خطب الجمعة

وليعفوا وليصفحوا

خطبة يوم الجمعة 8/8/1438 الموافق 5/5/2017

1/ في كتاب الله عز وجل الأمر بالعفو وبيان مزيته وشرفه وأن أهله هم الفائزون

  • العفو عن الناس سبيل إلى الجنة {وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
  • وقد أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسـلم فقال له {فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}
  • وأمر به نبيه صلى الله عليه وسـلم في معاملة أهل الكتاب الظالمين فقال له {فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
  • وهو كذلك في معاملة الناس ممن أخطئوا علينا أو أساؤوا إلينا فقال سبحانه {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُور}
  • بل حتى مع الأزواج والأولاد يقول سبحانه {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}

2/ وهذا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسـلم كان العفو دينه وديدنه ولحمته وسداه وهديه وخلقه، ومن ذلك:

  • عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما أنّ عطاء بن يسار سأله أن يخبره عن صفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في التّوراة، قال: أجل. واللّه إنّه لموصوف في التّوراة ببعض صفته في القرآن: {يا أيّها النّبيّ إنّا أرسلناك شاهداً ومبشّراً ونذيراً وحرزاً للأمّيّين، أنت عبدي ورسولي سمّيتك المتوكّل، ليس بفظّ ولا غليظ ولا سخّاب في الأسواق، ولا يدفع بالسّيّئة السّيّئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه اللّه حتّى يقيم به الملّة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلّا اللّه، ويفتح بها أعين عمي وآذان صم وقلوب غلف}
  • وها هو صلوات ربي وسلامه عليه يبيِّن لنا عاقبة العفو؛ فيخبرنا أن العفو سبيل العز فيقول (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد اللّه عبدا بعفو إلّا عزّا، وما تواضع أحد للّه إلّا رفعه اللّه)
  • والعفو سبب النجاة يوم القيامة؛ فعن حذيفة رضي اللّه عنه قال: أتي اللّه تعالى بعبد من عباده آتاه اللّه مالا، فقال له: ماذا عملت في الدّنيا؟ قال: ((وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً)). قال: يا ربّ آتيتني مالك، فكنت أبايع النّاس، وكان من خلقي الجواز فكنت أتيسّر على الموسر وأنظر المعسر. فقال تعالى: أنا أحقّ بذا منك، تجاوزوا عن عبدي». فقال عقبة بن عامر الجهنيّ وأبو مسعود الأنصاريّ رضي اللّه عنهما: هكذا سمعناه من في رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.

3/ وأما تطبيق ذلك في حياته عليه الصلاة والسلام فمما يجلُّ عن الحصر، لكن من باب التمثيل والتذكير:

  • عن أنس رضي اللّه عنه قال: كنت أمشي مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وعليه برد نجرانيّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيّ، فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وقد أثّرت بها حاشية الرّداء من شدّة جبذته، ثمّ قال: يا محمّد! مر لي من مال اللّه الّذي عندك، فالتفت إليه، فضحك، ثمّ أمر له بعطاء.
  • عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: ما ضرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم شيئاً قطّ بيده، ولا امرأة ولا خادما إلّا أن يجاهد في سبيل اللّه، وما نيل منه شيء قطّ فينتقم من صاحبه إلّا أن ينتهك شيء من محارم اللّه تعالى، فينتقم للّه عزّ وجلّ.
  • عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما أنّه غزا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قبل نجد، فلمّا قفل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قفل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وتفرّق النّاس يستظلّون بالشّجر فنزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تحت شجرة وعلّق بها سيفه ونمنا نومة، فإذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يدعونا، وإذا عنده أعرابيّ. فقال: «إنّ هذا اخترط عليّ سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا»، فقال: من يمنعك منّي؟ فقلت: «اللّه» (ثلاثا) ولم يعاقبه وجلس.
  • عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء صلوات الله عليه وسلامه عليهم ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدّم عن وجهه ويقول: «ربّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون».

4/ وكان العفو هدي الصحابة رضي الله عنهم ودينهم وديدنهم؛ ومن ذلك:

  • الصديق أبو بكر رضي الله عنه يستجيب لأمر ربه جل جلالـه حين قال {وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
  • وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعفو عن عيينة بن حصن الفزاري حين أساء الأدب وأطال اللسان فما زاد عمر رضي الله عنه أن وقف مع التذكرة في قوله سبحانه {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}
  • وهذا ابن مسعود رضي الله عنه جلس في السّوق يبتاع طعاماً فابتاع، ثمّ طلب الدّراهم وكانت في عمامته فوجدها قد حلّت، فقال: لقد جلست وإنّها لمعي، فجعلوا يدعون على من أخذها ويقولون: اللّهمّ اقطع يد السّارق الّذي أخذها، اللّهمّ افعل به كذا، فقال عبد اللّه: (اللّهمّ إن كان حمله على أخذها حاجة فبارك له فيها، وإن كان حملته جراءة على الذّنب فاجعله آخر ذنوبه)

5/ أيها المسلمون: بين أيدينا ليلة عظيمة فضلها جليل وثوابها جزيل، لكن لا يفوز فيها إلا الموفقون؛ وهي ليلة النصف من شعبان؛ فإن من فضائلها غفران الذنوب فيها؛ قال صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللَه تَعَالَى لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ) رواه ابن ماجه من حديث معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما وحسَّنه الألباني. مشاحن: أي مخاصم لمسلم أو مهاجر له. اغتنموا تلك الليلة وفقكم الله، ليعف بعضكم عن بعض، ليسامح بعضكم بعضا، ليصفح بعضكم عن بعض؛ فالجزاء من جنس العمل ولا يظلم ربك أحدا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى