1ـ فإن الله تعالى قد أثنى على أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم خيراً، وذكرهم بما فيهم من المناقب والفضائل؛ حيث اختارهم لصحبة نبيه ونصرة دينه؛ فكانوا أبرَّ هذه الأمة قلوباً وأعمقها هدياً وأقلها تكلفاً؛ جاهدوا في الله حق جهاده بالنفس والمال واللسان؛ آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، وكان الله ورسوله أحب إليهم مما سواهما، وكانوا هم الجديرين بوصف الله لهم {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} وهم الموعودون بتلك الصفات العظيمة {فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم}
2ـ ووقفةُ اليوم مع علَم من أعلام هذه الأمة، ورجلٍ من خِيرة رجالاتها، صائم إذا ذكر الصّائمون، وقائم إذا ذكِر القائمون، وبطَل مِغوار إذا ذكِر المجاهدون. إذا ذكر الخوف قيل: كان له خطّان أسودان من البكاء، وإذا ذكر الزّهد والإيثار قيل: لم يكن يأكل حتى يشبَع المسلمون، وإذا ذكِرت الشدّة في الحق قيل: هو الذي كان إبليس يفرق من ظلّه، والشياطين تسلُك فجًّا غيرَ فجِّه. 3ـ أسلم عمر فأعزّ الله به الإسلام، وهاجر جهرًا، وشهِد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً وأحدًا والمشاهد كلَّها، وهو أوّل خليفة دعِي بأمير المؤمنين، وأوّل من كتب التاريخ للمسلمين، وأوّل من جمع القرآن في المصحف، وأوّل من جمع الناس على صلاةِ التراويح، وأوّل من طاف بالليل يتفقّد أحوالَ المسلمين، حمل الدّرّة فأدّب بها، وفتح الفتوحَ، ووضع الخراجَ، ومصَّر الأمصار، واستقضَى القضاة، ودوّن الديوَان، وفرض الأُعطية، وحجّ بأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر حجّةٍ حجّها. 4ـ ثبتت في فضله النصوص والآثار، ونوه بذكره نبينا المختار، وتحدث عن مناقبه الصالحون الأخيار، وهذا قليل من كثير: o قال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “بينما أنا نائم أتيت بقدح من لبنٍ، فشربت منه حتى إني لأرى الرِّيّ يجري في أظفاري، ثم أعطيت فضلِي عمرَ”، قالوا: فما أولتَ ذلك؟ قال: “العلم”. o وعن سعد بن أبي وقاص قال النبي عليه الصلاة والسلام لعمر “ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا وسلك فجاً آخر” o وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه عقبة بن عامر “إن يكن في أمتي محدَّثون فإن منهم عمر، ولو كان بعدي نبي لكان عمر” o قال ابن مسعود: إذا ذكِر الصالحون فحيّهلا بعمر، إنّ عمرَ كان أعلمنا بكتاب الله، وأفقهنا في دين الله، كان عمر شديد الخوف من ربّه، عظيم الخشية له، وكان يقول: “لو مات جديٌ بطفّ الفرات لخشيت أن يحاسب الله به عمر”. o وعن عبد الله بن عامر قال: رأيت عمر بن الخطاب أخد تِبنة من الأرض فقال: ليتني كنتُ هذه التّبنة، ليتني لم أُخلق، ليت أمّي لم تلِدني، ليتني لم أكن شيئًا، ليتني كنت نِسيا منسيًّا. o وقال الحسن: كان عمر يمرّ بالآية من ورده فيسقطُ حتى يعاد منها أيامًا. o عرَف عمر ربَّه، وعرف قدرَ نفسه، فتواضع لله، فرفَع الله ذكرَه وأعلى شأنه، قال عبيد الله بن عمر بن حفص: إنّ عمر بن الخطاب حمل قربةً على عنقه فقيل له في ذلك فقال: إنّ نفسي أعجبتني فأردتُ أن أذلَّها. ولما قالت له امرأة: هيه يا ابن الخطاب: عهدتك في سوق عكاظ ترعي الغنم بعصاك؛ وأنت تدعى عميرا، ثم لم تمض الأيام حتى دعيت عمر، ثم لم تمض الأيام حتى صرت أمير المؤمنين فاتق الله يا عمر؛ فلما نهرها بعض الناس وقالوا لها: مه أغلظت على أمير المؤمنين!! قال لهم عمر: دعوها فهذه خولة بنت ثعلبة التي سمع الله قولها من فوق سبع سماوات؛ فعمر أحرى أن يسمع لها. 5ـ بويع بالخلافة فكان سيفًا على أهل الباطل شديدًا عليهم، وسندًا لأهل الحقّ ليِّنا معهم، قام على الأرامل والأيتام، فقضى لهم الحاجات، وفرّج عنهم الكربات، ومن أخباره التي تروى وكأنها قصص خيال لا في عالم الناس: · روي أن عمر لما رجع من الشام إلى المدينة انفرد عن الناس ليتفقّد أحوالَ الرعية، فمرّ بعجوزٍ في خِباء لها فقصدها، فقالت: يا هذا، ما فعل عمر؟ قال: قد أقبل من الشام سالمًا، فقالت: لا جزاه الله خيرا، قال: ولم؟ قالت: لأنّه ـ والله ـ ما نالني من عَطائه منذ تولّى أمرَ المسلمين دينارٌ ولا درهم، قال: وما يدرِي عمر بحالِك وأنت في هذا الموضع؟! فقالت: سبحان الله! والله ما ظننت أن أحدًا يلي على النّاس ولا يدري ما بين مشرِقها ومغرِبها، فبكى عمر وقال: واعمراه، كلّ أحدٍ أفقه منك يا عمر، حتى العجائز. ثم قال لها: يا أمةَ الله، بكم تبيعيني ظلامَتك من عمَر، فإني أرحمه مِنَ النّار، فقالت: لا تستهزئ بنا يرحمك الله، فقال: لست بهزّاء، فلم يزل بها حتى اشتَرَى ظلامتَها بخمسةٍ وعشرين دينارا. فبينما هو كذلك إذ أقبل عليّ بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما فقالا: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فوضعَت العجوز يدَها على رأسها وقالت: واسوأتاه! شتمتُ أميرَ المؤمنين في وجهِه، فقال لها عمر: ما عليك يرحمك الله، ثم طلب رقعةً من جِلد يكتب عليها فلم يجد، فقطع قطعة من مرقعته وكتب فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما اشترى به عمر من فلانة ظلامتها منذ ولي إلى يوم كذا وكذا بخمسة وعشرين دينارا، فما تدّعي عند وقوفه في الحشر بين يدَي الله تعالى فعمر منه بريء. شهد على ذلك عليٌّ وابن مسعود)، ثم دفع الكتاب إلى أحدهما وقال: إذا أنا متّ فاجعله في كفني ألقى به ربي. فرحم الله عمر، جمعت له الدنيا فأعرض عنها وزهد فيها، قال معاوية: أما أبو بكر فلم يرد الدنيا ولم ترده، وأما عمر فأرادته الدنيا ولم يرِدها. قال قتادة: كان عمر يلبس وهو خليفة جبّةً من صوف مرقوعا بعضها. · وعن أبي عثمان النهدي قال: رأيت عمر يطوف بالبيت وعليه جبّة صوف فيها اثنَتا عشرة رقعة. · وجيء بمال كثير من العراق فقيل: أدخِله بيت المال، فقال: لا وربّ الكعبة، لا يُرى تحت سقفه حتى أقسمه بين المسلمين، فجعل بالمسجد وحرسه رجال من المهاجرين والأنصار، فلما أصبح نظر إلى الذهب والفضة والياقوت والزبرجد والدرّ يتلألأ فبكى، فقال له العباس: يا أمير المؤمنين، ما هذا بيوم بكاء، ولكنه يوم بشرى، فقال: والله، ما ذهبتُ حيث ذهبتَ، ولكنه ما كثر هذا في قوم قطّ إلا وقع بأسهم بينهم، ثم أقبل على القبلة فقال: اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرَجا، فإني أسمعك تقول: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} · ولما ذهب إلى الشام ليستلم مفاتيح بيت المقدس ذهب وثوبه مرقع ومعه حمار يتناوب ركوبه هو غلامه، وجاء عليه الدور ليمشي عند الوصول فأصر على أن يدخل على وجهاء الشام ماشياً وغلامه راكب. · ولما قدم وفد المسلمين ومعهم الهرمزان – وكان قائداً من قواد كسرى – دخلوا على عمر وقد نام في المسجد وتوسد برنساً كان قد أعده لاستقبال الوفد فجعل الهرمزان يقول: أين عمر؟ قالوا: هو ذا ويخفضون أصواتهم لئلا ينبهوه، وجعل الهرمزان يقول: أين حُجّابه؟ وأين حرسه؟ قالوا: ليس له حجاب ولا حرس ولا كاتب، فقال: هذا ينبغي أن يكون نبياً، فقالوا: إنه يعمل بعمل الأنبياء، وقد أسلم بسبب ذلك الهرمزان. · وروِي أنّه كان يقسِم شيئا من بيت المال فدخَلت ابنةٌ له صغيرة فأخذت دِرهما، فنهض في طلبها حتى سقطت مِلحفته عن منكبَيه، ودخلت الصّبيّة إلى بيت أهلها تبكي، وجعلت الدرهم في فمها، فأدخل عمر أصبعه في فمها فأخرج الدرهم وطرحه مع مال المسلمين. · ولما أصاب الناس هولُ المجاعة والقَحط في عهد عمر كان لا ينام الليل إلا قليلا، وما زال به الهمّ حتى تغيّر لونه وهزل، وقال من رآه: لو استمرّت المجاعة شهورا أخرى لمات عمر من الهمّ والأسى. · وجاءته يومًا قافلة من مصر تحمل اللحم والسّمنَ والطعام والكِساء، فوزّعها على الناس بنفسه وأبى أن يأكل شيئا، وقال لقائد القافلة: ستأكل معي في البيت، ومنَّى الرجل نفسَه وهو يظنّ أن طعام أمير المؤمنين خير من طعام الناس. وجاء عمر والرجل إلى البيت جائعَين بعد التّعب، ونادى عمر بالطعام فإذا هو خبز مكسّر يابس مع صحنٍ من الزيت، فاندهش الرجل وتعجّب، وقال: لِمَ منعتني من أن آكل مع الناسِ لحمًا وسمنا؟! فقال عمر: ما أطعمك إلا ما أطعم نفسي، فقال الرجل: وما يمنعك أن تأكل كما يأكل الناس وقد وزّعتَ اللحم والطعامَ عليهم؟! قال عمر: لقد آليتُ على نفسي ألا أذوقَ السمن واللحم حتى يشبعَ منهما المسلمون جميعا. · ومن ورعه وتقشّفه رضي الله عنه ما روِي من أنّ امرأته اشتهَت الحلوى، فادّخرت لذلك من نفقةِ بيتها حتى جمعَت ما يكفي لصنعها، فلمّا بلغ عمرَ ذلك ردّ ما ادّخرته إلى بيت المال وأنقص من النفقة بقدرِ ما ادّخرت. 6ـ لا زالت الدنيا ترزى بموت الأخيار، وتبلى بوفاة الأطهار، وتأتي نهاية عمر بالموت كما هو سبيل كل حي سوى الله؛ فبينما عمر يصلي بالناس صلاة الفجر إذ طعنه أبو لؤلؤة المجوسي، وطعن معه ثلاثة عشر رجلاً؛ فقال عمر: قتلني الكلب؛ وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه ليتم الصلاة؛ وأهل المسجد لا يدرون ما يجري إلا من كان خلف عمر؛ غير أنهم فقدوا صوت عمر، وهم يقولون: سبحان الله! سبحان الله! فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة، فلما انصرفوا قال عمر: يا ابن عباس، انظر من قتلني؛ فذهب ابن عباس ثم عاد فقال: قتلك غلام المغيرة، قال عمر: قاتله الله، لقد أمرت به معروفاً، الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدَّعي الإسلام، فاحتمل إلى بيته فانطلقنا فانطلَقنا معه وكأن الناس لم تصِبهم مصيبة قبل يومئِذ، فقائل يقول: لا بأس، وقائل يقول: أخاف عليه، فأتي بنبيذ فشربه فخرج من جوفه، ثم أتي بلبن فشربه فخرج من جرحه، فعلموا أنه ميّت، فدخلنا عليه وجاء الناس يثنون عليه، وجاء رجل شابّ فقال: أبشر ـ يا أمير المؤمنين ـ ببشرى الله لك من صحبة رسول الله وقدمٍ في الإسلام ما قد علمت، ثمّ ولِّيتَ فعدَلت، ثم شهادة، قال عمر: ودِدتُ أنّ ذلك كفاف، لا لي ولا عليّ، فلما أدبر الشابّ إذا إزاره يمسّ الأرض، فقال عمر: ردّوا عليّ الغلام، قال: ابن أخي، ارفع ثوبك، فإنه أبقى لثوبك وأتقى لربك. ثم دعا ابنه عبد الله فأمره أن يقضيَ ما عليه من الديون، ثم أمره أن ينطلقَ إلى عائشة ليستأذنها في أن يدفَنَ مع صاحبَيه، فأذنت له وآثرته بالمكان على نفسها، فلمّا رجع عبد الله وأخبر عمر الخبر قال عمر: إن أنا قضيتُ فاحملوني ثم سلّم فقل: يستأذنُ عمر بن الخطاب، فإن أذِنت فأدخلوني، وإن ردّتني ردّوني إلى مقابر المسلمين. قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: أنا آخركم عهدا بعمَر، دخلتُ عليه ورأسُه في حجر ابنه عبد الله، فقال له: ضع خدي على الأرض، فقال عبد الله: فهل فخذي والأرض إلا سواء؟! فقال عمر: ضع خدّي بالأرض لا أمّ لك، وسمعتُه يقول: ويلي وويلَ أمّي إن لم تغفِر لي حتى فاضَت نفسه. هذا هو عمر الذي عجَزت نساء الدنيا أن يلدنَ مثله، وقصرت أرحامهن أن تخرج للأرض رجلا على شاكلته. ما بلغ عمر وأصحابُه ما بلغوا إلاّ بهذا الدين الذي أعزّهم الله به، ومن أراد أن يدرك الركبَ فليأخذ بما أخذوا، وليلتَزم ما التزموا، ومن يفعَل ذلك فقد هدِي إلى صراط مستقيم. عباد الله: فتشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم إنّ التشبّهَ بالكرام فلاح |