1ـ الثبات على دين الله عز وجل مطلب الصالحين وأمل المتقين؛ خاصة في أزمنة الفتن وتقلب الدنيا بأهلها، وقد كان في تاريخ هذه الأمة رجال مؤمنون ونساء مؤمنات ثبت الله بهم أهل الإيمان، وعلى رأس هؤلاء الصديق أبو بكر رضي الله عنه؛ ذاك الذي كان جبلاً شامخاً وطوداً راسخاً تكسرت عليه كل أنواع الفتن، وكانت أعظم فتنة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى قال أنس رضي الله عنه (ما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت يوماً قط كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم) ويقول رضي الله عنه: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسـلم المدينة يوم الاثنين ضحىً فأنار منها كل شيء، وتوفي يوم الاثنين ضحى فأظلم منها كل شيء؛ وما أن نفضنا أيدينا من تربته حتى أنكرنا قلوبنا) وحتى قال أبو سفيان بن الحارث رضي الله عنه:
لقد عظمت مصيبتنا وجلت عشية قيل قد قبض الرسول
وأضحت أرضنا مما عراها تكاد بنا جوانبها تميل
فقدنا الوحي والتنزيل فينا يروح به ويغدو جبرئيل
وذاك أحقُّ ما سالت عليه نفوس الناس أو كادت تسيل
نبيٌّ كان يجلو الشك عنا بما يوحَى إليه وما يقول
ويهدينا فلا تخشى ضلالاً علينا والرسولُ لنا دليل
أفاطمُ إن جزعت فذاك عذر وإن لم تجزعي ذاك السبيل
فقبر أبيك سيد كل قبر وفيه سيد الناس الرسول
2ـ إن الثبات على الدين أمر لا بد أن يحرص عليه كل مسلم؛ فإن بعض المسلمين إذا تمسك بالدين والتزم بشعائره ثم سمع استهزاء المستهزئين أو احتقار التافهين أو سمع فتنة المهتدين؛ خارت قواه وضعفت عزيمته وفترت همته، وطاوع الفاسقين على ما يريدون، ولو أنه تدبر ما أصاب الذين من قبله لعلم أنه ليس وحده في الميدان {ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} {إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون @ وإذا مروا بهم يتغامزون @ وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين @ وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون}
3ـ ما هي وسائل الثبات على دين الله أيها المسلمون عباد الله؟
أولاً: الإقبال على القرآن: القرآن العظيم وسيلة التثبيت الأولى وهو حبل الله المتين، والنور المبين، من تمسك به عصمه الله ومن اتبعه أنجاه الله، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم. فقد نص الله على أن وظيفة هذا الكتاب والغاية التي من أجلها أنزله منجّماً مفصلاً هي التثبيت، فقال تعالى في معرض الرد على شُبه الكفار: {وقَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ورَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً. ولا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وأَحْسَنَ تَفْسِيراً} كيف يكون القرآن مصدراً للتثبيت؟!
لأنه يزرع الإيمان ويزكي النفس بالصلة بالله.
* لأن تلك الآيات تنزل برداً وسلاماً على قلب المؤمن الذي تعصف به رياح الفتنة، فيطمئن قلبه بذكر الله.
* لأنه يزود المسلم بالتصورات والقيم الصحيحة التي يستطيع من خلالها أن يقوّم الأوضاع من حوله، وكذا الموازين التي تهيئ له الحكم على الأمور فلا يضطرب حكمه ولا تتناقض أقواله باختلاف الأحداث والأشخاص.
* إنه يرد على الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين كالأمثلة الحية التي عاشها الصدر الأول.
ثانياً: التزام شرع الله والعمل الصالح: قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ ويُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ويَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} قال قتادة: أما في الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح وفي الآخرة في القبر. وقال سبحانه: {ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً} أي على الحق.
ثالثاً: تدبر قصص الأنبياء ودراستها للتأسي والعمل: والدليل على ذلك قوله تعالى: {وكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ ومَوْعِظَةٌ وذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} لو تأملت قول الله عز رجل: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وسَلاماً عَلَى إبْرَاهِيمَ (69) وأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} قال ابن عباس: كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار: (حسبي الله ونعم الوكيل).
لو تدبرت قول الله عز وجل في قصة موسى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إنَّا لَمُدْرَكُونَ. قَالَ كَلاَّ إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} ألا تحس بمعنى آخر من معاني الثبات عند ملاحقة الظالمين، والثبات في لحظات الشدة وسط صرخات اليائسين وأنت تتدبر هذه القصة؟
لو استعرضت قصة سحرة فرعون ذلك المثل العجيب للثلة التي تثبت على الحق بعدما تبين، ألا ترى أن معنى عظيماً من معانى الثبات يستقر في النفس أمام تهديدات الظالم وهو يقول: {قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ ولأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ولَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وأَبْقَى} ثبات القلة المؤمنة الذي لا يشوبه أدنى تراجع وهم يقولون: {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ والَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا}
وهكذا قصة المؤمن في سورة يس ومؤمن آل فرعون وأصحاب الأخدود وغيرها يكاد الثبات يكون أعظم دروسها قاطبة.
رابعاً: الدعاء؛ فمن صفات عباد الله المؤمنين أنهم يتوجهون إلى الله بالدعاء أن يثبتهم: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا} {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وثَبِّتْ أَقْدَامَنَا}
خامساً: ذكر الله؛ وهو من أعظم أسباب التثبيت وتأمل هذا الاقتران بين الأمرين في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا واذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} فجعله الله من أعظم ما يعين على الثبات في الجهاد.
وبماذا استعان يوسف عليه السلام في الثبات أمام فتنة المرأة ذات المنصب والجمال لما دعته إلى نفسها، ألم يدخل في حصن {معاذ الله} فتكسرت أمواج جنود الشهوات على أسوار حصنه؟
سادساً: الحرص على أن يسلك المسلم طريقاً صحيحاً: والطريق الوحيد الصحيح الذي يجب على كل مسلم سلوكه هو طريق أهل السنة والجماعة طريق الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، ذو العقيدة الصافية والمنهج السليم واتباع السنة والدليل، والتميز عن أعداء الله ومفاصلة أهل الباطل.
سابعاً: التربية: التربية الإيمانية العلمية الواعية المتدرجة عامل أساسي من عوامل الثبات.
ثامناً: الثقة بالطريق: لا شك أنه كلما ازدادت الثقة بالطريق الذي يسلكه المسلم كان ثباته عليه أكبر …ولهذا وسائل منها:
– استشعار أن الصراط المستقيم الذي تسلكه ليس جديداّ ولا وليد قرنك وزمانك، وإنما هو طريق عتيق، قد سار فيه من قبل من الأنبياء والصديقين والعلماء والشهداء والصالحين، فتزول غربتك، وتتبدل وحشتك أُنساً، وكآبتك فرحاً وسروراً، لأنك تشعر بأن أولئك كلهم أخوة لك في الطريق والمنهج.
– الشعور بالاصطفاء، قال الله عز وجل: {الحَمْدُ لِلَّهِ وسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَذِينَ اصْطَفَى}، {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} {وكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ويُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} وكما أن الله اصطفى الأنبياء؛ فللصالحين نصيب من ذلك الاصطفاء وهو: ما ورثوه من علوم الأنبياء.
تاسعاً: الالتفاف حول العناصر المثبتة: تلك العناصر التي من صفاتها ما أخبرنا به عليه الصلاة والسلام: (إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر).
البحث عن العلماء والصالحين والدعاة المؤمنين، والالتفاف حولهم معينٌ كبير على الثبات، حتى قال بعض السلف: ثبَّت الله المسلمين برجلين: أبي بكر يوم الردة، وأحمد يوم المحنة).
وهنا تبرز الأخوة الإسلامية كمصدر أساسي للتثبيت، فإخوانك الصالحون هم العون لك في الطريق، والركن الشديد الذي تأوي إليه؛ فيثبتونك بما معهم من آيات الله والحكمة …
عاشراً: الثقة بنصر الله وأن المستقبل للإسلام: نحتاج إلى الثبات كثيراً عند تأخر النصر، حتى لا تزل الأقدام بعد ثبوتها. قال تعالى: {وكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ومَا ضَعُفُوا ومَا اسْتَكَانُوا واللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * ومَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ} ولما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يثبت أصحابه المعذبين أخبرهم بأن المستقبل للإسلام في أوقات التعذيب والمحن؛ فماذا قال؟ جاء في حديث خباب عند البخاري: (ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه).