدِيثٌ مُوَافِقٌ لِمَا فِي القُرْآنِ فَالأَخْذُ بِهِ فَرْضٌ، وَحَدِيثٌ زَائِدٌ عَلَى مَا فَي القُرْآنِ فَهُوَ مُضَافٌ إِلَى مَا فِي القُرْآنِ وَالأَخْذُ بِهِ فَرْضٌ، وَحَدِيثٌ مُخَالِفٌ لِمَا فِي القُرْآنِ فَهُوَ مُطَّرَحٌ». قال علي بن أحمد (يعني ابن حزم نفسه): «لاَ سَبِيلَ إِلَى وُجُودِ خَبَرٍ صَحِيحٍ مُخَالِفٍ لِمَا فِي القُرْآنِ أَصْلاً، وَكُلُّ خَبَرٍ شَرِيعَة فَهُوَ إِمَّا مُضَافٌ إِلَى مَا فِي القُرْآنِ وَمَعْطُوفٌ عَلَيْهِ وَمُفَسِّرٌ لِجُمْلَتِهِ، وَإِمَّا مُسْتَثْنَى مِنْهُ مُبَيِّنٌ لِجُمْلَتِهِ، وَلاَ سَبِيلَ إِلَى وَجْهٍ ثَالِثٍ»، وَإذا كان كذلك فلا وجه- فيما يظهر لي – للحكم على المتن بالوضع إذا كان لفظه «فَمَا لَمْ يُوَافِقْ أَوْ مَا خَالَفَ فَمَرْدُودٌ» وقد تأَيَّدَ لي هذا بما رأيته للشاطبي – رَحِمَهُ اللهُ – بعد كتابة ما تقدَّمَ حيث قال عند الكلام عن هذا الحديث ما خلاصته: «فَإِنَّ الْحَدِيثَ إِمَّا وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ صِرْفٌ، وَإِمَّا اجْتِهَادٌ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ مُعْتَبَرٌ بِوَحْيٍ صَحِيحٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَعَلَى كِلاَ التَّقْدِيرَيْنِ لاَ يُمْكِنُ فِيهِ التَّنَاقُضُ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ … نَعَمْ، يَجُوزُ أَنْ تَأْتِيَ السُّنَّةُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ وَلاَ مُوَافَقَةٌ، بَلْ بِمَا يَكُونُ مَسْكُوتًا عَنْهُ فِي القُرْآنِ؛ إِلاَّ إِذَا قَامَ الْبُرْهَانُ عَلَى خِلاَفِ هَذَا الْجَائِزِ، [وَهُوَ الَّذِي تَرْجَمَ لَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ]؛ فَحِينَئِذٍ لاَ بُدَّ فِي كُلِّ حَدِيثٍ مِنَ الْمُوَافَقَةِ لِكِتَابِ اللَّهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الحَدِيثُ الْمَذْكُورُ؛ فَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ صَحَّ سَنَدُهُ أَوْ لاَ». فتَدَبَّرْ .. وبذلك لا يكون في الحديث حُجَّةٌ لصاحب الشُبهة أصلاً حتى ولو صَحَّ سَنَدُهُ، لأننا نقول به.

وأما الحديث الثاني: «إِذَا حُدِّثْتُمْ عَنِّي حَدِيثًا تَعْرِفُونَهُ، وَلاَ تُنْكِرُونَهُ، قُلْتُهُ أَوْ لَمْ أَقُلْهُ، فَصَدِّقُوا بِهِ … الخ» فرواياته ضعيفة، قال فيه أبو محمد بن حزم: «هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ وَالأَصْبَغُ مَجْهُولٌ»، وَفِيهِ أَيْضًا مَا نَقْطَعُ بِكَذِبِهِ وَعَدَمِ صِحَّتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: “فصَدِّقُوا بِهِ، قُلتُهُ أَوْ لَمْ أَقُلْهُ”، فحاشا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يسمح بالكذب عليه وهو الذي تواتر عنه قوله «مَن كَذَب عَلَيّ مُتَعَمِّدًا فَليَتَبَوَّأ مَقعَدَهُ مِن النّارِ» ثم قال ابن حزم: «وعبد الله بن سعيد – أحد رُوَّاةُ الحديث – كَذَّابٌ مَشْهُورٌ، وهذا هو نسبة الكذب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه حكى عنه أنه قال: «لم أَقُلْهُ فأنا قُلتُهُ» فكيف يقول ما لم يَقُلْ؟ هل يستجِيزُ هذا إلا كَذَّابٌ زنديق كافر أحمق؟» وقال البيهقي: قال ابن خزيمة في صِحَّةِ هذا الحديث مَقالٌ لأنَّا لم نَرَ في شرق الأرض ولا غربها أحداً يعرف خبر ابن أبي ذئب من غير يحيى بن آدم، ولا رأيتُ أحداً من علماء الحديث يُثْبِتُ هذا عن أبي هريرة. قال البيهقي: وهو مُختلَفٌ على يحيى بن آدم في إسناده ومَتْنِهِ اختلافاً كبيراً يوجب الاضطراب، منهم من يذكرُ أبا هريرة، ومنهم من لا يذكرُهُ ويُرْسِلُ الحديثَ. نعم روي هذا الحديث من طرق مقبولة ليس فيها «قُلتُهُ أَوْ َلْم أَقُلْهُ» وليس فيه دلالة على ما يريد المخالف، فكل ما يدل عليه أنَّ من أدلة صدق الحديث أن يكون وِفْقَ ما جاءت به الشريعة من المحاسن، فإن جاء على غير ذلك كان دليلاً على كذبه، ونحن نقول به، ولكن أين فيه الدلالة على عدم حُجِيَّةِ السُنَّةِ؟

وأما الحديث الثالث: «إنِّى لاَ أُحِلُّ إِلاَّ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِى كِتَابِهِ وَلاَ أُحَرِّمُ إِلاَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِى كِتَابِهِ» فقد قال السيوطي: أخرجه الشافعي والبيهقي من طريق طاووس. فال الشافعي: وهذا منقطع. وكذلك صنع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبذلك أمر وافترض عليه أن يتبع ما أوحي إليه، ونشهد أن قد اتبعه، فإنما قبل بفرض الله تعالى. قال البيهقي: «وَقَوْلُهُ “فِي كِتَابِهِ”: إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ فَإِنَّمَا أَرَادَ فِيمَا أَوْحَىَ اللهُ: ثُمَّ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا وَحْيٌ يُتْلَى، وَالآخَرُ وَحْيٌ لاَ يُتْلَى»، وأنت ترى أنَّ االبيهقي فَسَّرَ الكتاب بما هو أعم من القراَن. وقد أطلق بهذا المعنى في حديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال لأبي الزاني بامرأة الرجل الذي صالحه على الغنم والخادم: «وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا الْغَنَمُ وَالخَادمُ رَدٌّ عَلَيْكَ وَأَنَّ امْرَأَتَهُ تُرْجَمُ إِذَا اعْتَرَفَتْ» ولا مانع من إجراء الكتاب على المتبادر منه وهو القراَن، فإنَّ ما يحرمه أو يحله الرسول حلال أوحرام في كتاب الله الذي أمر بطاعته ونهى عن مخالفته.

أَمَّا رِوَايَةُ «لاَ يُمْسِكَنَّ النَّاسُ عَلَيَّ بِشَىْءٍ» فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إنها من رواية طَاوُوسَ وهو حديث منقطع، ولو ثبت فمعناه أنه ليس للناس أن يقولوا كيف يُحَرِّمُ رَسُولُ اللهِ وَيُحِلُّ مَا لَيْسَ فِي القُرْآنِ؟ فَإِنَّ الرَّسُولَ مُشَرِّعٌ، وَهُوَ لاَ يُحِلُّ إلاَّ مَا كَانَ حَلاَلاً فِي شَرْعِ اللهِ، وَلاَ يُحَرِّمُ إلاَّ مَا كَانَ حَرَامًا.

بهذا يتبين لك أنَّ هذه الأحاديث التي استند إليها صاحب الشُبْهَةِ، منها ما لم يثبت لدى أهل العلم، ومنها ما ثبت ولكنه ليس فيه دليل على دعواه، كيف وقد ثبت في السُنَّةِ الصحيحة مَا يَرُدُّ على صاحب الشُبْهَةِ وأمثاله، فقد روى الشافعي عن سفيان بن عيينة عن سالم أبي النضر أنه سمع عُبَيْدَ اللهِ بْنَ أَبِي رَافِعٍ يُحَدِّثُ عن أبيه أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَةٍ يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِى مَا وَجَدْنَا فِى كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ» ورواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وأحمد وأخرج الحاكم بسنده إلى المقدام بن معد يكرب قال: «حَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْيَاءَ يَوْمَ خَيْبَرَ، مِنْهَا الحِمَارَ الأَهْلِيَّ وَغَيْرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “يُوشِكُ أَنْ يَقْعُدَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدِّث بِحَدِيثِي فَيَقُولُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلاَلاً اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ» قال الشافعي: «فَقَدْ ضَيَّقَ رَسُولُ اللهِ عَلَى النَّاس أَنْ يَرُدُّوا أَمْرَهُ، بِفَرْضِ اللهِ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعَ أَمْرِهِ».

وقصارى القول أَنَّ إنكار حُجِيَّة السُنَّة والادعاء بأن الإسلام هو القرآن وحده لا يقول به مسلم يعرف دين الله وأحكام شريعته تمام المعرفة، وهو يصادم الواقع، فإنَّ أحكام الشريعة إنما ثبت أكثرها بِالسُنَّةِ، وما في القرآن من أحكام إنما هي مجملة وقواعد كلية في الغالب، وإلاَّ فأين نجد في القرآن أَنَّ الصلوات خمسة، وأين نجد ركعات الصلاة، ومقادير الزكاة، وتفاصيل شعائر الحج وسائر أحكام المعاملات والعبادات؟ قال ابن حزم – رَحِمَهُ اللهُ -: «وَنَسْأَلُ قَائِلَ هَذَا القَوْلِ الفَاسِدِ: فِي أَيِّ قُرْآنٍ وَجَدَ أَنَّ الظُّهْرَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَأَنَّ المَغْرِبَ ثَلاَثَ رَكَعَاتٍ، وَأَنَّ الرُّكُوعَ عَلَىَ صِفَةِ كَذَا، وَالسُّجُودَ عَلَىَ صِفَةِ كَذَا، وَصِفَةِ القِرَاءَةِ وَالسَّلاَمِ، وَبَيَانِ مَا يُجْتَنَبُ فِي الصَّوْمِ، وَبَيَانِ كَيْفِيَّةِ زَكَاةِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَالغَنَمِ وَالإِبِلِ وَالبَقَرِ، وَمِقْدَارُ الأَعْدَادِ الْمَأْخُوْذَةِ مِنْهَا الزَّكَاةُ، وَمِقْدَارُ الزَّكَاةِ المَأْخُوذَةَ، وَبَيَانِ أَعْمَالِ الحَجِّ مِنْ وَقْتِ الوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَصِفَةَ الصَّلاَةِ بِهَا وَبِمُزْدَلِفَةَ، وَرَمِيَ الجِمَارِ، وَصِفَةَ الإِحْرَامِ، وَمَا يُجْتَنِبُ فِيهِ، وَقَطْعِ السَّارِقِ، وَصِفَةَ الرَّضَاعِ المُحَرَّمِ، وَمَا يَحْرُمُ مِنَ المَأْكَلِ وَصِفَتَا الذَّبَائِحِ وَالضَّحَايَا، وَأَحْكَامَ الحُدُودِ، وَصِفَةَ وُقُوعِ الطَلاَقِ، وَأَحْكَامَ البُيُوعِ، وَبَيَانِ الربا، والأقضية والتداعي، والأيمان والأحباس، والعمرى، والصدقات، وسائر أنواع الفقه، وإنما في القرآن جمل لو تركنا وإياها لم ندر كيف نعمل فيها، وإنما المرجوع إليه في كل ذلك، النقل عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك الإجماع إنما هو على مسائل يسيرة، فلا بُدَّ من الرجوع إلى الحديث ضرورة، ولو أَنَّ امْرُءاً قال: لا نأخذ إلاَّ ما وجدنا في القرآن، لكان كافراً بإجماع الأمر، ولكان لا يلزمه إلاَّ ركعة ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل، وأخرى عند الفجر، لأنَّ ذلك هو أقل ما يقع عليه اسم صلاة، ولا حد للأكثر في ذلك، وقائل هذا كافر مشرك حلال الدم والمال، وإنما ذهب إلى هذا بعض غَالِيَةِ الرَّافِضَة مِمَّنْ قد اجتمعت الأُمَّةُ على كفرهم، ولو أنَّ امرأً لا يأخذ إلا بما اجتمعت عليه الأُمَّةُ فقط، ويترك كل ما اختلفوا فيه مِمَّا قد جاءت فيه النصوص، لكان فاسقاً بإجماع الأُمَّةِ، فهاتان المُقَدَّمَتَانِ توجب بالضرورة الأخذ بالنقل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى