خطب الجمعة

صلة الرحم

خطبة يوم الجمعة 14/9/1430 الموافق 4/9/2009

روى الشيخان عن أبي سفيان في حديثه الطويل مع هرقل، وفيه أن هرقل قال له: {فماذا يأمركم؟ قال: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة} روى ابن حبان وروى أنس مرفوعاً: {أرحامكم أرحامكم} ابن عساكر عن ابن مسعود مرفوعاً: {اتقوا الله وصلوا أرحامكم} وروى ابن حبان عن أبي هريرة مرفوعاً {أطب الكلام وأفش السلام وصل الأرحام وصلّ بالليل والناس نيام ثم ادخل الجنة بسلام}. وفي الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة مرفوعاً: {إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطعية قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك واقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذلك لكِ}، ثم قال الرسول: {اقرؤوا إن شئتم )فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم  أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم( روى أحمد عن ابن عباس مرفوعاً: {إن الرحم شجنه آخذه بحجزة الرحمان تصل من وصلها وتقطع من قطعها}. روى البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً: ((الرحم شجنه من الرحمن قال الله: من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته)). روى مسلم عن عائشة: قالت: قال صلى الله عليه وسلم ((إن الرحم أخذت بقائمة من قوائم العرش)). ((الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله)). روى أحمد وأبو داود من حديث أبي هريرة مرفوعاً: ((قال الله تعالى: أنا خلقت الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته، ومن بتها بتته)).

من هم الأرحام؟ ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في فتح الباري بيان الأرحام فقال: “يطلق على الأقارب وهم من بينه وبين الآخر نسب، سواء كان يرثه أم لا. سواء كان ذا محرم أم لا”. وقال الشيخ ابن عثيمين: “الأرحام والأنساب هم أقارب الإنسان نفسه كأمه وأبيه وابنه وابنته وكل من كان بينه وبينهم صلة من قِبل أبيه أو من قِبل أمه أو من قِبل ابنه أو من قِبل ابنته”.

1.               كيف يكون صلة الرحم؟ تكون بأمور منها:

·       معرفة النسب – تصبح قريبة بالصلة. روى الحاكم عن ابن عباس مرفوعاً: {اعرفوا أنسابكم تصلوا أرحامكم؛ فإنه لا قرب بالرحم إذا قطعت وإن كانت قريبة، ولا بعد بها إذا وصلت وإن كانت بعيدة}

·       بالأفعال: وفي قصة أبي طلحة في الصحيحين وقد تصدق بستانه فقال : ((بخ ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، قال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها في أقاربه وبني عمه)) في الحديث المتفق عليه عن زينب زوج ابن مسعود رضي الله عنهما قال الرسول : ((تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن)) قالت امرأة عبد الله بن مسعود فقلت: لعبد الله: سلْ رسول الله : أمجزئ عني أن أنفق عليك وعلى أيتام في حجري من الصدقة؟ فقال: سلي أنتِ رسول الله ، فانطلقت فوجدت بلالاً فقالت له: سل رسول الله  أيجزئ أن أنفق على زوجي وأيتام في حجري؟ فسأله، فقال : ((لهما أجران أجر القرابة وأجر الصدقة)).

·       بالإحسان إليها: روى مسلم من حديث أبي ذر مرفوعاً: ((ستفتحون مصر وهي أرض يسمى فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم ذمة ورحماً)). روى الترمذي عن البراء بن عازب مرفوعاً: ((الخالة بمنزلة الأم)). وفي الحديث المتفق عليه عن ميمونة: ((أعتقت وليدة قال: أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك)).

·       النصيحة: وروى مسلم عن أبي هريرة: لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين، دعا رسول الله قريشاً فعمّ وخصّ وقال: ((يا بني عبد شمس يا بني كعب بن لؤي: أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب..  يا بني عبد مناف..  يا بني هاشم..  عبد المطلب..  يا فاطمة..  فإني لا أملك لكم من الله شيئاً غير أن لكم رحماً سأبُلها ببلالها)).

·       السلام: وفي مسند البزار عن ابن عباس مرفوعاً: ((بلوا أرحامكم ولو بالسلام)).

·       مقابلة الإساءة بالإحسان: روى البخاري عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً: ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل إذا قطعت رحمه وصلها)). روى مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: ((أن رجلاً قال: إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي فقال: لئن كنت كما قلت: فكأنما تسفُّهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم)). وقال : ((صل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك، وقل الحق ولو على نفسك)).

·       وقال ابن عابدين: “وإن كان غائباً يصلهم بالمكتوب إليهم، فإن قدر على المسير كان أفضل”.

2.   فضائل صلة الرحم: وفي مسند أبي يعلى عن رجل من خثعم مرفوعاً: ((أحبُّ الأعمال إلى الله إيمان بالله ثم صلة الرحم ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..)). روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله قال: قال الله: ((أما ترضين أن أصل من وصلك)). روى أحمد والترمذي عن أبي هريرة: قال: قال صلى الله عليه وسلم {تعلَّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر} وقال ابن مسعود مرفوعاً: ((صلة الرحم تزيد في العمر، وصدقة السر تطفئ غضب الرب)). وروى أحمد وأبو داود عن أبي هريرة: قال: قال صلى الله عليه وسلم ((وإن أعجل الطاعة ثواباً لصلة الرحم، حتى إن أهل البيت ليكونوا فجرة فتنموا أموالهم ويكثر عروهم إذا تواصلوا)). وروى البيهقي عن أبي هريرة مرفوعاً: ((ليس شيء أطيع الله تعالى فيه أعجل ثواباً من صلة الرحم)). روى البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً: ((من سره أن يبسط في رزقه وأن ينسأ في أثره فليصل رحمه)). وروى أحمد والبيهقي في الشعب عن عائشة مرفوعاً: ((صلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمرن الديار ويزدن في الأعمار)). وفي صحيح البخاري عن أبي أبو أيوب أن رجلاً قال: أخبرني بعمل يدخلني الجنة؟ فقال : ((تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الأرحام)).

3.   عقوبة قاطع الرحم: في مسند أبي يعلى عن رجل من خثعم مرفوعاً: ((وأبغض الأعمال إلى الله الإشراك بالله ثم قطيعة الرحم)). روى البخاري عن أبي هريرة: قال: قال صلى الله عليه وسلم ((وأقطع من قطعك)). وروى الطبراني عن عوف بن مالك قال : ((أخاف عليكم تسعاً: إمارة السفهاء، وسفك الدماء، وبيع الحكم، وقطيعة الرحم، ونشواً يتخذوا القرآن مزامير، وكثرة الشرط)). روى الترمذي عن أبي هريرة مرفوعاً: ((إياكم وسوء ذات البين فإنها الحالقة)). روى أحمد وأبو داود عن أبي بكرة مرفوعاً: ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)). روى البخاري عن جبير بن مطعم مرفوعاً: ((لا يدخل الجنة قاطع)). وروى البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة مرفوعاً: ((إن أعمال بني آدم تعرض كل عشية خميس ليلة جمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم)) [قال الألباني ضعيف]. وروى الطبراني عن ابن مسعود مرفوعاً: ((إن أبواب السماء مغلقة دون قاطع الرحم)). وروى البخاري في الأدب المفرد عن ابن أبي أوفى مرفوعاً: ((إن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع الرحم)) [قال الألباني ضعيف].

وفي الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري t أن رجلاً قال: يا رسول الله أخبرني بما يدخلني الجنة ويباعد ني عن النار فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصل رحمك)) فلما أدبر قال النبي صلى الله عليه وسلم ((إن تمسك بما أمرته به دخل الجنة)).

وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله)).

وصلة الرحم سبب لكثرة الرزق وطول العمر وحصول البركة لصاحبه بعمل الصالحات فيه.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه)) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيقل خيراً أو ليصمت)) رواه البخاري ومسلم.

عباد الله، إذا كان لصلة الرحم كل هذا الأجر في الدنيا وفي الآخرة، فلا ريب أن لقاطع الرحم عقوبة، تعدل في شدتها شدة منكرة وإثمه الذي فعله، وذلك لما يترتب على قطع الرحم من تقطيع لأواصر المجتمع المسلم وتفكيك لعراه، وخلخله لبنيانه، وانفراط لعقده. لذا فقد جاء التهديد والوعيد والعقوبة الشديدة لمن قطع رحمه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وهذه العقوبة ـ إخوة الإسلام ـ منها ما هو معجل في الدنيا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)).

وتتمثل هذه العقوبة العاجلة في عدم قبول الأعمال الصالحة، إذ ترد على صاحبها، وهي خسارة فادحة للمسلم.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أعمال بني آدم تعرض كل خميس ليلة الجمعة، فلا يقبل عمل قاطع رحم)) حديث حسن رواه الإمام أحمد.

وتعظم الخسارة لمن أصرّ على قطع رحمه بطرده من رحمة الله حيث يدخل تحت لعنة الله تعالى والعياذ بالله، ولا خير في عمل وكسب بدون رحمة الله تعالى وحفظه وبركته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال: نعم. أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت بلى. قال فذلك لك)) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقرؤوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَـٰرَهُمْ.

ثم تكون العقوبة الأخروية ـ إخوة الإسلام ـ، وإنها لأعظم عقوبة يعاقب بها إنسان قط، وهي الحرمان من الجنة. ووالله ليس لمن حرم من الجنة من موئل إلا النار إلا من رحم الله. فقد ورد عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يدخل الجنة قاطع. قال سفيان: يعني قاطع رحم)) رواه البخاري ومسلم.

وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق، وإن هذه الرحم شجنة من الرحمن عز وجل، فمن قطعها حرّم الله عليه الجنة)). وهذا في حق من استحل قطيعة الرحم والعياذ بالله.

فاتقوا الله عباد الله، واحذروا قطيعة الرحم وقوموا بصلتها ابتغاء مرضاة الله تعالى ورجاء الأجر والثواب منه جل في علاه ولا تقابل من قطعك بالقطيعة واصبر واحتسب، وكما قيل:

وإن الـذي بينـي وبين بني أبـي          وبيـن بني عمـي لمختلفُ جـداً

إذا أكلوا لحمي وفـرت لحومهـم                 وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجـداً

وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم       وإن هم هووا غيِّ هويت لهم رشداً

وليسوا إلى نصري سراعاً وإن هم       دعوني إلى نصـر أتيتهـم شـدَّا

ولا أحمل الحقـد القديـم عليهـم                 وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا

لهم جل مالـي إن تتابع لي غنى         وإن قـل مالـي لم أكلفهـم رفدا

وإني لعبد الضـيف ما دام نـازلاً                 وما شيمة لي غيرها تشبه العبـدا

جعلنا الله وإياكم ممن يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم…


 

 

إخوة الإسلام، وبعد أن سمعنا فضل صلة الرحم وعقوبة قاطعها نورد تساؤلات قد تمر على أذهان البعض من أفراد المجتمع، فمن ذلك من يقول أن رحمي لا تستحق الصلة لأنهم يبادلونني عن الحسنة بالسيئة، وعن الصلة بالقطيعة فما هو موقفي منهم؟ وجواب ذلك ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما رواه البخاري: ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها)).

فالمسلم عندما يصل أرحامه يقوم بأمر أوجبه الله تعالى عليه، يطلب به الأجر والمثوبة من ربه لا من أرحامه. لذلك فالصلة الحقيقية هي التي تبتدئ بالإحسان دون انتظار مكافئ من القول أو الفعل صادر من ذوي القربى وأعظم منها الصلة التي تستمر على الرغم من إساءة ذوي القربى ومقابلة إساءتهم بالإحسان.

ولا شك ـ عباد الله ـ أن ذلك شديد على النفس، ولا يقدر عليه إلاّ من وفقه الله، قال الشاعر في هذا:

وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة                على النفس من وقع الحسام المهندِ

ولا ريب أن مثل هذا الواصل يستحق من الله تعالى كل عون ونصر وتأييد.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي وأحلم عليهم ويجهلون علي؟! فقال: ((إن كنت كما قلت فكأنما تسُفُّهم المل ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك)) رواه مسلم. ومعنى: ((تسفهم المل)) أي: كأنما تطعمهم الرماد الحار، وهو تشبيه لما يلحقهم من الألم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم. ولا شيء على هذا المحسن، بل ينالهم الإثم الفظيع في قطيعته وإدخالهم الأذى عليه.

والبعض يسأل: وإن كانت القرابة كافرة فهل تجوز صلتهم؟ فيقال: إن كانوا ممن يناصبون الإسلام العداء، بأية صورة من صور العداوة وأساليبها فلا تجوز صلتهم، بل تجب مقاطعتهم ومعاداتهم، وإلا فلا مانع من صلتهم والإحسان إليهم من غير أن يكون لهم ولاء في القلب، قال تعالى: لاَّ يَنْهَـٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَـٰتِلُوكُمْ فِى ٱلدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَـٰرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8].

وقد يسأل سائل فيقول كيف نستطيع أن نصل أرحامنا وهم كثر وفي أماكن متفرقة، ونحن في زمن تزاحمت فيه الأعمال والحقوق والواجبات، ففي هذه الحالة يبدأ المسلم بالأولى فالأولى، والأقرب فالأقرب، ويمكن الجمع بينهم بحسب الحال، فمنهم من يمكن زيارته لقربه منه، ومنهم من يوصل بالمراسلة بالبريد، ومنهم من يتصل به بالهاتف، ومنهم من يهدى إليه بعض الهدايا، ومنهم من يسافر إليه وذلك باستغلال أيام الإجازة والعطل في صلة الأرحام وزيارتهم والأنس بهم، ومن يتحرّ الخير يعطه، وكما قال تعالى: فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ فإذا بذل الإنسان جهده في صلة رحمه وفقه الله تعالى لذلك ويسر أمره وأعانه.

وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذلك بصلة الرحم فقال في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه, ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)).

وكانت صلة الرحم من أول من أرشد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وصل المدينة بعد الهجرة فقال عليه الصلاة والسلام كما أخرجه الترمذي عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه والحديث صحيح: ((أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)).

والأرحام الذين جاء الأمر في القران والسنة بصلتهم هم الأقارب, وهم من بينه وبين الآخر نسب, سواءً كان يرثه أم لا، وسواءً كان محرماً أم لا، وقيل الأقارب: هم المحارم فقط، والأول هو المُرَجَّح لكون الثاني يستلزم خروج أولاد الأعمام وأولاد الأخوال من ذوي الأرحام وليس كذلك.

لو قيل إن المراد بهم المحارم فقط لخرج أولاد الأعمام وأولاد الأخوال من ذوي الأرحام، بل هم الأقارب سواءً كانوا ورثةً أو لا، وسواءً كانوا محارم أم لا.

وإنما يُوصَلُ الأرحام بحسب درجتهم في القرابة, فيُقَدَّم الأقرب فالأقرب كما جاء عند البخاري في الأدب المفرد وعند أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم من حديث المقدام بن معد يكرب قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله يوصيكم بأمهاتكم ـ وأعادها ثلاثاً ـ ثم يوصيكم بآباءكم ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب)).

وروى الحاكم والحديث عند أصحاب السنن الثلاثة وأحمد وابن حبان عن أبي رتقة رضي الله عنه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: ((أمك وأباك ثم أختك وأخاك ثم أدناك وأدناك)).

يعني: ابدأ في البر بالأم والأب ثم من يليهم ثم من يليهم هكذا بالأقرب فالأقرب.

والمراد بصلة الرحم يعني الأمر الذي يتحقق به صلة الأرحام موالاتهم، ومحبتهم أكبر من غيرهم لأجل قرابتهم وتأكيد المبادرة إلى صلحهم عند عداوتهم والاجتهاد في إيصال كفايتهم بطيب نفس عند فقرهم، والإسراع إلى مساعدتهم ومعاونتهم عند حاجتهم ومراعاة جبر قلوبهم مع التلطف بهم وتقديمهم في إجابة دعوتهم والتواضع لهم في غناه وفقرهم, وقوته وضعفهم. إذا كان هو غنياً وهم فقراء, وهو قوي وهم ضعفاء, لزمه أن يتواضع لهم ليكون بذلك واصلاً لأرحامه ومداوماً مودتهم ونصحهم في كل شؤونهم والبداءة بهم في الدعوة والضيافة قبل غيرهم وإيثارهم في الإحسان والصدقة والصلة على من سواهم فإن الصدقة عليهم صدقة وصِلة, والهدية في معناها ونحوها, ويتأكد فعل ذلك مع الرحم الكاشح أي المبغض, يفعل ذلك معه ويتأكد معه أكثر من غيره كما سيأتي من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عسى أن يعود ويرجع عن بغضه إلى مودة قريبة ومحبة.

قال القرطبي رحمه الله: والرحم التي تُوصَلُ عامة وخاصة, والمراد بالعامة رحم الدين وهم إخوانك في هذا الدين العظيم وإن لم يكن بينك وبينهم قرابة, وتجب مواصلة هذه القرابة بالتوادد والنصح والعدل والإنصاف، والقيام بالحقوق الواجبة والمستحبة, وأما الرحم الخاصة وهي التي سبقت الإشارة إليها وإلى بيانها، فتزيد النفقة على القريب وتفقد أحوالهم والتغافل عن زلاتهم, وتتفاوت مراتب استحقاقهم في ذلك كما في حديث الأقرب فالأقرب وقد تقدم.

وقال ابن أبي جمرة رحمه الله: تكون صلة الرحم بالمال وبالعون على الحاجة وبدفع الضر وبطلاقة الوجه وبالدعاء وهذا إنما يستمر إذا كان أهل الرحم أهل استقامة، فإن كانوا كفاراً أو فجاراً فمقاطعتهم في الله هي صلتهم بشرط بذل الجهد في وعظهم ثم إعلامهم إذا أصروا أن ذلك بسبب تخلّفهم عن الحق.

تعلمهم بعد أن تنصحهم وتبذل الجهد في وعظهم إذا قررت هجرتهم لأجل كفرهم أو فجورهم أو فسقهم تعلمهم بالسبب المانع من صلتهم وأنه تخلفهم عن الحق ولا تسقط مع ذلك صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب أن يعودوا إلى الطريق المُثلى.

ومن اللطائف ما كتب ابن المقري إلى والده حين امتنع من النفقة عليه فكتب إليه قال:

لا تقطعن عـادة ولا تجعـل          عتاب المـرء فـي رزقه

فإن أمر الإفك من مسـطح               يحط قدر النجـم من أفقه

فقد جرى منه الذي قد جرى             وعوتب الصديق في حقه

وهذا إشارة إلى ما وقع من خوض مسطح بن أثاثة في قصة الإفك في عائشة رضي الله عنها عندما خاضوا في عرضها وكان مسطح ابن خالة أبي بكر وكان أبي بكر يعطف عليه فيصله، ويحسن إليه, فلما كان من الواقعين في عرض ابنته وبرَّأ الله عز وجل عائشة من فوق سبع سماوات فقال: أُوْلَـئِكَ مُبَرَّءونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النور:26] حلف أبو بكر رضي الله عنه لما علم بوقوع مسطح مع من وقع بأن يقطع عنه صلته، فعاتب الله تبارك وتعالى الصديق في ذلك وأمره أن يحسن إليه وألا يقطع صلته وصدقته فقال سبحانه في إطار نفس القصة: وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينَ َٱلْمُهَـٰجِرِينَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النور:22].

لا يحلف أولو الفضل والسعة على عدم الإعطاء, وزاد سبحانه أن قال: وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أيضاً أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.

فعاد أبو بكر إلى الصلة وزاد على ما كان يعطيه من قبل.

لكن والد هذا الكاتب المعاتب ـ ابن المقري ـ كتب إليه أيضاً مبيناً له السبب في المنع فقال:

قد يُمنع المضطر من ميتة   إذا عصا في السير في طرقه

لأنـه يقـوى على توبـة      توجب إيصـالاً إلى رزقـه

لو لم يتب من ذنبه مسطح         لمـا عوتب الصديق في حقه

قد يمنع المضطر من ميتة لأن أهل العلم لا يرخصون للمسافر سفر معصية إذا اضطر أن يأكل من الميتة، كما هو مرخص فيه للمسلمين عامة ، يقولون لأنه مسافر سفر معصية، فيقول البعض: هل نتركه يموت، أيهلك؟ فيقول: المانعون من الترخيص، لا، بل يتوب ويأكل، لهذا يقول الوالد لولده:

قد يُمنع المضطر من ميتة   إذا عصى في السير في طرقه

لأنـه يقـوى على توبـة      توجـب إيصـالاً إلى رزقـه

يعني عُد إلى الله في برِّك وأدبك وخلقك يعد إليك ما كنت أرسله إليك من الصلة والإحسان والنفقة وغير ذلك.

لو لم يتب من ذنبه مسطح         لما عوتب الصديق في حقه

ومن الآثار المحمودة لصلة الرحم وفضلها وفوائدها:

أنها سبب لبسط الرزق والتوسيع فيه وطول العمر والبركة فيه, فيبارك لواصل رحمه ما لا يبارك لغيره, فيتمكن في عمر قصير من أداء أعمال كثيرة جليلة عظيمة بينما خذل غيره من الذين اشتغلوا بجمع حطام دنياهم، واشتغلوا بحظوظ أنفسهم العاجلة وشهواتها، فلم يعرفوا ربهم ولم يمتثلوا بالطاعة وأعرضوا عن ذكره وشكره.

ومن بين ما أعرضوا عنه صلة الأرحام فخُذِلوا, بينما وُفِق واصل رحمه وبُسِط له في رزقه ووُسِع عليه, وبُورِك له في عمره وعمله.

ويدل لذلك حديث أنس المتفق عليه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه)).

اللهم اجعلنا يا إلهنا من عبادك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وتوفنا وأنت راضٍ عنا وقد قبلت اليسير منا, واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.


 

 

وياله من توجيه رفيع من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجه المسلم من خلاله إلى أن لا يريد في جميع أعماله إلا رضى الله عز وجل وحده وهذا يعرفه من عرف الإخلاص ومكانته وأثره، فلا يعبأ بقطيعة في مقابل صلة، وإساءة في مقابل إحسان، لأن الواصل ليس هو الذي يرد صلة بصلة وإحساناً بإحسان، بل الواصل الذي يصل, ويقطعه أرحامه, ويُحسن ويسيء إليه من أحسن إليهم، هذا هو الواصل من خلال بيان وكلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وأخرج الطبراني وابن خزيمة والحاكم وقال على شرط مسلم عن أم كلثوم بنت عتبة رضي الله عنهما قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح)) يا له أيضاً من بيان وتوجيه رفيع في غاية الرفعة حتى إنه صلى الله عليه وسلم ليجعل أفضل الصدقة ما كانت على رحم كاشح مُبغض مضمر للعداوة ولا يشكر لأحد فضلاً ولا يشكر لأحد إحساناً ولا يعرف لأحد معروفاً.

وقد روى البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يشكر الله من لا يشكر الناس)).

ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم يوجه المسلم إلى أن لا يريد في جميع أعماله إلا رضى الله عز وجل فحسب وألا يلتفت إلى إرادة الجزاء من العباد, بل عليه أن يرغب في الثواب من رب العباد؛ لأنه هو الأكرم وهو الأوسع فضلاً, وهو صاحب الخزائن الملأى سبحانه.

فمن ذا الذي يستطيع من خلقه أن يُثيب بمثقال ذرة من جزائه وإثابته وفضله سبحانه ، فالعاقل الأريب صاحب اللب من اتجه إلى إرادة الثواب من الله عز وجل لأنه خير وأبقى.

ومن جميع ما تقدم تبين أهمية صلة الرحم ومكانتها وتأكد فضلها، فإن لم يكن فيما ورد من فضلها كفاية في الحث على هذه الصلة للناس فيكفي ما جاء من التحذير والوعيد والتهديد الشديد من قطع الرحم، يكفي ما جاء في ذلك للحث على تجنب القطيعة, ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله لما فرغ من خلق الخلق قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بل من القطيعة، فقال سبحانه: أما ترضين أن أصل من وصلك وأن أقطع من قطعك، قالت: بلى، قال: فذلك لكِ)).

قال عليه الصلاة والسلام: ((فاقرؤوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَـٰرَهُمْ)).

وفي صحيح البخاري عن جبير بن مطعم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل الجنة قاطع)) يعني قاطع رحم.

وعند الترمذي بسند حسن صحيح وابن ماجه وقال الحاكم: صحيح الإسناد عن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)) ليس هناك ذنب يستحق العبد أن يعجل الله له العقوبة في الدنيا مع ما ينتظره في الآخرة من العذاب من البغي أي من الظلم ويدخل تحت الظلم أمور كثيرة منها:

أن تحيد عما جاء به الكتاب والسنة من معرفة الله عز وجل ووصفه بصفاته التي جاءت في الكتاب والسنة, وأيضاً إطلاق الأسماء عليه سبحانه الذي جاء بها الكتاب والسنة ونحو ذلك من الأمور التي تتعلق بالربوبية والألوهية. من حاد عن ذلك وخرج عن الجادة وأبى إلا أن يخالف سلفنا الصالح فيما علمونا إياه مما ينبغي لله عز وجل من إجلال وتعظيم وتوقير فهو ظالم. ويدخل تحت الظلم كما قلت أمور كثيرة ليس هذا موضع بسطها.

فالبغي هو الظلم وقطيعة الرحم قد علمتم ما ورد فيها فهذه الذنوب جديرة بأن يعجل الله لصاحبها العقوبة في الدنيا مع ما ينتظره في الآخرة بحسب الظلم الذي وقع منه ، وأيضاً بسبب قطيعة رحمه.

فيا أيها الأخوة الكرام, امتثلوا أوامر ربكم تبارك وتعالى بعبادته وطاعته وبر الوالدين وصلة الأرحام وإياكم والقطيعة, فإن فعلتم ذلك ـ أي إن امتثلتم لما أمركم الله به واجتنبتم ما نهاكم الله عنه ـ أفلحتم في الدنيا وفي الآخرة وكنتم من السعداء الذين قال الله عنهم في سورة هود: وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى ٱلْجَنَّةِ خَـٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَـٰوٰتُ وَٱلاْرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108] أي غير منقطع.

أيها المسلمون، ما أمر الله بتوحيده وما نهى عن الإشراك به إلا وقَرَنَ ذلك بالإحسان إلى الوالدين والأقربين، اقرؤوا إن شئتم: وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰنًا وَبِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱلْجَارِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ وَٱلصَّـٰحِبِ بِٱلجَنْبِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا [النساء:36]، وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـٰهُ وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰنًا [الإسراء:23]، ثم قال سبحانه: وَءاتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ [الإسراء:26].

إن أساس التواصل والرباط الموثّق هو التوادّ والتراحم، وإذا فُقِد ذلك تقطّعت الأوصال واستشرى الفساد وحقّت لعنة الله عياذًا بالله، وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـٰقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى ٱلأرْضِ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ ٱللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء ٱلدَّارِ [الرعد:25].

إن صلة الرحم بركة في الأرزاق وتوفيق في الحياة، ويكتب الله بها العزّة والمنعة، وتمتلئ القلوب بها إجلالاً وهيبة. أخرج الإمام أحمد وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: ((وصلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان الأعمار))، وروى البزّار بإسناد جيد والحاكم عن علي قال: (من سرّه أن يُمدّ له في عمره ويوسّع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه)، وفي صحيح البخاري مرفوعًا: ((من أحب أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أجله فليصل رحمه))، وفي الخبر: (صلة الرحم محبة في الأهل ومثراة في المال ومنسأة في الأثر) أي: زيادة في المال والعمر وبركة فيهما.

بصلة الأرحام تقوى المودّة، وتزيد المحبّة، وتتوثّق عُرى القرابة، وتزول العداوة والشحناء، ويحِن ذو الرحم إلى أهله.

اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن صلة الرحم والإحسان إلى الأقربين ذات مجالات واسعة ودروب شتّى، فمن بشاشة عند اللقاء ولين في المعاملة، إلى طيب في القول وطلاقة في الوجه. إنها زيارات وصِلات، وتفقّد واستفسارات، مكالمة ومراسلة، إحسان إلى المحتاج، وبذل للمعروف، وتبادل في الهدايا. ينضم إلى ذلك غض عن الهفوات وعفو عن الزلات وإقالة للعثرات، عدل وإنصاف، واجتهاد في الدعاء بالتوفيق والصلاح. وأصدق من ذلك وأعظم مداومة الصلة ولو قطعوا، والمبادرة بالمغفرة إذا أخطؤوا، والإحسان إليهم ولو أساؤوا. إن مقابلة الإحسان بالإحسان مكافأة ومجازاة، ولكن الصلة الواصلة بُينت في قول نبينا محمد : ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قُطِعت رحمه وصلها)). وجاء رجل إلى النبي فقال له: يا رسول الله، إن لي قرابة أصِلُهم ويقطعوني، وأُحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم عليهم ويجهلون عليّ، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لئن كان كما تقول فكأنما تسفّهُمُ المَلّ ـ أي: تطعمهم الرماد الحار في أفواههم ـ، ولا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك)).

ومع كل ذلك أيها المؤمنون، ومع هذه الآيات والأحاديث فإن في الناس من تموت عواطفه، ويزيغ عن الرشد فؤاده، فلا يلتفت إلى أهل، ولا يسأل عن قريب. إن العار والشنار فيمن منحه الله جاهًا وأحسن له رزقًا، ثم يتنكّر لأقاربه أو يتعالى عليهم، بل قد يترفع أن ينتسب إليهم فضلاً عن أن يشملهم بمعروفه ويمدّ لهم يد إحسانه.

إن قطيعة الرحم شؤم وخراب وسبب للعنة وعمى البصر والبصيرة، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ٱلأرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَـٰرَهُمْ [محمد:23، 24].

إن تقطيع الأرحام من أعظم كبائر الذنوب، وعقوبتها مُعجّلة في الدنيا قبل الآخرة، أخرج أبو داود والترمذي وصححه الحاكم عن أبي بكرة عن النبي قال: ((ما من ذنب أجدر أن يُعجّل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدّخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم))، وروى الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إن أعمال بني آدم تعرض كل عشيّة خميس ليلة الجمعة، فلا يُقبل عمل قاطع رحم)).

فأسرة الإنسان وقرابته ـ يا عباد الله ـ هم عدّته وسنده، وهم أصله وقوته، يقول علي رضي الله عنه: (أولئك هم عشيرتك، بهم تصول وتطول، وهم العدّة عند الشدّة، أكرِم كريمهم، وعُد سقيمهم، ويسِّر على معسرهم، ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك).

أيها المؤمنون، إن صلة الأرحام حق لكل من يمتّ إليك بصلة نسب أو قرابة، وكلما كان أقرب كان حقه ألزم وأوجب: أمك وأباك ثم أدناك أدناك. وطريق القيام بحق الأقارب والأرحام فشو المودّة واتساع الصدور وسلامة القلوب. وإن أعظم ما امتن الله به على الزوجين اللذين هما أصل الأسرة ونواتها أن جعل المودة والرحمة بينهما، وَمِنْ ءايَـٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوٰجًا لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21].

أيها المسلمون، إن أسرع الخير ثوابًا البرّ وصلة الرحم، وأسرع الشرّ عقوبة البغي وقطيعة الرحم، ومع هذا ترى في بعض مَن قَلّ نصيبهم مِن الخير مَن يسارع في قطع صِلاته بأقاربه لأدنى سبب، إما لكلمة سمعها، أو شيءٍ صغيرٍ رآه، وما درى أنه بهذا قد يجرّ إلى نفسه وأهله العداوة والجفاء، فيستحقّون اللعنة وزوال النعمة وسوء العاقبة، وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـٰقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى ٱلأرْضِ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ ٱللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء ٱلدَّارِ [الرعد:25]. ولقد أوصى زين العابدين علي بن الحسين ابنه رضي الله عنهم أجمعين فقال: “لا تصاحب قاطع رحم، فإني وجدته ملعونًا في كتاب الله في ثلاثة مواضع”.

فاتقوا الله، وصلوا أرحامكم، فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض. قدّموا لهم الخير ولو جفوا، وصلوهم وإن قطعوا، يُدِم الله عليكم بركاته، ويبسط لكم في الأرزاق، ويبارك في الأعمار. قال الله تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].

أيها المسلمون، اعلموا أن حق القريب رحم موصولة وحسنات مبذولة وهفوات محمولة وأعذار مقبولة، ولئن كانت صلة الرحم تعني الإحسان إلى المحتاج ورفع الظلم عن المظلوم والمساعدة على وصول الحق فليس من صلة الرحم المناصرة على الباطل والعون على الظلم والبغي والعدوان، فما هذا إلا الحميّة الجاهلية الممقوتة، تفشو بها العداوة، وينشر بها الفساد، وتتقطّع بها الأرحام، ولن يكون البغي والعدوان طريقًا إلى الحق أو سبيلاً إلى العدل والخير. فاعرفوا الحق وميّزوه عن الباطل، ولا تأخذكم العزّة بالإثم، واستقيموا على أمر ربكم، ((أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام)).

لقد شاء المولى تعالى وتبارك بلطفه وتدبيره وحكمته وتقديره أن يكون بناء الإنسانية على وشيجة الرحم وقاعدة الأسرة من ذكر وأنثى من نفس واحدة وطبيعة واحدة، رحم وقربى تتوثّق عراها، ويتجذّر نباتها؛ ليقوم على سُوقِه بإذن ربه، فيحمى من المؤثّرات، ويحفظ من العاديات.

يقول بعض أهل العلم: “ما بُعِث أنبياءُ الله في أواسط البيوت من أقوامهم إلا لما يُقَدّر الناس من أمر الرحم، ويعرفون من شأن القرابة”، قُل لاَّ أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِى ٱلْقُرْبَىٰ [الشورى:23]. وحينما قلّت عشيرة نبي الله لوط عليه السلام وضعف ركن قرابته أعذر نفسه بقوله: قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِى إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود:80]، ومن ثم قال نبينا محمد : ((يغفر الله للوط، إن كان ليأوي إلى ركن شديد، ولكنه عنى عشيرته، فما بعث الله نبيًّا بعده إلا في ثروة من قومه)). ومن بعد لوط قال قوم شعيب لشعيب عليه السلام: وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَـٰكَ [هود:91]، وامتن الله على نبيه محمد بقوله: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَاوَىٰ [الضحى:6].

أيها المسلمون، إذا كتب الله لعبده التوفيق فكان إلفًا مألوفًا محبًّا لأهله رفيقًا بأقربائه حفيًّا بعشيرته انتصر بالألفة على أعاديه، وامتنع بالإحسان من حاسديه، فسلمت له نعمته، وصفت له معيشته، فيجتمع عليه الشمل، ويمتنع عنه الذل، وخير الناس أنفعهم للناس. ولقد علم العقلاء والحكماء وأصحاب المروءات أن تعاطف ذوي الأرحام وتوادّ أهل القربى يبعث على التناصر والألفة، ويُجنّب التخاذل والفرقة.

النفس الرحيمة الواصلة الكريمة الباذلة يورث الله لها ذكرًا حسنًا في الحياة وبعد الممات، الألسن تلهج بالثناء، والأيدي تمتد بالدعاء. تعيش بين الناس بذكرها وذكراها أمدًا طويلاً، يبارك لها في الحياة فتكون حافلة بجليل الأعمال وجميل الفعال وعظيم المنجزات وكثرة الآثار. من وصل أقاربه أحبّه الله وأحبّه الناس، ووضع له الذكر والقبول. وجُبِلت النفوس على حبّ من أحسن إليها، ألم تقل الرحمُ وهي متعلقة بعرش الرحمنِ: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله؟! وقال لها رب العزّة في الحديث القدسي: ((من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته))، وإنكم لتعلمون أن من وصله الله فلن ينقطع أبدًا، ومن قطعه الله فلن ينفعه أحد من الخلق كائنًا من كان.

إن من صلة الرحم أن تغفر الهفوة وتستر الزلة، فأي صارم لا ينبو؟! وأي جواد لا يكبوا؟! وما العقل والفضل والنبل إلا أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وتحلم على من جهل عليك. ويزداد النبل ويعظم الفضل وتسمو النفس حين تحسن الظن بهم، وتحمل أخطاءهم على المحمل الحسن، وتنظر في عثراتهم نظر العاذر الكريم.

اسمع ـ رعاك الله ـ إلى هذه القصة التي تنضح نُبلاً وشرفًا: حُكي عن بنت عبد الله بن مطيع أنها قالت لزوجها طلحة بن عبد الرحمن بن عوف، وكان أجود قريش في زمانه، قالت: يا طلحة، ما رأيت قومًا ألأمَ من إخوانك، قال: ولم ذاك؟! قالت: أراهم إذا أيسرتَ وكثر مالك زاروك ولزموك، وإذا أعسرت تركوك، قال: هذا والله من كرمهم، يأتوننا في حال القوة بنا عليهم، ويتركوننا في حال الضعف بنا عنهم.

فانظروا كيف تأوَّل بكرمه هذا التأويل، وفسّر بنبيل أخلاقه هذا التفسير، حتى جعل قبيح فعلهم حسنًا، وظاهر غدرهم وفاءً. وهذا محض الكرم ولباب الفضل، وبمثل هذا يلزم ذوي الفضل أن يتأوّلوا الهفوات، ويمحوا الزلات من إخوانهم وأرحامهم وأصهارهم، إنه تغافل مع فطنة، وتآلف صادر عن وفاء. وعلاقات الرحم ووشائج القربى لا تستقيم ولا تتوثق إلا بالتغافل، فمن شدّد نفَّر، ومن تغاضى تآلف، والشرف في التغافل، وسيد قومه المتغابي.

أين طلحة بن عبد الرحمن في هذه القصة من أناس ماتت عواطفهم وغلب عليهم لؤمهم؟! فلا يلتفت إلى أهل، ولا يسأل عن قريب، ولا يود عشيرة، إن قرُبوا أقصاهم، وإن بعدوا تناساهم، بل يبلغ به اللؤم أن يقرب أصحابه وزملاءه، ويجفو أهله وأقرباءه، يُحسِن للأبعدين، ويتنكّر للأقربين، بطون ذوي رحمه جائعة، وأمواله في الأصدقاء والصِحاب ضائعة. تراه يحاسب لهفوة صغيرة، ويقطع رحمه لزلة عابرة، إما بسبب كلمة سمعها أو وشاية صدّقها أو حركة أساء تفسيرها.

معاذ الله عباد الله، ربما كان بين الإخوة والأقارب من القطيعة ما يستحقون به لعنة الله من فوق سماواته، اقرؤوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَـٰرَهُمْ [محمد:23]، نعم يستحقون اللعنة، وتحل بهم النقمة، وتزول عنهم النعمة. والجنة تبلغ ريحها خمسمائة عام، ولا يجد ريحها عاقّ ولا قاطع رحمٍ.

من لم يصل رحمه ويتعاهد بخيره أقاربه فلا خير فيه ولا نفع منه، من ذا الذي قد فاض ماله يأكل ويشرب ويكتسي ويتمتّع وأقاربه الضعفاء عراة جائعون ورحمه البؤساء مهملون ضائعون؟!

ألم تعرفوا أنه من شريف خصال نبيكم محمد وخصاله كلها شريفه، ألم تقرؤوا نعت خديجة لحبيبها محمد : (كلا والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتحمل الكَلّ، وتصل الرحم، وتقْرِي الضيف، وتُكسِب المعدوم، وتُعين على نوائب الحق)، صلة كريمة تحوطها السماحة، ويظللها الحلم، ويحيط بها العفو، ويحكمها ضبط النفس. حسن معاملة تعلو بها المراتب، ويكثر بها الأحباب، وتستجلب بها المودّات، وتحسن بها العواقب.

فحذار حذار ـ رحمكم الله ـ من التساهل مع أحق الناس بحسن صحبتكم، وإياكم إياكم أن تتضارفوا وتتكايسوا مع الأبعدين وتنسوا الأقربين، فإنكم إن فعلتم غَبنتم أنفسكم وظلمتم الحق الذي عليكم، وقد علمتم أن تقطيع الأرحام يهدم كيان الأسرة، ويزلزل أركان العشيرة، ويجعل أفرادها مرتعًا للفتن ونهبًا للأحقاد وفريسة للتمزّق.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم…

 

الخطبة الثانية
أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، وصلوا ما أمر الله به أن يوصل من حقوقه وحقوق عباده، صِلُوا أرحامكم، والأرحام والأنساب هم الأقارب، وليسوا كما يفهم بعض الناس أقارب الزوج أو الزوجة، فإن أقارب الزوج أو الزوجة هم الأصهار، فأقارب زوج المرأة أصهار لها وليسوا أنسابًا لها ولا أرحامًا، وأقارب زوجة المرء أصهار له، وليسوا أرحامًا له ولا أنسابًا. إنما الأرحام والأنساب هم أقارب الإنسان نفسه كأمه وأبيه وابنه وبنته، وكل من كان بينه وبينه صلة من قِبَل أبيه أو من قبل أمه أو من قبل ابنه أو من قبل ابنته.

صلوا أرحامكم بالزيارات والهدايا والنفقات، صلوهم بالعطف والحنان ولين الجانب وبشاشة الوجه والإكرام والاحترام وكل ما يتعارف الناس من صلة، إن صلة الرحم ذِكْرى حسنة وأجر كبير، إنها سبب لدخول الجنة وصلة الله للعبد في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم قول الله تعالى: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:19-24]. وفي الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري أن رجلاً قال: يا رسول الله، أخبرني بما يدخلني الجنة ويباعدني من النار، فقال النبي : ((لقد وُفّق ـ أو قال: ـ لقد هُدي، كيف قلت؟)) فأعاد الرجل، فقال النبي : ((تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل ذا رحمك))، فلما أدبر قال النبي : ((إن تمسك بما أمرته به دخل الجنة)).

وأعظم القطيعة قطيعة الوالدين، ثم من كان أقرب فأقرب من القرابة، ولهذا قال النبي : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) ثلاث مرات، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله وعقوق الوالدين)).

إن من الناس من لا ينظر إلى أقاربه نظرة قريب لقريبه، ولا يعاملهم معاملة تليق بهم، يخاصمهم في أقل الأمور، ويعاديهم في أتفه الأشياء، ولا يقوم بواجب الصلة، لا في الكلام ولا في الفعال ولا في بذل المال، تجده ثريًّا وأقاربه محاويج، فلا يقوم بصلتهم، بل قد يكونون ممن تجب نفقتهم عليه لعجزهم عن التكسب وقدرته على الإنفاق عليهم فلا ينفق، وقد قال أهل العلم: كل من يرث شخصًا من أقاربه فإنه يجب عليه نفقته إذا كان محتاجًا عاجزًا عن التكسب وكان الوارث قادرًا على الإنفاق؛ لأن الله تعالى يقول: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة:233]، أي: مثل ما على الوالد من الإنفاق، فمن بخل بما يجب عليه من هذا الإنفاق فهو آثم محاسب عليه يوم القيامة سواء طلبه المستحق منه أم استحيا وسكت.

فيا عباد الله، يا من آمنوا بالله ورسوله، انظروا في حالكم، انظروا في أقاربكم، هل قمتم بما يجب لهم عليكم من صلة؟! هل ألنتم لهم الجانب؟! هل أطلقتم الوجوه لهم؟! وهل شرحتم الصدور عند لقائهم؟! هل قمتم بما يجب لهم من محبة وتكريم واحترام؟! هل زرتموهم في صحتهم؟! وهل عدتموهم في مرضهم؟! هل بذلتم ما يجب بذله لهم من نفقة وسداد حاجة؟!

هذا، وصلّوا وسلّموا على خير البريّة وهادي البشريّة

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى