1ـ فإن الدخول في الإسلام لا يكون إلا بكلمة التوحيد كلمة الإخلاص كلمة التقوى: لا إله إلا الله، وإن الثبات على هذا الدين لا يكون إلا بالثبات عليها؛ فعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال {عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار، فأكثروا منهما، فإن إبليس قال: أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بـ “لا إله إلا الله” والاستغفار؛ فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء، فهم يحسبون أنهم مهتدون}، وقال عليه الصلاة والسلام {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة} وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {قال موسى عليه السلام: يا رب علِّمني شيئا أذكرك به وأدعوك به؟ قال: يا موسى قل: لا إله إلا الله. قال يا رب كل عبادك يقول هذا!! قال: قل: لا إله إلا الله. قال: لا إله إلا أنت. يا رب إنما أريد شيئاً تخصني به. قال: يا موسى لو كان السماوات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله} قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال صلى الله عليه وسلم {من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات فكأنما أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل}
بلغ من فضل هذه الكلمة أن من نطق بها ثم مات كان من أهل الجنة وإن لم يتيسر له عمل خير قط قبل أن ينطق بها؛ روى ابن إسحاق والواقدي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصلِّ قط؛ وقال الواقدي: أخبروني برجل يدخل الجنة لم يسجد لله قط، فيسكت الناس، فيقول أبو هريرة رضي الله عنه هو أخو بني عبد الأشهل؛ وقال ابن إسحاق: فإذا لم يعرفه الناس سألوا: من هو؟ فيقول: أصيرم بني عبد الأشهل عمرو بن ثابت بن وقش رضي الله عنه؛ فقلت لمحمود بن لبيد: كيف كان شأن الأصيرم؟ قال: كان يأبى الإسلام على قومه، فلما كان يوم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد بدا له في الإسلام فأسلم، ثم أخذ سيفه فغدا حتى دخل في عرض الناس، فقاتل حتى أثبتته الجراحة، فبينما رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به، فقالوا: والله إن هذا للأصيرم! ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لمنكر بذا الحديث! فسألوه ما جاء به، فقالوا: ما جاء بك يا عمرو؟ أحدب على قومك أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله وبرسوله وأسلمت، ثم أخذت سيفي فغدوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قاتلت حتى أصابني ما أصابني. ثم لم يلبث أن مات في أيديهم، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال {إنه لمن أهل الجنة}
وقال موسى بن عقبة: جاء عبد أسود حبشي من أهل خيبر كان في غنم لسيده فلما رأى أهل خيبر قد أخذوا السلاح سألهم ما تريدون؟ قالوا: نقاتل هذا الذي يزعم أنه نبي؛ فوقع في نفسه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل بغنمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا تقول وما تدعو إليه؟ قال {أدعو إلى الإسلام وأن تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله وأن لا تعبد إلا الله} قال العبد: فما لي إن شهدت وآمنت بالله عز وجل؟ قال {لك الجنة إن مت على ذلك} فأسلم؛ ثم قال: يا نبي الله: إن هذه الغنم عندي أمانة! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم {أخرجها من عندك وارمها بالحصباء؛ فإن الله سيؤدي عنك أمانتك}ففعل؛ فرجعت الغنم إلى سيدها؛ فعلم اليهودي أن غلامه قد أسلم؛ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فوعظهم وحضهم على الجهاد؛ فلما التقى المسلمون واليهود قتل فيمن قتل العبد الأسود؛ فاحتمله المسلمون إلى معسكرهم؛ فأدخل في الفسطاط؛ فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع في الفسطاط ثم أقبل على أصحابه وقال {لقد أكرم الله هذا العبد وساقه إلى خير، ولقد رأيت عند رأسه اثنتين من الحور العين، ولم يصل لله سجدة قط} وفي رواية: أن رجلاً قال: يا رسول الله: إني رجل أسود اللون، قبيح الوجه، منتن الريح؛ لا مال لي؛ فإن قاتلت هؤلاء حتى أقتل أأدخل الجنة؟ قال: نعم؛ فتقدم فقاتل حتى قتل؛ فأتى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقتول فقال {لقد أحسن الله وجهك وطيب ريحك وكثر مالك} ثم قال {لقد رأيت زوجتيه من الحور العين ينزعان جبته عنه يدخلان فيما بين جلده وجبته}
2ـ هذه الكلمة مثلت إعلان ثورة على جبابرة الأرض وطواغيت الجاهلية، ثورة على كل الأصنام والآلهة المزعومة من دون الله: سواء أكانت شجراً أم حجراً أم بشراً. وكانت «لا إله إلا الله» نداءً عالمياً لتحرير الإنسان من عبودية الإنسان والطبيعة وكل من خلق الله وما خلق الله. وكانت «لا إله إلا الله» عنوان منهج جديد، ليس من صنع حاكم ولا فيلسوف، إنه منهج الله الذي لا تعنو الوجوه إلا له، ولا تنقاد القلوب إلا لحكمه، ولا تخضع إلا لسلطانه. وكانت «لا إله إلا الله» إيذاناً بمولد مجتمع جديد، يغاير مجتمعات الجاهلية، مجتمع متميز بعقيدته، متميز بنظامه، لا عنصرية فيه ولا إقليمية ولا طبقية، لأنه ينتمي إلى الله وحده، ولا يعرف الولاء إلا له سبحانه. وكان شعار المسلم الذي تعلمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم {اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك حاكمت، وإليك خاصمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت}
3ـ ولقد أدرك زعماء الجاهلية وجبابرتها ما تنطوي عليه دعوة «لا إله إلا الله» من تقويض عروشهم والقضاء على جبروتهم وطغيانهم وإعانة المستضعفين عليهم، فلم يألوا جهداً في حربها، وقعدوا بكل صراط يوعدون ويصدون عن سبيل الله من آمن ويبغونها عوجاً.
لقد كانت مصيبة البشرية الكبرى أن أناساً منهم جعلوا من أنفسهم أو جعل منهم قوم آخرون آلهة في الأرض أو أنصاف آلهة، لهم يخضع الناس ويخشعون، ولهم يركعون ويسجدون، ولهم ينقادون ويسلمون. لكن عقيدة التوحيد سمت بأنفس المؤمنين فلم يعد عندهم بشر إلهاً، ولا نصف إله، أو ثلث إله، أو ابن إله، أو محلاً حل فيه الإله! ولم يعد بشر يسجد لبشر أو ينحني لبشر أو يقبل الأرض بين يدي بشر، وهذا أصل الأخوة الإنسانية الحقة. وأصل الحرية الحقة، وأصل الكرامة الحقة، إذ لا أخوة بين عابد ومعبود، ولا حرية لإنسان أمام إله أو مدعي ألوهية، ولا كرامة لمن يركع أو يسجد لمخلوق مثله أو يتخذه حكماً من دون الله.
قال أبو موسى الأشعري: انتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلسه، وعمرو بن العاص عن يمينه وعمارة عن يساره والقسيسون جلوس سماطين وقد قال له عمرو وعمارة -وهما مندوبا مشركي قريش بمكة إلى النجاشي- إنهم لا يسجدون لك، فلما انتهينا بدرنا من عنده من القسيسين والرهبان: اسجدوا للملك، فقال جعفر بن أبي طالب: لا نسجد إلا لله!
فرغم أنهم مضطهدون ومهاجرون، وغرباء لاجئون، وهم في أرض هذا الملك وفي حوزته، أبوا أن يفرطوا في توحيدهم لحظة واحدة فيسجدوا لغير الله، وأعلنها جعفر كلمة أصبحت شعاراً لكل مسلم “لا نسجد إلا لله”
4ـ هذه الكلمة العظيمة أيها المسلمون ما معناها الذي ينبغي أن نعتقده ولا نحيد عنه؟ معناها أن الله تعالى إله واحد ليس له شريك، ولا له مثيل في ذاته أو صفاته أو أفعاله، وقد نطقت بذلك آيات الكتاب العزيز {قل هو الله أحد # الله الصمد # لم يلد # ولم يولد # ولم يكن له كفواً أحد} {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} {وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون} {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} {الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون} {الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى} {الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم} {الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه} {فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش العظيم} وكل ما في الكون من إبداع ونظام يدل على أن مبدعه ومدبره واحد، ولو كان وراء هذا الكون أكثر من عقل يدبر، وأكثر من يد تنظم، لاختل نظامه: واضطربت سننه، وصدق الله {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون} {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذن لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون # عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون} هو تعالى واحد في ربوبيته، فهو رب السموات والأرض ومن فيهن وما فيهن، خلق كل شيء فقدره تقديراً، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى، ولا يستطيع أحد من خلقه أن يدعي أنه الخالق أو الرازق أو المدبر لذرة في السماء أو في الأرض {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير} {وما ينبغي لهم وما يستطيعون} وهو تعالى واحد في ألوهيته، فلا يستحق العبادة إلا هو، ولا يجوز التوجه بخوف أو رجاء إلا إليه. فلا خشية إلا منه، ولا ذل إلا إليه، ولا طمع إلا في رحمته، ولا اعتماد إلا عليه، ولا انقياد إلا لحكمه. والبشر جميعاً – سواء أكانوا أنبياء وصديقين أم ملوكاً وسلاطين – عباد الله، لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، فمن ألَّه واحداً منهم، أو خشع له وحنى رأسه، فتجاوز به قدره؛ ونزل بقدر نفسه.
ومن ثم كانت دعوة الإسلام إلى الناس كافة وإلى أهل الكتاب خاصة {تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم إلا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله} ومحمد نبي الإسلام لم يقل القرآن عنه إلا أنه {رسول قد خلت من قبله الرسل} ولم يقل هو عن نفسه إلا أنه “عبد الله ورسوله” في الصحيح {لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ولكن قولوا عبد الله ورسوله} والأنبياء جميعاً ليسوا – في نظر القرآن – إلا بشراً مثلنا، اصطفاهم الله لحمل رسالته إلى خلقه، ودعوتهم إلى عبادته وتوحيده، ولهذا كان النداء الأول في رسالة كل واحد منهم {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} وفي هذا يقول القرآن {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} ومن الضلال المبين أن يزعم زاعم، أو يفتري مفتر على هؤلاء الأنبياء أن أحداً منهم دعا الناس إلى تأليهه أو تقديس شخصه {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون # ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً، أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون}